العجلة المحمودة والمذمومة في حياة المسلم(3) استعجال المحرمات

محمد بن إبراهيم النعيم
1441/11/11 - 2020/07/02 12:57PM

    

لقد خلقنا الله تعالى في هذه الحياة ليبتلينا؛ ليرى هل نمتثل أوامره عز وجل أم نخالفها ونتبع أهوائنا، ولقد أمرنا تعالى بالصبر بكل أنواعه، الصبرِ على طاعة الله والصبر عن معصية الله والصبر على قضاء الله تعالى، فالصبر عن معصية الله يكون بالكف عن الشهوات المحرمة.

وقد وعد الله تعالى من فعل ذلك أن هذه الشهوات ستكون له حلالاً يوم القيامة، أما من استعجل المحرمات والشهوات فانغمس فيها ولم يتب منها قد تحرم عليه في الآخرة.

لقد أخبر النبي  بأن الدنيا سجن للمؤمن ليس كل ما فيها يحل له، فقد روى أبو هريرة  أن النبي  قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) رواه مسلم والترمذي، ومعناه أن المؤمن ممنوع في هذه الحياة من الشهوات المحرمة والمكروهة، فمن اتبع هواه وانغمس في الشهوات المحرمة ولم يتب منها حرمها في الآخرة.

لقد قرر علماء المسلمين قاعدة عظيمة فقالوا: من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، فهذا نبي الله آدم عليه السلام، استعجل الخلود في الجنة فأكل من الشجرة المحرمة، فكان أن أُهبط هو وذريته إلى الأرض، ألم تسمعوا ما قاله النبي ؟ حيث روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي  قال: (من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حُرمَها في الآخرة) متفق عليه، قال النووي رحمه الله تعالى مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُحْرَم شُرْبهَا فِي الْجَنَّة وَإِنْ دَخَلَهَا، فَإِنَّهَا مِنْ فَاخِر شَرَاب الْجَنَّة فَيُمْنَعهَا هَذَا الْعَاصِي بِشُرْبِهَا فِي الدُّنْيَا، قِيلَ: إِنَّهُ يَنْسَى شَهْوَتهَا لِأَنَّ الْجَنَّة فِيهَا كُلّ مَا يَشْتَهِي، وَقِيلَ: لَا يَشْتَهِيهَا وَإِنْ ذَكَرَهَا، وَيَكُون هَذَا نَقْص نَعِيم فِي حَقّه تَمْيِيزًا بَيْنه وَبَيْن تَارِك شُرْبهَا .

ومثل ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي  قال: (من لبس الذهب من أمتي – يقصد الرجال- فمات وهو يلبسه حرم الله عليه ذهب الجنة) رواه الإمام أحمد. 

وما رواه حذيفة بن اليمان  أن النبي  قال: (لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَلَا الدِّيبَاجَ وَلَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهَا فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ) متفق عليه.

لقد كان سلفنا الصالح يترك الزائد من المباح خوفاً أن ينقص نعيمه في الآخرة حيث روى عبد بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: لا يصيب عبد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عليه كريماً.

وعندما دخل عمر بن الخطاب في بيت النبي  رفع بصره في بيته فلم يرى فيه شيئا يرد البصر فقال للنبي : ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَكَانَ النبي مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَوَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) حديث رواه البخاري، فكيف بمن يستعجل الحرام ويقع فيه؟

فمن استوفى طيباته وشهواته المحرمة واستعجلها في هذه الدار حرمها في الآخرة، ومن أجَّل الشهوات المحرمة لم يتركها إلا لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون.

إن انتشار القنوات الفضائية الهابطة التي تدعو مشاهديها إلى ممارسة الرذيلة هي من أكثر الأسباب التي تجر ضعاف الإيمان إلى ممارسة ما يشاهدونه، وها نحن نسمع ونقرأ عن كثرة انتشار جرائم الاغتصاب والاختلاء وسط الشباب والشابات، وها نحن نسمع بمسميات جديدة للزواج كالزواج السياحي والمسيار وغيرها من مسميات فيها تحايل على الشرع لممارسة الرذيلة، فالكثير أصبح لا يجرئ على مواجهة المجتمع بالزواج بامرأة ثانية وثالثة، ولكنه يجرئ على الوقوع في الحرام بنساء كثيرات.

إننا نسمع ونقرأ عن كثرة مصانع الخمور التي تديرها عمالة وافدة وتتساقط في أيدي رجال الأمن ولله الحمد، ولكن لو تساءلنا ما سبب كثرة هذه المصانع في معظم مدننا؟ لكان الجواب هو كثرة زبائنها ومن يطلبونها ولا حول ولا قوة إلا بالله. وكذلك الحال في المخدرات وسائر المفترات.

فيالها من حسرة وندامة لمن يبيع أنهاراً من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل ومفسد للدنيا والدين. 

ويالها من حسرة وندامة لمن يبيع حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون ببائعات هوى ماجنات.

وكم من إنسان استعجل تحصيل لذاته عن طريق الحرام، فوقع في فاحشة الزنى أو الشذوذ فكانت عاقبة أمره خسراً، وكان ذلك بداية غرقه في مستنقع الرذيلة والأمراض والعياذ بالله. 

إن تعظيم حرمات الله سبحانه وعدم هتكها هو دليل إيمان العبد ودليل تقواه؛ لأن تعظيمها هو تعظيم لله الذي حرمها، لهذا بين سبحانه أن تعظيم هذه الحرمات خير وبركة على المسلم، فقال عز من قائل: }ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ{، كما بين رسوله أن قمة التعبد والعبودية لله هي في اتقاء المحارم والحرام، فقال : ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحبّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة،

فمن صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجل ما حرّم عليه قبل وفاته، عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته. قال تعالى موبخاً الكفار} وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ{ [الأحقاف: 20]

علينا أن نتأمل ونتفكر ونتعظ ونفرق بين النعيم الدائم في الجنة وبين اللذة العاجلة في الحياة الدنيا، اللذة المحرمة التي يرى صاحبها أنه استمتع بها لدقائق ولحظات لا تطول بل وسيعقبها ساعات الحسرة والندامة في الدنيا قبل الآخرة، وإلى أي مدى تستمر معه تلك النشوة والفرح بارتكاب ذلك المحرم؟! لو تدبر وتأمل ذلك المسكين حاله وأفاق من غفلته لأدرك الفرق الشاسع الذي لا مقارنة ولا تقارب معه بين لذة تدوم لحظات وبين لذة ونعيم أبدي سرمدي.

أنـت فـي دار شتـات         فتـأهب لشتـاتِكْ

واجعـل الدنيـا كيـوم         صمته عن شهواتكْ

وليكـن فطرك عنـد الله       فِي يـوم وفاتـكْ

فاتقوا الله يا عباد الله، وراقبوا جوارحكم في ذات الله، وعبّدوها لله، وإياكم والاستهانة بأي ذنب، فإن المرء لا يدري ما الذنب الذي تكون به هلكته، فمن استعجل ما أُمر بتأخيره حُرم عنه عند ميقاته أو أُنقص من نعيمه.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله يعز من أطاعه واتقاه، ويذل من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه لا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله اجتباه ربه واصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق التقوى واعلموا أن الله تعالى نهانا عن الشهوات والرذائل وأمرنا بخصال الخير والفضائل وبين لنا رسول الله  أن من استعجل شيئاً مما حرمه الله عليه قد يحرم منه يوم القيامة أو يُنقص من نصيبه في الآخرة، والقاعدة تقول: من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، فنحن مأمورون باتقاء الشهوات المحرمة، قال : (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) رواه الإمام أحمد

لقد أخبرنا النبي  بأن النار قد حفت بالشهوات، فقال  (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) كما ذكر النبي  بأن الصراط الذي سينصب على متن جهنم سيكون على جانبيه كلاليب من نار، ولذلك قال العلماء بأن هذه الكلاليب هي الشهوات، فمن وقع في شهوة محرمة كان في انتظاره على الصراط كُلاَّباً يخطفه ويقذفه في النار.

فالوقوع في الشهوات المحرمة كالزنا واللواط وشرب الخمور والنظر إلى النساء وسماع الغناء والكسب المحرم والتفكه في أعراض الناس وغير ذلك مما يُستلذ به- مما منع الشرع من تعاطيه- هي من الأسباب التي توقع صاحبها في النار والعياذ بالله.

فلا تستعجلوا ما حرم الله عليكم، فهي حلال لكم في الآخرة، حرام عليكم في الدنيا ولا تكونوا ممن يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، }مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً {

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين واخذل أعداء الدين.... اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.              

المشاهدات 479 | التعليقات 0