العتق من النار
عبدالله الغامدي
الخطبة الأولى:
إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
-أيُّها المباركون-: حديثُنا في رمضان، وأمنيتنا في رمضان، ورجاؤنا في رمضان، هو أن يعتق الله هذه الرقاب مِنْ النار، ولئن قيل: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّره، فقوة الدعاء بالشيء فرعٌ عن تصوُّر أهميته وعظمته. وحتى يكون دعاؤنا بهذه الأُمنية دعاء العالِم المستشعر لأهميتها وعظمتها؛ فدعونا نصبر وإياكم على الاستماع لشيء يسير من وصف النار التي نطلبُ العتق منها، صبرَ المريض الذي يصبر على تجرُّع دوائه المرِّ؛ لأنَّه يعلم أنَّ شفاءه فيه.
وقبل بداية هذا الحديث لا بدَّ مِنْ التقديم بمقدِّمة مهمة، وهي: أنَّ التخويف مِنْ النار ليسَ طريقةً لبعض الملتزمين المتشددين، بل هي طريقة ربِّ العالمين الذي يعلم ما يُصلح عباده المؤمنين:
فالله خوَّف بالنار ملائكته المقرَّبين فقال: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
وخوَّف بها نبينا ﷺ وهو أقرب الأنبياء والمرسلين فقال: (لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهً آَخَرَ فَتُلْقَى فِيْ جَهَنَمَ مَلُومًا مَدْحُورًا).
وأنذر بها ﷺ أصحابه مع شدة حبه لهم وشفقته عليهم فقال: (أنذرتكم النار، أنذرتكم النَّار!).
ولذلك كانَ الصالحون لا يستنكفون ويفرون من ذكر أخبار النَّار بل يعلمون أنَّ قلوبهم لا تصلح إلا بشيءٍ مِنْ تذكرها لذلك؛ فبلغوا بذلك من درجات العبادة والقرب ما بلغوا!
فهذا طاووس ¬ كان يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلب كما تقلّب الحبة على المقلى، ثم يثبت ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: "طيّر ذكر جهنم نوم العابدين!".
وقالت ابنة الربيع بن خثيم ¬ لأبيها: "يا أبت مالك لا تنام والناس ينامون؟ فقال: إن النار لا تدع أباك ينام!"
إذا ما الليل أظلم كابدوه *** فيسفر عنهمُ وهمُ ركوعُ
أطار الخوف نومهمُ فقاموا *** وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ
لهم تحت الظلام وهم سجودٌ *** أنينٌ منه تنفرجُ الضلوعُ
لقد كان الصالحون يتقون بهذه العبادة أن يكون لهم مكان في جهنم التي يتسعُ عمقها لجميع الخلق، وممَّا يُنبيك عن هذا ما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه قال: (كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ‘ إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ . قَالَ : قُلْنَا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا ، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا).
وقد وصف عذاب النَّار فقال عنه: (عذاب عظيم)، (عذاب مهين)، (عذاب أليم)، (عذاب شديد)، (عذاب الخلد)، (عذاب الحريق)، (عذاب الهون) وربُّنا سبحانه وتعالى إذا وصفَ لا يُضخّم ولا يبالغ؛ فمن أصدق من الله قيلا ومن أحسن من الله حديثا!
وأمَّا عن شرابِ وطعام ولباس أهل النَّار: فشرابهم من نار: (وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).
وأكلهم من نار: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ). وثيابهم من نار: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) ولا يوجد في النار إلا النار!
ولشدِّة عذابهم لا يُسمع من أصواتهم إلا الشهيق والزفير والصريخ: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)، (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ)
وكيف لا يشهقون ويزفرون ويصرخون وأهون أهلها عذابًا قد قَالَ عنه رَسُولُ اللهِ ‘: (إِنَّ أَهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا مَنْ لَهُ نَعْلَانِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ ، كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ ، مَا يَرَى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ مِنْهُ عَذَابًا ، وَإِنَّهُ لَأَهْوَنُهُمْ عَذَابًا). أمَّا أشدّهم عذابًا؛ فظنَّ شرًّا ولا تسأل عن الخبرِ!
كم من وعيدٍ خرَّق الآذانا *** كأنَّما يُعنى به سوانا!
اللهم أعتق رقابنا من النار، وأدخلنا الجنة مع الأبرار، أقول هذا القول وأستغفر لي ولكم الرحيم الغفَّار
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:
-أيُّها المباركون-: بعدَ هذه الـمُقدِّمة في وصفِ النَّار التي كدَّرت الخواطر، وأزعجت رُبَّما كثيرًا مِنْ النفوس؛ فلا بُدَّ أن يُبيَّن أنَّه ليسَ المقصدُ مِنها مُجرَّدُ التَّخويف أو التضييق أو التقنيط لعباد الله، وإنَّما هو حديثٌ ظاهره الشدة وباطنه الرأفة، فكيفَ لعاقلٍ أن يُقنَّط النَّاس مِنْ رحمة ربِّهم في شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران!
وإنَّما هي ذكرى تنفعُ المؤمنين لئلا تفوتنا فرصةُ العتق في أكثر وقت نقترب فيه من العتق؛ بسبب أنَّ دعاءنا بالعتق مِنْ النَّار قد يصدرُ بقلبٍ لاهٍ، وطلبٍ بارد، ودعاءٍ نادر، وإنَّما مَنْ يتذكَّر النَّار وأنَّها بهذه الصَّفة العظيمة؛ فالأصل أن يخرج منه الدعاء حينها بقلبٍ حاضر، ولسانٍ متضرَّع، وطلبٍ دائم.
ولعلَّ الدعاءَ إذا خرجَ على هذه الصَّفة؛ كتبَ اللهُ لصاحبه قرار عتقٍ مِنْ النَّار يمشي بقية حياته بين النَّاس وهو من أهل الجنَّة:
إنَّ الملوكَ إذا شابتْ عبيدهمُ *** في الرقِّ عتقوهم عتقَ أبرارِ
وأنتَ يا سيدي أولى بنا كرمًا *** قد شبتُ في الرقِّ فاعتقني مِن النَّارِ
(رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
هذا وصلّوا وسلّموا ....
المرفقات
1741941735_خطبة العتق من النار.docx
1741941747_خطبة العتق من النار.pdf