العبودية في الرضا عن الله.. والتسليم لشرعه.. والانقياد لحكمه

عبدالرحمن اللهيبي
1445/02/21 - 2023/09/06 15:05PM
خطبة منقولة بتصرف
 
 

عباد الله، إن المسلم الحق هو الذي يسلم لأمر الله ونهيه ، ويذعن لحكمه وشرعه.. فلا يجادل في دين الله ولا يعترض .. فربك هو الذي يخلق .. والذي يخلق هو الذي يحكم ولا معقب لحكمه فالله تعالى يقول: ( ألا له الخلق والأمر ) وقال تعالى: ( إن الله يحكم ما يريد ) وهو سبحانه الذي يعلم ما يضرّك وما ينفعك، وما يشقيك وما يسعدك أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ

فيا عبد الله .. واللهِ ما أمرك الحكيم إلا بما ينفعك ، ولا نهاك العليم إلا عما يضرك ، فلا تتبرم من شرعه، ولا تجادل في حكمه، ولا تخاصم ربك في أمره ونهيه؟!

ولقد ضرب لنا الله في كتابه مثلاً عظيما في التسليم لأمره والانقياد لحكمه .. دون اعتراض أو جدال أو منازعة، بل بقلوب ملؤها الاستجابة والامتثال والرضا ، وإليكم من ذلك مثالا فيه القدوة والعبرة لمن بصره الله وفتح على قلبه، إنه خليل الرحمن وإمام الحنفاء وأبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

فتأملوا يا مسلمون عظيم امتثال إبراهيم عليه السلام لربه في ترك زوجِه هاجرَ وطفلِه الصغيرِ بمكة ، وكانت مكةُ حينها واد غير ذي زرع.. قفراءُ موحشة .. لا ماء فيها ولا نبات .. ولا أحد من الناس هناك .. جاء بزوجه هاجر وابنِها إسماعيل من بلاد الشام ليضعهم في ذلك المكان الموحش المهجور، تركهم في العراء وحدهم حيث الوحوش والسباع، والجوع والضمأ ، فلا مسكن يؤويهم، ولا ماء يرويهم ، ثم تولى عنهم مرتحلا.. فنادته هاجر يا إبراهيم إلى من تتركنا إلى من تكلنا .. وهو يمض مرتحلا لا يجيب .. إلى أن قالت آلله أمرك بهذا؟ فقال اللهم نعم..

فقالت إذن لن يضيعنا الله .. فلا تدري والله ممن تعجب أتعجب من تنفيذ الأب لأمر ربه في ترك زوجته وطفله الرضيع .. أو تعجب من امتثال الزوجة لأمر ربها والرضا عنه في قبولها بالبقاء في مكان موحش مخيف ليس لهم فيه بشر ولا مسكن ولا طعام ولا شراب .. وكلهم راضون عن الله.. مسلِّمون لأمره.. لا يعترضون مطلقا على حكمه ، بل واثقين يقينا بأن الخير كل الخيرِ في امتثال أمره والتسليم لحكمه..

ولقد نجح نبي الله إبراهيم وأهلُه في هذا الامتحان العظيم وقد كان بانتظار إبراهيمَ عليه السلام امتحان وبلاء أشد منه وأعظم .. فحينما كبر ابنه إسماعيل وأصبح غلاما نجيبا رأى إبراهيم عليه السلام في منامه أن الله يأمره بذبح ولده إسماعيل ورؤيا الأنبياء وحي وحق

فعزم إبراهيمُ على تنفيذ أمر الله، وسلم وانقاد واستجاب لحكم الله .. لم يعترض أو يجادل أو يتردد.. فاسمع ما قصه الله علينا في كتابه: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ  

يا لله ما أعظمه من إيمان ويقين!

ويا لله ما أعظمها من طاعة وتسليم!

وأُمرت بذبْحك يا ولدي       فانظر في الأمر وعقباه

ويُجيب الطفل بـلا فزع:     افعل مـا تؤمـر أبتاه

لـن أعصـي لإلَهي أمرا          من يعصـي يوما مولاه

واستلّ الوالـد سكّينـا       واستسلم ابـن لرداه

ألقـاه برفـق لِجبيـن             كي لا تتلاقى عينـاه

أرأيـتـم قلبـا أبويـا              يتلقـى أمـرا يأبـاه

أرأيـتـم ابنـا يتلقـى             أمـرا بالذبح ويرضاه

فيا عجبا لنبي الله إبراهيم عليه السلام شيخ كبير مقطوع من الأهل والقرابة والولد، فيرزق على كبر بغلام طالما تطلع إليه، ولطالما دعا ربه وألح به عليه .. فلما جاءه بعد سنين من الأمل والدعاء ، وقد جاءه غلام يشهد له ربه بأنه غلام عليم ،وأنه غلام حليم. حتى إذا ما أنس به إبراهيم وبلغ معه السعي ورافقه في الحياة وازداد تعلق القلب به ، فإذا به يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة وحي من ربه للتضحية به

فماذا صنع إبراهيم ؟ هل تردد؟ هل خالجه شعور بالعصيان؟ كلا والله ما خطر له إلا خاطر الامتثال والتسليم. مع أنها رؤية، مجرد إشارة في المنام فحسب، ليست وحيًا جليا صريحًا نزل به جبريل عليه السلام، ولا أمرًا مباشرًا تكلم به الرحمن، ولكنها إشارة من ربه في المنام، وهذه تكفي ليلبي إبراهيم لربه ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يناقش، لم يلبي في انزعاج، ولم يستسلم في جزع، كلا، إنما هو تمام القبول والاستجابة والرضا ، وهذه هي حقيقة العبودية لله .. والله إن الأمر لشاق، إي وربي إنه لشاقّ، وما في ذلك من شكّ، وأشق من ذلك وأعظم أن إبراهيم عليه السلام هو المكلف بنفسه في تولى الذبحَ بيده، وليس له أن يكلف غيره بذلك ، ولقد سلم إبراهيم واستجاب ولقد امثلت زوجه هاجر من قبل حينما ابقاها في هذا البلد الموحش آنذاك ، وجاء الآن دور الابن ليستجيب لأمر الذبح ، إنها أسرة مؤمنة طيبة مستجيبة ممتثلة لأمر الله .. تعيش في الحياة محققة تمام العبودية لله وتدرك أنها في دار امتحان واختبار ، وأن الآخرة هي دار الجزاء والقرار، فيعرض إبراهيم عليه السلام على ابنه الذبح، وقد كان يمكنه أن يذبحه على حين غرة ويفجأه على بغتة، إلا أن إبراهيمَ يريد من ابنه أن يأخذ أمر الذبح عبودية وإسلامًا، لا قهرًا واضطرارًا؛ لينال بذلك إسماعيل أجرَ الطاعة والتسليم، وليتذوّق بذلك حلاوة الامتثال واليقين، والتي لا يعرف لذتها إلا عباد الله المتقين

فماذا كان رد الغلام الذي عُرض عليه الذبح ؟ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ))

 يا لله العجب

          افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ هكذا بكل بساطة.. يستجيب إسماعيل وهو صبي صغير من غير لجلجة ولا اعتراض ولا ارتياب. حقا إنه لغلام عليم حليم

          فيا لروعة الإيمان واليقين!

ويا لعظمة الامتثال والتسليم!

ونعم التربية التي ترباها إسماعيل على العبودية لله والامتثال لشرع الله

واليوم بات بعضهم يرتاب ويتشكك في محكمات الدين ويعترض عليها بكل عبث ، ويجادل فيها بكبرياء وهو يتناول فنجالا من القهوة أو كوبا من الماء

فيعرض أحكام رب العالمين على عقله القاصر الضعيف ليقرر ما يأخذ منها وما يذر ، وما هو سليم منها وما هو خطأ..

عبد مخلوق ضعيف يظن أنه قد بلغ مبلغ الخالق التشريع وأنه يحق له أن يخاصم ربه في حكمه ويعترض عليه في شرعه والله يقول: ( قل أأنتم أعلم أم الله )

{أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ

أقول قولي هذا...
 
 
عباد الله، وينتقل بنا السياق إلى الساعة الحاسمة، في قصة إبراهيم إلى تنفيذ أمر الله بالذبح، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . فيكب ابنه على جبينه استعدادًا لنحره، فإبراهيم لا يريد رؤية وجه ابنه وهو يكابد ألم الذبح فقلبه على وجه، والغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعًا، وقد وصل الأمر إلى نهايته، لقد أسلما .. نعم لقد أسلما .. هذا هو الإسلام في حقيقته، وهل الإسلام إلا الاستسلام والاستجابة والطاعة والرضا والانقياد والامتثال والتسليم

وبهذا كان الابتلاء قد تم، فقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح. وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، وهذا يكفي .. فالله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء، ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء ((" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم "  (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ

   وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ  قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ  إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ  وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ  وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ  سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ  كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ .
عباد الله: والله لقد ابتلانا الله بما هو دون ذلك من أوامر وطاعات يسيرة مقدور عليها لا مشقة فيها ولا عنت وابتلانا بمنهيات ومحرمات لا يعجزنا تركها وليس في فعلها إلا المضرة بنا

فهل نستجيب؟ وهل نمتثل؟ وهل نحقق الإسلام بمعناه الحقيقي وهو الاستلام لله..؟

هل نحقق العبودية لله ونقول لربنا سمعنا وأطعنا أم نقول كما قالت اليهود سمعنا وعصينا ..؟  

فهنيئا لأهل الامتثال والطاعة النجاح في اختبار العبودية في هذه الدنيا ، وهنيئا لهم الجنان والرضوان في الآخرة ..

فالله اجعلنا لشرعك من المتبعين ، ولحكمك من المسلمين ولأمرك ونهيك من الممتثلين..

هذا وصلوا وسلموا...

 
المشاهدات 318 | التعليقات 0