العبرة بكمال النهاية لا نقص البداية

أ.د عبدالله الطيار
1439/09/25 - 2018/06/09 13:20PM

 الحمدُ لله رب العالمين، الذي أكرمنا بشهر رمضان، وبلغنا ليالي العشر منه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:  

فاتقوا الله أيها المؤمنون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}(آل عمران: الآية 102).

عباد الله: ها هي أيامُ شهرِ رمضانَ قد أوشكتْ على الانقضاءِ والرحيلِ، وها هي نفوسُ المؤمنينَ يصيبُها الحزنُ والأسى على فراقِها، لأنها أنستْ بمناجاةِ خالِقها ورازقِها، ووجدتْ فيها من النعيمِ العظيمِ من التلذِّذِ بقربِه ودعائِه ومناجاتِه، وذاقتْ حلاوةَ الطاعةِ من الصيامِ، والقيامِ، وتلاوةِ القرآنِ، والدعاءِ، والصلةِ، والبذلِ والعطاءِ، واستمتعتْ بتلاوةِ كلامِ ربِّها وسماعهِ وتدبرهِ، واستشعرتْ نعمةَ اللهِ عليها في الأنسِ والسعادةِ بطاعةِ مولاها.

عباد الله: علينا أن نغتنمَ ما تبقى من شهرِنا، فهلموا وسارعوا وجُدُّوا السيرَ فيما تبقى من أيامٍ عسى أن نكونَ ممن أكرمهم اللهُ تعالى بالفوزِ بالجنَّةِ والنجاةِ من النارِ.

والخيلُ إذا قاربتْ على الوصولِ جدَّت فيِ المسيرِ، وأخرجتْ أحسنَ ما عندهَا قبل نهايةِ السباقِ، والمؤمنُ يعلمُ أنه إذا أحسنَ فيما بقي غفر اللهُ له ما مضى، والعبرةُ بكمالِ النهايةِ لا بنقصِ البدايةِ، فبادروا بالأعمالِ في هذهِ الأيامِ والليالي المباركةِ فإن الإنسانَ لا يدري متى يفاجئهُ الأجلُ.

ويا من قصرتْ فيما مضى، جاهدْ نفسكَ فيما بقي، واعلمْ أنَّهُ لم يبقى إلا بضعةَ أيامٍ ويرحلُ عنك الشهرُ، فكن من المشمِّرينَ، وجاهدْ نفسكَ لتكونَ من المتنافسينَ على نيلِ فضلِ ليلةِ القدرِ، فربما تكونُ هذهِ الليلةُ هي الأخيرةُ في حياتِك.

أيها المؤمنون والمؤمنات: اعلموا أنَّ رسولَكم صلى الله عليه وسلم (كانَ إذَا دخلَ العشرُ شدَّ مئزرَه، وأحيا ليلَه، وأيقظْ أهلَه)(رواه البخاري)، فيحيي ليله بالصلاةِ، والذكرِ، وتلاوةِ القرآنِ، ويوقظُ أهلَه لينالوا الفضلَ والأجرَ. عن أمِ سلمةَ رضي الله عنها قالتْ: (لمَ يكنْ صلى الله عليه وسلم إذا بقي من رمضانَ عَشرةَ أيامٍ يدعُ أحداً يطيقُ القيامَ إلا أقامه)(رواه الترمذي).

ومن خصائصِ هذهِ العشرِ الأواخرِ: أنَّ فيها ليلةَ القدرِ، العبادةُ فيها خيرٌ من العبادةِ في ألفِ شهرٍ، وهي توازي عبادةَ ثلاثٍ وثمانينَ سنةً وما يقربُ من أربعةِ أشهرٍ، وهذا فضلٌ عظيمٌ لمن وفَّقه اللهُ تعالى..

وهذه الليلةُ تختصُّ بفضائلَ كثيرةٍ، ومن ذلك: أنَّ اللهَ أنزل فيها القرآنُ، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقال عز وجل: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، وأنَّ فيها يفرقُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ، أي يُفصلُ من اللوحِ المحفوظِ ما هو كائنٌ في السنةِ: من الأرزاقِ، والآجالِ، والخيرِ والشَّرِ، وأنَّ من قامها إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدمَ من ذنبِه.

وأنها ليلةٌ مباركةٌ، تتنزلُ الملائكةُ والروحُ فيها، ـ وهو جبريلُ عليه السلام ـ.

وهي ليلةُ سلامٍ حتى يطلعَ الفجرُ؛ لكثرةِ السلامةِ فيها من العقابِ، والعذابِ، بما يقومُ به العبدُ من طاعةِ اللهِ عزَّ وجل.

وأنَّ من أدركهَا واجتهدَ فيها ابتغاءَ مرضاتِ اللهِ فقد أدركَ الخيرَ كلَّه، ومن حُرمها فقد حُرِم الخيرَ كلَّه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاكم رمضانُ شهرٌ مباركٌ... وذكر أنَّ: لله فيه ليلةً خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرمَ خيرهَا فقد حُرِم) (رواه النسائي، وأحمد).

واحذروا من الانشغال بالمرائي وإرسال المقاطع في ذلك لما فيه من التثبيط عن الطاعة.

ومن خصائصِ هذهِ العشرِ اجتهادُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في قيامهَا اجتهاداً عظيماً، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دخلَ العشرُ أحيا الليلَ وأيقظَ أهلَه، وجدَّ وشدَّ المئزر)(رواه البخاري ومسلم).  وعنها رضي الله عنها قالت: (كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجتهدُ في العشرِ الأواخرِ ما لا يجتهدُ في غيره)(رواه أحمد).

وصدق الله العظيم:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر* تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر* سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر}(القدْر:5).

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والعظات والذكر الحكيم أقول ما سمعتم فاستغفروا الله يغفر لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ الذي علَّم أمتَه كلَّ خيرٍ، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن تقواهُ هي زادكُم ليوم المعادِ.

أيها الصائمون والصائمات: ومن خصائصِ هذهِ العشرِ: الاعتكافُ فيها، وهو لزومُ المسجدِ لطاعةِ الله تعالى، وهو سنةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم. عن عائشةُ رضي الله عنها، أنَّ النبَّي صلى الله عليه وسلم كان يعتكفُ العشرَ الأواخرَ من رمضانَ حتى توفاه اللهُ، ثم اعتكف أزواجُه من بعده)(رواه البخاري ومسلم).  

وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْر الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَان , فَسَافَرَ عَامًا فَلَمْ يَعْتَكِف , فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ اِعْتَكَفَ عِشْرِينَ)(رواه النسائي).

وكان صلى الله عليه وسلم يعتكفُ في العشرِ الأوسطِ من رمضانَ، فاعتكفَ عاماً

حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين قال: (من كان اعتكفَ معي فليعتكفْ العشرَ الأواخرَ فقد رأيتُ هذه الليلة ثم أُنسيتُها... فالتمسوها في العشرِ الأواخرِ والتمسوها في كلِّ وتر)(رواه البخاري).

ومن خصائصِها أيضاً: إخراجُ صدقةِ الفطرِ: فهي تجبُر نقصَ الصيامِ، وفيها تطهيرٌ للصائمِ من اللغوِ والرفثِ، ورفقاً بالفقراءِ، وإغناءٌ لهم ليفرحوا بالعيدِ ولا ينشغلوا بالسؤالِ، فرضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زكاةَ الفطرِ صاعاً من تمرٍ، أو من أي طعامٍ آخرَ، على العبدِ، والحرِّ، والذكرِ، والأنثى، والصغيرِ، والكبيرِ من المسلمين.

وهي تؤدى قبلَ العيدِ، ويجوزُ أن يخرجَها قبلَه بيومٍ، أو يومينِ. ويخرجُها المسلمُ عن نفسِه، وزوجتِه، وأولادِه، ووالديه المحتاجينَ إليه.

وتجبُ بغروبِ الشمسِ من آخرِ يومٍ من شهرِ رمضانَ، ويجوزُ التوكيلُ فيها لشخصٍ ثقةٍ، أو جمعيةٍ موثوقةٍ، وتُعطى للفقراءِ والمساكينَ.

ويجوزُ صرفُ زكاةِ الجماعةِ لواحدٍ من الفقراءِ، أو يقسمُ الصاعَ على أكثرَ من فقيرٍ، ويخرجُها المسلمُ في البلدِ الذي وجبتْ عليهِ فيه، ومن له أهلٌ في بلدٍ آخرَ فلا حرجَ أن يرسلَ بها إليهم ليفرقوها.

أسألُ اللهَ تعالى أن يتقبلَ من الجميعِ صيامَهم وقيامَهم، وأن يغفرَ لنَا ولكم التقصيرَ والزللَ، وأن يعيننا على الاجتهادِ في هذهِ الأيامِ المباركةِ، وأن يبلغنَا ليلةَ القدرِ وقيامِها إنه ولي ذلك والقادرُ عليه.

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب:٥٦).           

الجمعة: 23-9-1439هـ

المشاهدات 971 | التعليقات 0