العَجَلةُ أمُّ الندامات . . !

رشيد بن ابراهيم بوعافية
1434/08/15 - 2013/06/24 22:04PM
[FONT="] الحمد لله رب العالمين ، نحمده سبحانه ونستغفره ونستهديه ، و نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادةً لا مريةَ في مقالها ، ولا انفصال لاتّصالِها ، ينطقُ بها اللسان ، و يُقرُّ بها الجنان ، وتبرهِنُ على حقيقتها الجوارح و الأركان . وأشهد أنّ محمّدًا عبدُ الله ورسوله ، الصادق المصدوقُ الوعدُ الأمين ، بلّغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ، و نصحَ الأمّة ، وكشف الله به الغمّة ، صلّى الله عليه و على آله الطيّبين وصحابته الغُرّ الميامين ، ومن ثبتَ على منهجهم إلى يوم الدّين ، ثم أما بعد : [/FONT]
أيها الإخوةُ في الله: حديثنا اليومَ حولَ داءٍ من الأدواءِ ابتُليَ به الإنسانُ بالجِبِلَّة ، فهو مركوزٌ في طبيعته وتكوينِه ، استِحْكَامُهُ في العبدِ يسبّبُ لهُ النّدم والخُسران ، وتغلُّبُ العبدِ عليهِ سبيلٌ إلى المدحِ والنّجاةِ في كُلّ شيء . إنَّهُ " داءُ العجَلَةِ و الاستعجال " .
العجلةُ - معشر المؤمنين- تعنِي فعلَ الشيءِ قبلَ أوانهِ اللائقِ به ، فهيَ بذلكَ تكونُ منْ مقتضياتِ الشهوةِ البغيضةِ في الإنسان ، حُبًّا أو بُغضًا ، رضًا أو غضبَا ، فمن هنا جاءَ ذمُّ العجلَةِ لارتباطِها بالشهوة والطبع ، وورَدَ مدحُ التَّثبُّتِ والأناةِ لارتباطِها بالعقلِ و الشرع .
قال اللهُ جلَّ وعلاَ : ]وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولا[( الإسراء : 11 ) ، وقال سبحانه : ]خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَل[( الأنبياء : 37 ) . وقال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم : ] فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ[( الأحقاف : 37 ) . و حينما وردَ وفدٌ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ظهرَ فيهم رجلٌ رزينٌ حليمٌ متثبّت ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد رؤيَة رزانتِه في الكلامِ والتصرّف : " إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة " رواه مسلم .
معشر المؤمنين : العَجَلةُ ثورةٌ نفسيةٌ خاليةٌ منْ تقديرِ العاقبة ، ومِنَ الإحاطةِ بالظروفِ والملابسات، ومِنْ أخذِ الأهبةِ والاستعداد في القول والعمل .
ذلكَ أنَّ المستعجِلَ يقولُ قبلَ أنْ يعلم ، ويُجِيبُ قبلَ أنْ يفهم ، ويَحمدُ قبلَ أنْ يُجرِّب ، ويَذمُّ بعدما يَحمد ، ويعزمُ قبلَ أنْ يُفكِّر ، ويمضي قبلَ أنْ يعزم ، فلا يحصدُ من كُلّ ذلكَ سوى الحسرَةِ والنّدَم ، والتّعبِ في الحياةِ والألم ، ولقدْ كانت العربُ في القديمِ تُكنِّي العجلةَ " أمَّ الندامات " لكثرَةِ ما تورِثُ من الحسرةِ والنّدم ، و الحكماءُ يقولون : " الزّللُ مع العَجَل " ،و " مَنْ نظرَ في العواقبِ سلِمَ مِنَ النوائب " ويقولون : " منْ أسرعَ الجوابَ أخطأَ الصواب " ، " و " لولاَ الأناةُ ما عاشَ الجملُ في الصحراء " ، كلُّ ذلكَ مدحًا في الأناةِ وتنفيرًا من العجلة .
معشر المؤمنين : استقصاءُ صورِ العجلةِ غيرُ ممكن ، فنقتصرُ على ما يدلُّ على البَاب :
فأخطرُ صورِ العجَلَةِ المذمومةِ شرعًا : " محبَّةُ العاجِلَةِ وتركُ الآخرة " ، فهذا الدّاءُ رأسُ الخطيئَةِ و سببُ الخُسران ، محبَّةُ الدنيا و استعجالُ شهواتِها الفانيَةِ الزائلة ، وفي المقابِلِ تركُ الآخرةِ والتفريطُ فيها وفي خيراتِها الكامِلَةِ الدّائمة ، كما قال الله تعالى : ]كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وتذرُونَ الآخِرَة[ ( القيامة : 20-21 ) . وقال سبحانه : ]مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً[ ( الإسراء : 18 ) ، وقال جلّ وعلا : ] إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً[ ( الإنسان : 27 ) . هذا الدّاءُ هو الذي جعلَ الإنسانَ يستعجِلُ الكُفرَ على الإيمان ، والمعصيةَ على الطاعة ، والكذِبَ على الصّدق ، والزّنا على الحور العين ، والنّظَرَ إلى الحرامِ على لذَّةِ النّظَرِ إلى وجهِ اللهِ الكريم ، وخمرَ الدّنيا على خمر الآخِرة ، وقصورَ الدّنيا على قصورِ الآِخرَة . . !
ومن صورِ العجَلَةِ المذمومةِ شرعًا " العجلةُ في الدُّعاء"، يدعُوا الإنسانُ مرَّةً أو مرّتين أو ثلاث ، ثمَّ يستبطئُ الإجابَة ، فيمَلُّ الدُّعاءَ – غافلاً عن الحكمةِ الربّانيّةِ والتدبير الإلهي – فيقول :" دعوتُ دَعوتُ فلم يُستجَب لي ! " فإذا بهِ يملُّ الدُّعاءَ و يركنُ إلى اليأسِ والقنوط ، وهو في التدبير الإلهي إمَّا معاقبٌ يحتاجُ إلى تطهير ، أو يحِبُّ اللهُ أن يرى انكسارَهُ وانطراحَه ، أو لو صبرَ فزادَ مرَّةً قبل الانقطاعِ لاستجابَ اللهُ له ، أو ما شابَهَ ذلكَ من الحِكَمِ الباهِرَة ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم :" يستجاب للعبد ما لم يستعجل " . قيل يا رسول الله ما الاستعجال ؟ ، قال :" يقول قد دعوت ، وقد دعوت فلم أر يستجاب لي ! ، فيستَحْسِرُ عند ذلك ويدَعُ الدعاء ! " رواه مسلم .
بل إنَّ النّاس ليستعجِلونَ في الدُّعاءِ نفسِه ، فيتّجهونَ – لقلّةِ صبرِهم - إلى الطلبِ من اللهِ دونَ الثناءِ عليهِ و الصلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا من الاستعجال :
في صحيح سنن النّسائي عن فُضالةَ بنِ عبيدٍ رضي الله عنه قال : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو في صلاته ، لم يمجّدِ اللهَ ، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"عجّلت أيها المصلي ! " ، ثم علّمهم .. ، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي فمجَّدَ الله وحمده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم :" ادْعُ تُجَبْ ، وسَلْ تُعْطَ " ( صحيح : سنن النسائي 1284 ) .
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
معشر المؤمنين: ومن صورِ العجلةِ المذمومة شرعًا " العجلةُ عند الغضب والانفعال " ، فهما صفتانِ جِبِلِّيّتانِ في العبدِ إذا اجتمعتَا على العبدِ أهلكَتَاهُ ولا بُد ، " العجلةُ " و " الغضب " ، وكم مِن إنسانٍ يعجِلُ عندَ الغضبِ ، فيستجيبُ لثورةِ النفسِ الغاضبَة ؛ فيتصرَّفُ في لسانهِ وفعلهِ قبلَ مراجعةِ قلبهِ وعقلِه ؛ وإذا بهِ يشطُطُ في أقوالٍ أو أفعالٍ لا يريدُها ، و يحتاجُ بعدها إلى اعتذارٍ طويلٍ وتلفيقٍ لافت : يتكلّمُ فيندم ، أو يقرّرُ فيندَم ، أو يعاقبُ فيندَم ، أو يطلّقُ فيندَم ، أو يفعلُ فيندم ، أو يترُكُ فيندَم ، والسببُ في جميع ذلك الشهوةُ الغضبيّة التي تغيّبُ العقلَ والعِلم ! ، ولذلكَ ثبتَ في البخاري عن أبي هريرةَ t أنَّ رجُلاً قال للنبي أوصني . قال صلى الله عليه وسلم :" لا تغضب " . فردَّدَ ذلك مرارا قال :" لا تغضب ! ".
ومن صورِ العجلةِ المذمومة شرعًا " الاستعجالُ في نقلِ الأخبارِ وإشاعَتِها " من غير تثبُّتٍ ورويَّة ، ومن غيرِ نظرٍ أهذا الخبرُ حقٌّ أم باطل؟ ، صدقٌ أم كذب؟ ، نافعٌ أم ضار ، بمجرَّدِ سماعِ خبرٍ تفقدُ النفسُ الرّزانةَ و قُوَّةَ تحمُّلِ الكتمان ! . ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول :" كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " رواه مسلم .
وأخطرُ ما يكونُ الاستعجالُ في هذه الأخبار :" ما تعلّقَ بأعراضِ النّاسِ و الحكمِ عليهم " ، فهوَ البابُ الذي لا نجاةَ فيهِ إلا بالعفوِ أو القصاص . وهذا التسرُّعُ لا يكونُ من حليمٍ حكيمٍ متثبّت ، ألهتهُ عيوبُهُ وذنوبُهُ عن الاشتغال بعيوبِ وذنوبِ الآخرين ، إنَّما يكونُ ممَّن يُحسنُ الظّنَّ في نفسِهِ الظالمةِ الآثِمَة ، و يُسيءُ الظنّ في الآخرين .
هذه أمّهات صور الاستعجال ، وبالمثال يتّضحُ المقال ، فاللهم ثبّتنا على الرزانة والحِلم وجنّبنا الاستعجال والتسرّع . . نسأل الله السلامةَ والعافية ونسأله التوفيق إلى ما يحب ويرضى، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا،وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان . . .
المشاهدات 3168 | التعليقات 4

جزاكم الله خيراً ياشيخ رشيد على هذا طرق هذا الموضوع الهام وقد كان في نيتي أن أتحدث فيه فسبقتني إليه فجزاكم الله خيراً ومنكم نستفيد.


و إياكم أستاذ مراد ، نسأل الله لنا ولكم التوفيق و الفتح و الإعانة .


لقد قمت بتنزيلها على ملف ليسهل على الإخوة الأفاضل الاستفادة منها

جزاك الله خيرا شيخنا وبارك فيك وفي جهودك

المرفقات

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/2/3/7/7/العَجَلةُ%20أمُّ%20الندامات.doc

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/2/3/7/7/العَجَلةُ%20أمُّ%20الندامات.doc


بارك الله فيك أستاذ عبد الله وجعلها في ميزان حسناتك ، المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشُدُّ بعضُهُ بعضًا ، هكذا نكونُ أو لا نكونُ أخي الحبيب !
و لك منّي هذه الهديّة :

phuppimageylb.jpg