العدة- في معاني القوة
خالد علي أبا الخيل
1437/05/25 - 2016/03/05 13:39PM
العدة- في معاني القوة
التاريخ: الجمعة: 24/ جماد الأولى/ 1437 هـ
الحمد لله، الحمد لله ذي العزة والقوة، أحمده سبحانه أهل الحكمة والقدرة، أنزل على نبيه: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)[مريم:12]، وأشهد أن لا إله إلا الله، قال في محكم تنزيله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[البقرة:63]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بين تمايز المسلمين والمؤمنين بالضعف والقوة، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه- أهل الحزم والعزم والقوة، أما بعد.
فيا مسلمون: اتقوا الله وكونوا له من العابدين، ولتوحيده من المحققين، ولأوامره ونواهيه من الممتثلين.
عباد الله: خشية جميلة، وخلة جليلة تبعث النشاط، وتورث الحيوية والانضباط، مظهر من مظاهر الرجل الحقة، وعلامة بارزة على قوة الإيمان من ضعفه، تضبط الأوقات، وتحافظ على المكتسبات، وتسارع في العبادات، وتنافس في الطاعات، صاحبها في كل ميدان من المسابقين، وفي كل عبادة من المرابطين، وفي كل سهم من المساهمين، شعار الأنبياء ورمز الأولياء وسائقها وقائدها بلوغ جنة المأوى.
أعرفتموها؟ أم تحبون أن تعرفوها؟ إنها العدة في معاني القوة، إنه المؤمن القوي، القوة عباد الله ليس كما يظنها بعض الناس قوة بدن وعضلات وحمل وتحملات، أو قوة ماديات وحضارات، أو قوة الدنيا وإقبالها وإدبارها، أو قوة عدد وعُدد، ومواردها، أو قوة جاهٍ ومنصبٍ وتصنت وجبروت وظلم وتخبط، أو قوة مكر وكيد، وخداع.
ومن الناس من يظن أن القوة: التصنت على من تحته كمن يتقوى على زوجته وأبنائه وخدامه وعماله، وموظفيه في إدارته، ومن مفهوم القوة الخاطئة أن يركن إلى قوته في ماله وولده، ومنصبه ومكانته. وآخرون يظنون أن القوة في الظاهر وما فيها من المخابر كمن ينظر إلى قوة الكفار وأعتادهم وعددهم وسلاحهم.
كما أن هناك من يظن أن القوة قوة الجسمية وأمور مادية، ومنهم من يظن أن القوة التغلظ على الآخرين، وأكل أموالهم وهضمهم لحقوقهم ومخاصمتهم بالباطل.
القوة أيها الأمة: قوة المؤمن في عقيدته وأخلاقه، وآدابه وأعماله، في عبادته وتعاملاته، في إيمانه وطاعته لربه، إنما دار الصمود والبقاء على قوة الدين والنقاء، مدار القوة على قوة التوحيد، والتأصيل والتقعيد، مدار القوة على الامتثال وتطبيق الأفعال والأقوال، وقد أمر الله بقوة أنبيائه وعباده وأولياءه، فقال سبحانه لموسى -عليه السلام- (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)[الأعراف:145]، وقال لبني إسرائيل: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾[الأعراف:171]، ووصف بها نبيه داود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ)[ص:17]، الأيد أيد القوة في الدين، بل أمر بها يحي -عليه الصلاة والسلام- وهو في مهده وصباه: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[مريم:12]، كل ذلك لينشأ منذ نعومة أظفاره على القوة والعزم، والجد والحزم في دينه تمسكًا وانقياد عملًا وامتثالًا.
القوة قوة الإيمان، ففي مسلم عن ولد عدنان: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير)، فالمؤمن القوي يتحد الصعاب، ويقاوم نفسه وهواه، وشيطانه ودنياه:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلٌ
عفافٌ وإقدامٌ وحزم ونائلُ
القوة قوتان: قوة معنوية: وهي قوة البيان، والأخذ بالسنة والقرآن، والعمل بهما، والتمسك بهما، وتطبيقهما على أرض الواقع دون هوادة ولا تهاون، ولا تكاسل ولا عجز.
وقوة في المواجهة والمدافعة، وفي الإعداد والعدة، وهي قوة السنان أمام الأعداء والكفار الألداء كما قال المولى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)[الأنفال:60]، قوة في العدة والعدد، قوة في التفكير والمدد.
الأمة أيها الأمة، الأمة أيها الأمة لاسيما في هذه الأزمنة بحاجة إلى معاني القوة ظاهرة وباطنة، إيمانًا وسلوكًا، وقوةً وإعداد، وعلمًا، وعملًا، وعقلًا، وإدراكًا.
الأمة بحاجة إلى مؤمن قوي في عقيدته وثوابته، في علمه وعمله وتعامله، بحاجة إلى القوي في دعوته ودفاعه، في صدعه بالحق ووقوفه ورده الباطل ومنعه.
نحن بحاجة إلى قوة أمام سيل الشبهات، ودرء الفتن والملمات وكشف الأفكار والانحرافات، وإلى قوة في دفع الشهوات، والذنوب والسيئات، والمحن والمغريات.
المؤمن القوي إذا تكلم كان قويًا واثقًا، وإن ناقش كان قويًا محقًا، وإن دعا كان صالحًا مصلحًا، وقويًا واضحًا، يأخذ إيمانه بقوة ودينه بقوة، ليس فيه وهن ولا تمييع، ولا ضعف ولا تصنيع.
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير)،
أيها المستمعون المباركون: القوة قوتان، القوة قوتان: قلبية وبدنية، فتصح الأولى بدون الثانية، ولا تصح الثانية بدون الأولى، فترى القلب قويًا والبدن ضعيفًا هزيلًا، ترى القلب حريصًا شجاعًا ثابتًا قويًا، والبدن ربما مقعدًا معاق، وقد يكون مطلقًا حسًا معاقًا معنى، إذا لم تقدر على صيام النهار، وقيام الليل فاعلم أنك مكبل، كبلتك خطيئتك، كم نرى من كبار السن من رجال ونساء أهل عبادة وطاعة، وثبات وعقيدة واجتهاد وتضحية ما لا نراه فيمن هو معافى صحيحًا آمنًا مطمئنًا.
يقول ابن القيم: اعلم أن العبد؛ إنما يقطع السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، فعند الكبار ما يعجز عنه الصغار، وعند العوام ما لا يدركه طلبة العلم الكرام.
إذًا إذ التقوى تقوى القلوب، لا تقوى الجوارح، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32]، فالمؤمن القوي من يقطع المسافات ويتجاوز المعوقات، ويتناسى المنغصات بصحته وعزيمته وهمته وتجريده وقصه، بصدقه وتقدمه، برغبته وسيره، وأعلى القوى توحيد المولى، قوة في العقيدة والإيمان والتوكل والخوف والرجاء ومحبة الرحمن، والثقة التامة، والنية الخالصة الصادقة، يتصل بحبل الله المتين، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالعقيدة القوية تحول الإنسان من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الذل إلى العز.
المؤمن القوي بعقيدته يتماسك أمام المصائب، ويثبت أمام البلاء، ويصمد أمام الفتن راضيًا بقضاء الله وقدره والقوة في العبادة المحافظة على الفريضة والاجتهاد في النافلة، مجتهدًا في الطاعات، منافسًا في الخيرات، صابرًا مرابطًا في قراءة القرآن، وقيام الليل وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والمعاملة بالمعروف والإحسان، قوي في صدقه وصدقته، في صيامه وعلمه وتعلمه، قويًا في تعليمه ودعوته، وأمره ونهيه.
المؤمن القوي قوي في الأخلاق بعيدًا عن السفاسف والشقاق، لقد فتح المسلمون الأوائل قلوب الناس وبلدانهم، بالصفات الحميدة، والأخلاق الجليلة دون أن تتحرك جيوش أو تزلزل عروش، وبعض المسلمين جمع من العلم فأوعى، وخلا من الخُلق الأوفى.
ومن القوة: القوة في العفو والصفح، والانتصار في المبادئ ورسوخ القيم، كذا القوة في الإرادة والتغلب على الهوى وشهوات النفس أمام المغريات والشهوات، القوة في ضبط النفس، والسيطرة عليها والحبس، (ليس الشديد بالسرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)،
القوة في الإدارة، والإمارة، وإعطاء كل زي حق حقه، وماله ومستحقه، القوة في التنظيم اليومي، والترتيب الحزبي للنفس كالقراءة والذكر والصلة والبر، والصلاة والجد والاجتهاد، القوة في التربية وتنشئتهم على الخير، وكفهم عن الشر بحزم وعزم، وتوجيه وعلم.
القوة في نزع الشحناء من القلوب، والغل والحقد والحسد، القوة التقدم للصلوات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، القوة مبعثها القلب، فكل قوة لا تنبعث منه فهي ضعف.
بعض الناس يظن أن التسامح والتغاضي هزيمة، والحقيقة أن ذلك يحتاج إلى قوة وعزيمة وما نسمع وما نقرأ من همم السلف وقوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة والقراءة والبر وغير ذلك كله منبعثٌ من علو الهمة والقوة وإرادة الجنة، وإن شئت فارجع إلى الصفر الحافل كتاب "علو الهمة" بمجلداته الكبيرة.
أسأل الله أن يلحقنا بآثارهم واقتفاء مآزرهم، وأن يجعلنا من عباده المصلحين وعبادهم الصالحين، وحسبه المتقين وأوليائه المؤمنين إنه ولي ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على رسوله وعبده وآله وصحبه، من الأسس المقوية لتقوية النفس وحملها على الطاعة وكفها عن المعصية والإضاعة، ولكي تتحسن القوة والتقوى في الحس والمعنى، قوة الصلة بالله وهذا أهم الأسس وأعلاها، والصلة تكون بالعبادة ولهذا وصف الله نبيه داود -عليه الصلاة والسلام-: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص:17]، أي رجاع والإنابة ترك المعصية وفعل الطاعة، ولهذا كان داود من أقوى الناس عبادة لرب الناس يصوم يوم ويفطر يوم، فأحب الصيام صيام داود، وأحب الصلاة صلاة داود، وخفف عليه القراءة.
وانظر إلى نوح لما أمر قومه بالذكر والاستغفار، والعبادة بيّن أن هذا صلة وقوة (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)[هود:52].
وانظر إلى محمد يقوم حتى تتفطر قدماه، أعبد الناس وأشجع الناس، وأكرم الناس، وأقوى الناس.
ومن أسباب القوة: اليقين التام بنصر الله لدينه، وتصديق موعوده، وكلما تأزمت الأمور، واشتدت الحروب والكروب، وقوي التصديق واليقين بعلم الغيوب.
وفي قصة موسى لما ظنوا بانتصار الباطل وحسوا بالهلاك، وكان أمامهم الغرق، تأتي الثقة واليقين بنصر رب العالمين، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء:61-63]، فلا تستبطئ وعد الله في نصرة دينه وأوليائه فوعده حق، وكلامه صدق، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، له الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة.
ومن الأسباب: العمل بالسنة والكتاب (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة:63]، فمن أراد القوة فعليه التمسك بالكتاب والسنة، وبقدر التخلف عنها والعمل بها، والتساهل بما فيهما، تضعف القوة وتعظم الفجوة.
ومن الأسباب أيها الأصحاب: عدم الانسياق لرغبات النفس وشهواتها، فالنفس إذا تعلقت بالدنيا صعب عليها القوة والتقوى، والاجتهاد في العبادة وترك الهوى، ومما يقوي المؤمن مجالسة الصادقين والارتباط بالصالحين ليشدوا من عزمه ويبعثوا همته، ويشدوا أذره، ولذلك موسى -عليه الصلاة والسلام- قال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي)[القصص:34].
ومن الأسباب: قوة الرجاء والطمع فيما عند الله، ومحبة الله، وما أعد الله لأوليائه في الجنة، وأن الدنيا فانية زائلة، فمن عرف ما يطلب سهل عليه ما يبذل (ألا إن سلعة الله غالية)، ومنها إحياء معاني القوة في النفوس، والعزة والشجاعة والدروس وكذا منها أننا ننتصر بقوة على شهواتنا فإذا لم ننتصر على شهوة، فكيف نقود أمة ونرتفع همة، ونحن نميل مع كل شهوة، وننحرف عند أدنى ذلة، ونقف عند كل عثرة فنعجز عن صلاة ركعة، وقراءة آية، وصدقة وصلة، ونعجز عن ابتسامة وعفوٍ عند مقدرة، كيف نريد القوة ونحن نعجز عن السيطرة على نفوسنا، والتغلب على أهوائنا.
فيا معشر المسلمين: خذوا دينكم وعقيدتكم وتربيتكم وأخلاقكم وعباداتكم بقوة وحزم وعزم وعزة.
ومما يبعث القوة والشجاعة والعزة مطالعة سير السلف الصالح وجهودهم واجتهاداتهم وعباداتهم وأعمالهم، والتأريخ سطر ذلك عنهم فاقرأ عنهم لتشحذ همتك وترتفع قمتك، ومنها الدعاء فاستعن بالله، واستعذ بالله من العجز والكسل، ولهذا جاءت الاستعاذة من ذلك دبر كل صلاة مكتوبة (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) فالعجز يثبط الإنسان، والكسل يضعف الأبدان.
هذا وصلوا وسلموا عباد الله على رسول الله، هذا وصلوا وسلموا عباد الله على رسول الله.
ماطافَ عبدٌ بالعتيقِ وأحرما
أو نحو طيبة بالمحبة يمّمَا
إلا ولهجُ لسانه وفؤادِه
صلى الاله على الحبيبِ وسلّما
هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.
والله أعلم
التاريخ: الجمعة: 24/ جماد الأولى/ 1437 هـ
الحمد لله، الحمد لله ذي العزة والقوة، أحمده سبحانه أهل الحكمة والقدرة، أنزل على نبيه: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)[مريم:12]، وأشهد أن لا إله إلا الله، قال في محكم تنزيله: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[البقرة:63]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بين تمايز المسلمين والمؤمنين بالضعف والقوة، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه- أهل الحزم والعزم والقوة، أما بعد.
فيا مسلمون: اتقوا الله وكونوا له من العابدين، ولتوحيده من المحققين، ولأوامره ونواهيه من الممتثلين.
عباد الله: خشية جميلة، وخلة جليلة تبعث النشاط، وتورث الحيوية والانضباط، مظهر من مظاهر الرجل الحقة، وعلامة بارزة على قوة الإيمان من ضعفه، تضبط الأوقات، وتحافظ على المكتسبات، وتسارع في العبادات، وتنافس في الطاعات، صاحبها في كل ميدان من المسابقين، وفي كل عبادة من المرابطين، وفي كل سهم من المساهمين، شعار الأنبياء ورمز الأولياء وسائقها وقائدها بلوغ جنة المأوى.
أعرفتموها؟ أم تحبون أن تعرفوها؟ إنها العدة في معاني القوة، إنه المؤمن القوي، القوة عباد الله ليس كما يظنها بعض الناس قوة بدن وعضلات وحمل وتحملات، أو قوة ماديات وحضارات، أو قوة الدنيا وإقبالها وإدبارها، أو قوة عدد وعُدد، ومواردها، أو قوة جاهٍ ومنصبٍ وتصنت وجبروت وظلم وتخبط، أو قوة مكر وكيد، وخداع.
ومن الناس من يظن أن القوة: التصنت على من تحته كمن يتقوى على زوجته وأبنائه وخدامه وعماله، وموظفيه في إدارته، ومن مفهوم القوة الخاطئة أن يركن إلى قوته في ماله وولده، ومنصبه ومكانته. وآخرون يظنون أن القوة في الظاهر وما فيها من المخابر كمن ينظر إلى قوة الكفار وأعتادهم وعددهم وسلاحهم.
كما أن هناك من يظن أن القوة قوة الجسمية وأمور مادية، ومنهم من يظن أن القوة التغلظ على الآخرين، وأكل أموالهم وهضمهم لحقوقهم ومخاصمتهم بالباطل.
القوة أيها الأمة: قوة المؤمن في عقيدته وأخلاقه، وآدابه وأعماله، في عبادته وتعاملاته، في إيمانه وطاعته لربه، إنما دار الصمود والبقاء على قوة الدين والنقاء، مدار القوة على قوة التوحيد، والتأصيل والتقعيد، مدار القوة على الامتثال وتطبيق الأفعال والأقوال، وقد أمر الله بقوة أنبيائه وعباده وأولياءه، فقال سبحانه لموسى -عليه السلام- (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا)[الأعراف:145]، وقال لبني إسرائيل: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ﴾[الأعراف:171]، ووصف بها نبيه داود: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ)[ص:17]، الأيد أيد القوة في الدين، بل أمر بها يحي -عليه الصلاة والسلام- وهو في مهده وصباه: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[مريم:12]، كل ذلك لينشأ منذ نعومة أظفاره على القوة والعزم، والجد والحزم في دينه تمسكًا وانقياد عملًا وامتثالًا.
القوة قوة الإيمان، ففي مسلم عن ولد عدنان: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير)، فالمؤمن القوي يتحد الصعاب، ويقاوم نفسه وهواه، وشيطانه ودنياه:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعلٌ
عفافٌ وإقدامٌ وحزم ونائلُ
القوة قوتان: قوة معنوية: وهي قوة البيان، والأخذ بالسنة والقرآن، والعمل بهما، والتمسك بهما، وتطبيقهما على أرض الواقع دون هوادة ولا تهاون، ولا تكاسل ولا عجز.
وقوة في المواجهة والمدافعة، وفي الإعداد والعدة، وهي قوة السنان أمام الأعداء والكفار الألداء كما قال المولى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)[الأنفال:60]، قوة في العدة والعدد، قوة في التفكير والمدد.
الأمة أيها الأمة، الأمة أيها الأمة لاسيما في هذه الأزمنة بحاجة إلى معاني القوة ظاهرة وباطنة، إيمانًا وسلوكًا، وقوةً وإعداد، وعلمًا، وعملًا، وعقلًا، وإدراكًا.
الأمة بحاجة إلى مؤمن قوي في عقيدته وثوابته، في علمه وعمله وتعامله، بحاجة إلى القوي في دعوته ودفاعه، في صدعه بالحق ووقوفه ورده الباطل ومنعه.
نحن بحاجة إلى قوة أمام سيل الشبهات، ودرء الفتن والملمات وكشف الأفكار والانحرافات، وإلى قوة في دفع الشهوات، والذنوب والسيئات، والمحن والمغريات.
المؤمن القوي إذا تكلم كان قويًا واثقًا، وإن ناقش كان قويًا محقًا، وإن دعا كان صالحًا مصلحًا، وقويًا واضحًا، يأخذ إيمانه بقوة ودينه بقوة، ليس فيه وهن ولا تمييع، ولا ضعف ولا تصنيع.
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير)،
أيها المستمعون المباركون: القوة قوتان، القوة قوتان: قلبية وبدنية، فتصح الأولى بدون الثانية، ولا تصح الثانية بدون الأولى، فترى القلب قويًا والبدن ضعيفًا هزيلًا، ترى القلب حريصًا شجاعًا ثابتًا قويًا، والبدن ربما مقعدًا معاق، وقد يكون مطلقًا حسًا معاقًا معنى، إذا لم تقدر على صيام النهار، وقيام الليل فاعلم أنك مكبل، كبلتك خطيئتك، كم نرى من كبار السن من رجال ونساء أهل عبادة وطاعة، وثبات وعقيدة واجتهاد وتضحية ما لا نراه فيمن هو معافى صحيحًا آمنًا مطمئنًا.
يقول ابن القيم: اعلم أن العبد؛ إنما يقطع السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، فعند الكبار ما يعجز عنه الصغار، وعند العوام ما لا يدركه طلبة العلم الكرام.
إذًا إذ التقوى تقوى القلوب، لا تقوى الجوارح، (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحج:32]، فالمؤمن القوي من يقطع المسافات ويتجاوز المعوقات، ويتناسى المنغصات بصحته وعزيمته وهمته وتجريده وقصه، بصدقه وتقدمه، برغبته وسيره، وأعلى القوى توحيد المولى، قوة في العقيدة والإيمان والتوكل والخوف والرجاء ومحبة الرحمن، والثقة التامة، والنية الخالصة الصادقة، يتصل بحبل الله المتين، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالعقيدة القوية تحول الإنسان من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الذل إلى العز.
المؤمن القوي بعقيدته يتماسك أمام المصائب، ويثبت أمام البلاء، ويصمد أمام الفتن راضيًا بقضاء الله وقدره والقوة في العبادة المحافظة على الفريضة والاجتهاد في النافلة، مجتهدًا في الطاعات، منافسًا في الخيرات، صابرًا مرابطًا في قراءة القرآن، وقيام الليل وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران، والمعاملة بالمعروف والإحسان، قوي في صدقه وصدقته، في صيامه وعلمه وتعلمه، قويًا في تعليمه ودعوته، وأمره ونهيه.
المؤمن القوي قوي في الأخلاق بعيدًا عن السفاسف والشقاق، لقد فتح المسلمون الأوائل قلوب الناس وبلدانهم، بالصفات الحميدة، والأخلاق الجليلة دون أن تتحرك جيوش أو تزلزل عروش، وبعض المسلمين جمع من العلم فأوعى، وخلا من الخُلق الأوفى.
ومن القوة: القوة في العفو والصفح، والانتصار في المبادئ ورسوخ القيم، كذا القوة في الإرادة والتغلب على الهوى وشهوات النفس أمام المغريات والشهوات، القوة في ضبط النفس، والسيطرة عليها والحبس، (ليس الشديد بالسرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)،
القوة في الإدارة، والإمارة، وإعطاء كل زي حق حقه، وماله ومستحقه، القوة في التنظيم اليومي، والترتيب الحزبي للنفس كالقراءة والذكر والصلة والبر، والصلاة والجد والاجتهاد، القوة في التربية وتنشئتهم على الخير، وكفهم عن الشر بحزم وعزم، وتوجيه وعلم.
القوة في نزع الشحناء من القلوب، والغل والحقد والحسد، القوة التقدم للصلوات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، القوة مبعثها القلب، فكل قوة لا تنبعث منه فهي ضعف.
بعض الناس يظن أن التسامح والتغاضي هزيمة، والحقيقة أن ذلك يحتاج إلى قوة وعزيمة وما نسمع وما نقرأ من همم السلف وقوة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة والقراءة والبر وغير ذلك كله منبعثٌ من علو الهمة والقوة وإرادة الجنة، وإن شئت فارجع إلى الصفر الحافل كتاب "علو الهمة" بمجلداته الكبيرة.
أسأل الله أن يلحقنا بآثارهم واقتفاء مآزرهم، وأن يجعلنا من عباده المصلحين وعبادهم الصالحين، وحسبه المتقين وأوليائه المؤمنين إنه ولي ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حق حمده والصلاة والسلام على رسوله وعبده وآله وصحبه، من الأسس المقوية لتقوية النفس وحملها على الطاعة وكفها عن المعصية والإضاعة، ولكي تتحسن القوة والتقوى في الحس والمعنى، قوة الصلة بالله وهذا أهم الأسس وأعلاها، والصلة تكون بالعبادة ولهذا وصف الله نبيه داود -عليه الصلاة والسلام-: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص:17]، أي رجاع والإنابة ترك المعصية وفعل الطاعة، ولهذا كان داود من أقوى الناس عبادة لرب الناس يصوم يوم ويفطر يوم، فأحب الصيام صيام داود، وأحب الصلاة صلاة داود، وخفف عليه القراءة.
وانظر إلى نوح لما أمر قومه بالذكر والاستغفار، والعبادة بيّن أن هذا صلة وقوة (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ)[هود:52].
وانظر إلى محمد يقوم حتى تتفطر قدماه، أعبد الناس وأشجع الناس، وأكرم الناس، وأقوى الناس.
ومن أسباب القوة: اليقين التام بنصر الله لدينه، وتصديق موعوده، وكلما تأزمت الأمور، واشتدت الحروب والكروب، وقوي التصديق واليقين بعلم الغيوب.
وفي قصة موسى لما ظنوا بانتصار الباطل وحسوا بالهلاك، وكان أمامهم الغرق، تأتي الثقة واليقين بنصر رب العالمين، (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)[الشعراء:61-63]، فلا تستبطئ وعد الله في نصرة دينه وأوليائه فوعده حق، وكلامه صدق، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، له الحكمة البالغة، والمشيئة النافذة.
ومن الأسباب: العمل بالسنة والكتاب (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة:63]، فمن أراد القوة فعليه التمسك بالكتاب والسنة، وبقدر التخلف عنها والعمل بها، والتساهل بما فيهما، تضعف القوة وتعظم الفجوة.
ومن الأسباب أيها الأصحاب: عدم الانسياق لرغبات النفس وشهواتها، فالنفس إذا تعلقت بالدنيا صعب عليها القوة والتقوى، والاجتهاد في العبادة وترك الهوى، ومما يقوي المؤمن مجالسة الصادقين والارتباط بالصالحين ليشدوا من عزمه ويبعثوا همته، ويشدوا أذره، ولذلك موسى -عليه الصلاة والسلام- قال: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءًا يُصَدِّقُنِي)[القصص:34].
ومن الأسباب: قوة الرجاء والطمع فيما عند الله، ومحبة الله، وما أعد الله لأوليائه في الجنة، وأن الدنيا فانية زائلة، فمن عرف ما يطلب سهل عليه ما يبذل (ألا إن سلعة الله غالية)، ومنها إحياء معاني القوة في النفوس، والعزة والشجاعة والدروس وكذا منها أننا ننتصر بقوة على شهواتنا فإذا لم ننتصر على شهوة، فكيف نقود أمة ونرتفع همة، ونحن نميل مع كل شهوة، وننحرف عند أدنى ذلة، ونقف عند كل عثرة فنعجز عن صلاة ركعة، وقراءة آية، وصدقة وصلة، ونعجز عن ابتسامة وعفوٍ عند مقدرة، كيف نريد القوة ونحن نعجز عن السيطرة على نفوسنا، والتغلب على أهوائنا.
فيا معشر المسلمين: خذوا دينكم وعقيدتكم وتربيتكم وأخلاقكم وعباداتكم بقوة وحزم وعزم وعزة.
ومما يبعث القوة والشجاعة والعزة مطالعة سير السلف الصالح وجهودهم واجتهاداتهم وعباداتهم وأعمالهم، والتأريخ سطر ذلك عنهم فاقرأ عنهم لتشحذ همتك وترتفع قمتك، ومنها الدعاء فاستعن بالله، واستعذ بالله من العجز والكسل، ولهذا جاءت الاستعاذة من ذلك دبر كل صلاة مكتوبة (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) فالعجز يثبط الإنسان، والكسل يضعف الأبدان.
هذا وصلوا وسلموا عباد الله على رسول الله، هذا وصلوا وسلموا عباد الله على رسول الله.
ماطافَ عبدٌ بالعتيقِ وأحرما
أو نحو طيبة بالمحبة يمّمَا
إلا ولهجُ لسانه وفؤادِه
صلى الاله على الحبيبِ وسلّما
هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.
والله أعلم