العبرة بوفاة سيد البشر

1434/03/12 - 2013/01/24 13:06PM
العبرة بوفاة سيد البشر


إن الحمدلله, نحمده ونستعينه ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله ... أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ... )


أيها المسلمون: في كلِّ جانب من جوانب حياة النبي r, نجد عِلمًا وحِكمةً وهدًى ورحمة ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ) لما أشرَقَتِ الدَّنيا برسالة النبيِّ r, ودَخَل الناس في دين الله أفواجًا, وبعد أن بلَّغ الرسالة, وأدَّى الأمانة, ونصح الأمّة, وبعد أن كشف الله به الغمّةَ, وأصبح الناس على المحجّة البيضاء, ليلها كنهارِها لا يزيغُ عنها إلا هالك .

وبعد أن قضى ثلاثًا وعشرين سنَة, في عبادة ربِّه وهداية الخلق، عندها نزلَت بالمسلمين أعظمُ مصيبة وأكبر فَاجعة، وذلك حين أذِن الله تعالى لنبيِّه بفراقِ الدنيا, فأنزَل الله عليه سورةَ النصر, إشعارا له بأنه فرَغ من مهَمَّتِه في الدّنيا، وأنّه سيودِّع أصحابَه قريبًا، وراجعٌ إلى ربه ليجزيَه الجزاء الأوفى ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) .

لقد أشار النبيّ r إلى اقتراب أجله, بما أعلَمَه الله تعالى من قربه كما في صحيح مسلمٍ أنَّ عليه الصلاة والسلام كان يقول لأصحابه في حجة الوداع " خذُوا عني مناسككم؛ لعلّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا " وفي لفظ " فإني لا أَدري لعلّي لا أحجُّ بعد حجّتي هذه " ولما نزل قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ) بكَى عمر t وقال: ليس بعد الكمالِ إلا النقص, مستشعرًا قُربَ أجل النبي r بانتهاء مهمّته .

وقدمت فاطمة t إلى أبيها فقال لها " مرحبًا بابنَتي " ثم أَسر لها حديثا فقال لها " إنَّ جبريلَ كان يعارضني القرآن كلَّ سنة مرةً، وإنه عارَضني العامَ مرتين، ولا أُراه إلاّ حَضَر أجلي، وإنك أوّلُ أهل بيتي لحاقًا بي " فبكت ثم قال لها " أمَا ترضين أن تكوني سيدةَ نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين؟! " فضحكت t .

عباد الله: وفي آخرِ شهر صفر خرج النبي r إلى البقيع مِن جوف الليل, فدعا لأصحابه واستغفَر لهم وقال " ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناسُ فيه، أقبلتِ الفتن كقِطَع الليل المظلم، يتبع آخرُها أوَّلَها، الآخرة شرٌّ من الأولى " ثم دعا لشهداءِ أحُد كالمودِّع لهم .

عباد الله: ثم بدأ الوجع مع النبي r, فأخذته حمّى شديدةٌ وصُداع شديد, فاستَأذن نسائه أن يمرَّض في بيت عائشة t فأذِنَّ له, ثم اشتدَّ به المرض حتى عجز يومًا عن الخروج إلى الصلاة فأغمي عليه ثم أفاق فقال " أصَلَّى الناس؟ " قيل: لا؛ هم ينتظرونَك يا رسولَ الله، فقال " ضَعوا لي ماءً في المخضب " ففعلوا فاغتسل، ثم ذهب لينهض فأغمِيَ عليه، ثم أفاق فقال " أصلَّى الناس؟ " قيل: لا هم ينتظرُونك، فاغتسل ثانية ثم أغمِيَ عليه، وثالثة كذلك، وفي كلِّ مرّةٍ يسأل عن الصلاةِ، فأرسل إلى أبي بكر t أن يصلّيَ بالناس، فصلّى بهم أيّامًا، وكان النبي r يقول في مرضه الذي مات فيه " يا عائشةُ، ما أزال أجِد ألَمَ الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من ذلك السمّ " وهكذا رُزِق النبيُّ r الشهادةَ بسبب سُمّ اليهودِ الخوَنَة, نقَضَت العهود وقَتَلَةِ الأنبياء, عليهم من الله ما يستحقون، فهم أخبثُ الأمَم طويَّةً، وأردَاهم سَجِيّة، وأبعدُهم من الرحمة، وأقربهم من النِّقمة، عادَتُهم البغضاء، وديدنهم العداوةُ والشحناء لا يرونَ لنبيٍّ حرمةً، ولا يرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة, ثم اشتدَّ الوجعُ على النبيِّ r, يقول عبد الله بن مسعود t: دَخلتُ على رسولِ الله r وهو يوعَك، فحسَستُه بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك تُوعَك وَعكًا شديدًا, فقال " أجل، إني أوعُك كما يُوعَك رَجُلان منكم " قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال " أجل، ما مِن مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاتِه وحُطّت عنه ذنوبه كما تحطُّ الشجرةُ ورقها " .

وفي يوم وجد النبيَّ r في نفسِه خفّةً، فخرج يُهادى بين رجلين, هما العباس وعلي بن أبي طالب t، فلمَّا رآه أبو بكرٍ t ذهَب ليتأخّر، فأومأ إليه النبي r بأن لا يتأخّر، وأُجلِسَ إلى جنبه، وأُتِمَّت الصلاة, يقول أبو سعيدٍ الخدريّ t قال: خرَج علينا رسولُ الله r في مرضه الذي مَاتَ فيه, ونحن في المسجِد, عاصبًا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال " إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عندَ الله " فبكَى أبو بكر الصدّيق وقال: فدَيناك بآبائِنا وأمّهاتنا يا رسول الله، فقال النبيُّ r " يا أبا بكر، لا تبكِ؛ إنَّ أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبتِه ومالِه أبو بكر، ولو كنتُ متّخِذًا خليلاً من أمتي لاتَّخذتُ أبا بكر، ولكن أخوّةُ الإسلام ومودَّته، لا يبقَى في المسجد بابٌ إلاّ سُدَّ إلا بابَ أبي بكر" .

وفي يوم الاثنين الذي توفي فيه, وبينما كان أبو بكر t يُصلّي بالناس, وهم صفوفٌ في الصلاة, يقول أنس t: كشَف النبيُّ r سِترَ الحجرة ينظرُ إلينا وهو قائمٌ كأنَّ وجهَه ورَقَة مصَحف، ثم تبسَّم يضحَك، فهَممنا أن نفتَتِن من الفرح برؤيةِ النبيِّ r, فنكَص أبو بكر على عقِبَيه ليصِلَ الصفّ، وظنَّ أن النبيَّ r خارج إلى الصلاة، فأشارَ إلينا النبيُّ r أن أتِمّوا صلاتَكم، وأرخى السّترَ، فتوفِّيَ من يومِه, وقد كان فرَحُهم رضي الله عنهم ظنًّا أنّه شُفيَ r وما علِموا أنها نظرةُ الوداع الأخيرة .
عباد الله: ولما نزل بالنبي r سكرات الموت, كان بين يديه ركوةٌ فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهَه ويقول " لا إلهَ إلا الله، إنَّ للموت سكراتٍ " تقول عائشةَ t لما نُزل برسول الله r طفِق يطرَح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمّ كشَفَها عن وجهِه، ومع مقاساةِ النبي r الشدائدَ ومعاناته آلامَ الموت إلاَّ أنه لم يَغفَل عن توجيهِ أمّتِه ولم يَتَوَقَّف عَن أداء رسالتِه، فكان يقول " لعنَةُ الله على اليهودِ والنصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ " ويقول أنس t: كانَت عامّة وصية رسول الله r حين حضَرَه الموت: الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم، الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم, حتى جعل يغَرغِر بها صدره, ثم نصب يدَه فجعل يقول " اللهم في الرفيق الأعلى " يردِّدها حتى قبِض ومالت يده .

ثم تسرّب الخبرُ بين الصحابة في لحظاتٍ، فضجّوا بالبكاء، وأظلَمَت عليهم الدنيا، واشتدّت الرزيّة، وعظم الخطبُ، وأخذوا يبكون، لا يدرون ما يصنَعون، وحُقَّ لهم؛ لقد غابَ الحبيبُ المصطفى r وماتَ، لقد افتقدوا مهجةَ قلوبهم, ومن كانَ ملءَ أسماعهم وأبصارهم، يقول أنس t قال: لما كانَ اليومُ الذي قدِم فيه النبي r المدينةَ أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلمَ منها كلّ شيء, ولما سمِع أبو بكر t الخبر، قدم ودخَل المسجدَ ولم يكلِّم أحدًا، حتى دخَل الحجرةَ الشريفة وعيناه تسيلان، فقَصَد النبيَّ r وهو مُسَجّى ببردة حَبِرة، ثم أكبّ عليه يقبّله ويبكَى ويقول: بأبي أنت وأمي، طِبتَ حيًّا وميّتًا, وصدق الله إذ يقول ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) .

بارك الله لي ولكم في الوحيَين، ورزقنا مرافقةَ سيِّد الثقلين، أقول




الحمدلله على إحسانه ... أما بعد :

عباد الله: لقد تَرَك النبيُّ r الدنيا وهو أكرمُ مخلوق على اللهِ، ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا مالاً, إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وتوفي r ودرعُه مرهونةٌ عند يهوديّ في شعير، توفّي وما شبِع ثلاثةَ أيام تِباعًا، ذاق اليتم، وتحملّ أعباء الرسالة، وواجه التكذيب والأذى والمطاردةَ وفراق الأوطان في سبيل الله، صبَرَ وصابر، وعفا وسامح، وربَّى أمّة خالدة، فيها الهدايةُ والإيمان والشريعةُ الباقية، تركَ أمّةً هي خير الأمم وأوسَطُها، ترك سيرة عطرةً لتكون منهاجا للأمة إلى يوم القيامة .

وقد كانت وفاةُ النبيِّ r في يومِ الاثنين, الثاني عشر من ربيع الأول في السنةِ الحادية عشرة من الهجرة, وقد غُسِّل النبيُّ r وعليه ثيابُه، فلم يُجَرّد كرامةً له، ثم دخَل الناس يصلّون عليه أفرادًا، ثم دُفن في موضِعِه الذي قبض فيه ليلة الأربعاء, وعلى هذا يقال للمحتفلين بالمولد النبوي, إن احتفالكم في يوم الثاني عشر من ربيع الأول, إساءة أدب وجفوة للرسول r لأنهم في الحقيقة يحتفلون بموته r وصاحب العقل السليم يدرك أن الفرح في تلك الليلة بمولده ليس بأولى من الحزن على وفاته r فإن الأمة ما أصيبت بأعظم من فقده r, سئل الشيخ ابن باز رحمه الله, عن الاحتفال بمولد النبي r فأجاب: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول r، ولا غيره؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول r لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حباً لرسول الله r ومتابعة لشرعه ممن بعدهم .

ألا فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أن فيما ثبت عن النبي r غُنيةٌ للمسلم وخير كثير، فلا تلتفتوا لما سوى ذلك من الشّذوذات والمبتدعات وما لم يثبت من المرويات، وحسبُكم ما كان عليه نبيّكم r وما كان عليه سلف الأمة .

ثم صلوا ...
المشاهدات 2293 | التعليقات 3

جزاك الله خيرا وأجزل لك المثوبة ..

هلَّا وضعتها في ملف وورد لتعم الفائدة ..


وجزاكم خيرا تم ارفاق ملف ورد


العبرة بوفاة سيد البشر


إن الحمدلله, نحمده ونستعينه ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله ... أما بعد:


فاتقوا الله عباد الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ... )


أيها المسلمون: في كلِّ جانب من جوانب حياة النبي r, نجد عِلمًا وحِكمةً وهدًى ورحمة ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ) لما أشرَقَتِ الدَّنيا برسالة النبيِّ r, ودَخَل الناس في دين الله أفواجًا, وبعد أن بلَّغ الرسالة, وأدَّى الأمانة, ونصح الأمّة, وبعد أن كشف الله به الغمّةَ, وأصبح الناس على المحجّة البيضاء, ليلها كنهارِها لا يزيغُ عنها إلا هالك .

وبعد أن قضى ثلاثًا وعشرين سنَة, في عبادة ربِّه وهداية الخلق، عندها نزلَت بالمسلمين أعظمُ مصيبة وأكبر فَاجعة، وذلك حين أذِن الله تعالى لنبيِّه بفراقِ الدنيا, فأنزَل الله عليه سورةَ النصر, إشعارا له بأنه فرَغ من مهَمَّتِه في الدّنيا، وأنّه سيودِّع أصحابَه قريبًا، وراجعٌ إلى ربه ليجزيَه الجزاء الأوفى ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) .

لقد أشار النبيّ r إلى اقتراب أجله, بما أعلَمَه الله تعالى من قربه كما في صحيح مسلمٍ أنَّ عليه الصلاة والسلام كان يقول لأصحابه في حجة الوداع " خذُوا عني مناسككم؛ لعلّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا " وفي لفظ " فإني لا أَدري لعلّي لا أحجُّ بعد حجّتي هذه " ولما نزل قوله تعالى ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ) بكَى عمر t وقال: ليس بعد الكمالِ إلا النقص, مستشعرًا قُربَ أجل النبي r بانتهاء مهمّته .

وقدمت فاطمة t إلى أبيها فقال لها " مرحبًا بابنَتي " ثم أَسر لها حديثا فقال لها " إنَّ جبريلَ كان يعارضني القرآن كلَّ سنة مرةً، وإنه عارَضني العامَ مرتين، ولا أُراه إلاّ حَضَر أجلي، وإنك أوّلُ أهل بيتي لحاقًا بي " فبكت ثم قال لها " أمَا ترضين أن تكوني سيدةَ نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين؟! " فضحكت t .

عباد الله: وفي آخرِ شهر صفر خرج النبي r إلى البقيع مِن جوف الليل, فدعا لأصحابه واستغفَر لهم وقال " ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناسُ فيه، أقبلتِ الفتن كقِطَع الليل المظلم، يتبع آخرُها أوَّلَها، الآخرة شرٌّ من الأولى " ثم دعا لشهداءِ أحُد كالمودِّع لهم .

عباد الله: ثم بدأ الوجع مع النبي r, فأخذته حمّى شديدةٌ وصُداع شديد, فاستَأذن نسائه أن يمرَّض في بيت عائشة t فأذِنَّ له, ثم اشتدَّ به المرض حتى عجز يومًا عن الخروج إلى الصلاة فأغمي عليه ثم أفاق فقال " أصَلَّى الناس؟ " قيل: لا؛ هم ينتظرونَك يا رسولَ الله، فقال " ضَعوا لي ماءً في المخضب " ففعلوا فاغتسل، ثم ذهب لينهض فأغمِيَ عليه، ثم أفاق فقال " أصلَّى الناس؟ " قيل: لا هم ينتظرُونك، فاغتسل ثانية ثم أغمِيَ عليه، وثالثة كذلك، وفي كلِّ مرّةٍ يسأل عن الصلاةِ، فأرسل إلى أبي بكر t أن يصلّيَ بالناس، فصلّى بهم أيّامًا، وكان النبي r يقول في مرضه الذي مات فيه " يا عائشةُ، ما أزال أجِد ألَمَ الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من ذلك السمّ " وهكذا رُزِق النبيُّ r الشهادةَ بسبب سُمّ اليهودِ الخوَنَة, نقَضَت العهود وقَتَلَةِ الأنبياء, عليهم من الله ما يستحقون، فهم أخبثُ الأمَم طويَّةً، وأردَاهم سَجِيّة، وأبعدُهم من الرحمة، وأقربهم من النِّقمة، عادَتُهم البغضاء، وديدنهم العداوةُ والشحناء لا يرونَ لنبيٍّ حرمةً، ولا يرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة, ثم اشتدَّ الوجعُ على النبيِّ r, يقول عبد الله بن مسعود t: دَخلتُ على رسولِ الله r وهو يوعَك، فحسَستُه بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك تُوعَك وَعكًا شديدًا, فقال " أجل، إني أوعُك كما يُوعَك رَجُلان منكم " قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال " أجل، ما مِن مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاتِه وحُطّت عنه ذنوبه كما تحطُّ الشجرةُ ورقها " .

وفي يوم وجد النبيَّ r في نفسِه خفّةً، فخرج يُهادى بين رجلين, هما العباس وعلي بن أبي طالب t، فلمَّا رآه أبو بكرٍ t ذهَب ليتأخّر، فأومأ إليه النبي r بأن لا يتأخّر، وأُجلِسَ إلى جنبه، وأُتِمَّت الصلاة, يقول أبو سعيدٍ الخدريّ t قال: خرَج علينا رسولُ الله r في مرضه الذي مَاتَ فيه, ونحن في المسجِد, عاصبًا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه, ثم قال " إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عندَ الله " فبكَى أبو بكر الصدّيق وقال: فدَيناك بآبائِنا وأمّهاتنا يا رسول الله، فقال النبيُّ r " يا أبا بكر، لا تبكِ؛ إنَّ أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبتِه ومالِه أبو بكر، ولو كنتُ متّخِذًا خليلاً من أمتي لاتَّخذتُ أبا بكر، ولكن أخوّةُ الإسلام ومودَّته، لا يبقَى في المسجد بابٌ إلاّ سُدَّ إلا بابَ أبي بكر" .

وفي يوم الاثنين الذي توفي فيه, وبينما كان أبو بكر t يُصلّي بالناس, وهم صفوفٌ في الصلاة, يقول أنس t: كشَف النبيُّ r سِترَ الحجرة ينظرُ إلينا وهو قائمٌ كأنَّ وجهَه ورَقَة مصَحف، ثم تبسَّم يضحَك، فهَممنا أن نفتَتِن من الفرح برؤيةِ النبيِّ r, فنكَص أبو بكر على عقِبَيه ليصِلَ الصفّ، وظنَّ أن النبيَّ r خارج إلى الصلاة، فأشارَ إلينا النبيُّ r أن أتِمّوا صلاتَكم، وأرخى السّترَ، فتوفِّيَ من يومِه, وقد كان فرَحُهم رضي الله عنهم ظنًّا أنّه شُفيَ r وما علِموا أنها نظرةُ الوداع الأخيرة .
عباد الله: ولما نزل بالنبي r سكرات الموت, كان بين يديه ركوةٌ فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهَه ويقول " لا إلهَ إلا الله، إنَّ للموت سكراتٍ " تقول عائشةَ t لما نُزل برسول الله r طفِق يطرَح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمّ كشَفَها عن وجهِه، ومع مقاساةِ النبي r الشدائدَ ومعاناته آلامَ الموت إلاَّ أنه لم يَغفَل عن توجيهِ أمّتِه ولم يَتَوَقَّف عَن أداء رسالتِه، فكان يقول " لعنَةُ الله على اليهودِ والنصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ " ويقول أنس t: كانَت عامّة وصية رسول الله r حين حضَرَه الموت: الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم، الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم, حتى جعل يغَرغِر بها صدره, ثم نصب يدَه فجعل يقول " اللهم في الرفيق الأعلى " يردِّدها حتى قبِض ومالت يده .

ثم تسرّب الخبرُ بين الصحابة في لحظاتٍ، فضجّوا بالبكاء، وأظلَمَت عليهم الدنيا، واشتدّت الرزيّة، وعظم الخطبُ، وأخذوا يبكون، لا يدرون ما يصنَعون، وحُقَّ لهم؛ لقد غابَ الحبيبُ المصطفى r وماتَ، لقد افتقدوا مهجةَ قلوبهم, ومن كانَ ملءَ أسماعهم وأبصارهم، يقول أنس t قال: لما كانَ اليومُ الذي قدِم فيه النبي r المدينةَ أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلمَ منها كلّ شيء, ولما سمِع أبو بكر t الخبر، قدم ودخَل المسجدَ ولم يكلِّم أحدًا، حتى دخَل الحجرةَ الشريفة وعيناه تسيلان، فقَصَد النبيَّ r وهو مُسَجّى ببردة حَبِرة، ثم أكبّ عليه يقبّله ويبكَى ويقول: بأبي أنت وأمي، طِبتَ حيًّا وميّتًا, وصدق الله إذ يقول ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ - ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) .

بارك الله لي ولكم في الوحيَين، ورزقنا مرافقةَ سيِّد الثقلين، أقول




الحمدلله على إحسانه ... أما بعد :

عباد الله: لقد تَرَك النبيُّ r الدنيا وهو أكرمُ مخلوق على اللهِ، ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا مالاً, إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وتوفي r ودرعُه مرهونةٌ عند يهوديّ في شعير، توفّي وما شبِع ثلاثةَ أيام تِباعًا، ذاق اليتم، وتحملّ أعباء الرسالة، وواجه التكذيب والأذى والمطاردةَ وفراق الأوطان في سبيل الله، صبَرَ وصابر، وعفا وسامح، وربَّى أمّة خالدة، فيها الهدايةُ والإيمان والشريعةُ الباقية، تركَ أمّةً هي خير الأمم وأوسَطُها، ترك سيرة عطرةً لتكون منهاجا للأمة إلى يوم القيامة .

وقد كانت وفاةُ النبيِّ r في يومِ الاثنين, الثاني عشر من ربيع الأول في السنةِ الحادية عشرة من الهجرة, وقد غُسِّل النبيُّ r وعليه ثيابُه، فلم يُجَرّد كرامةً له، ثم دخَل الناس يصلّون عليه أفرادًا، ثم دُفن في موضِعِه الذي قبض فيه ليلة الأربعاء, وعلى هذا يقال للمحتفلين بالمولد النبوي, إن احتفالكم في يوم الثاني عشر من ربيع الأول, إساءة أدب وجفوة للرسول r لأنهم في الحقيقة يحتفلون بموته r وصاحب العقل السليم يدرك أن الفرح في تلك الليلة بمولده ليس بأولى من الحزن على وفاته r فإن الأمة ما أصيبت بأعظم من فقده r, سئل الشيخ ابن باز رحمه الله, عن الاحتفال بمولد النبي r فأجاب: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول r، ولا غيره؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول r لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حباً لرسول الله r ومتابعة لشرعه ممن بعدهم .

ألا فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا أن فيما ثبت عن النبي r غُنيةٌ للمسلم وخير كثير، فلا تلتفتوا لما سوى ذلك من الشّذوذات والمبتدعات وما لم يثبت من المرويات، وحسبُكم ما كان عليه نبيّكم r وما كان عليه سلف الأمة .

ثم صلوا ...

المرفقات

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/2/3/8/0/العبرة%20بوفاة%20سيد%20البشر.doc

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/2/3/8/0/العبرة%20بوفاة%20سيد%20البشر.doc