العبرة بالخواتيم
الشيخ عصام بن عبدالمحسن الحميدان
بسم الله الرحمن الرحيم
العبرة بالخواتيم
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أنشأ وبرى، وخلق الماء والثرى، وأبدع كل شيء وذرا، لا يغيب عن بصره صغير النمل في الليل إذا سرى، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، أحمده على نعمه التي لا تزال تترى، وأصلى وأسلم على نبيه محمد المبعوث في أم القرى، وعلى آله وصحبه الذين انتشر فضلهم في الورى.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
عباد الله: نحن في ختام شهر رمضان المبارك، وقد مرت أيامه مسرعة، وهكذا تمضي الأيام الفرحة سريعاً بعكس اللحظات المحزنة:
زمان تقضى بالمسرة ساعة *** ويوم تقضى بالمساءة عامُ
والمهم أن نختم الشهر بالعمل الصالح ونثبت عليه، قال صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالخواتيم"(رواه البخاري).
نعم؛ العبرة بالخاتمة لأنها آخر عمل الإنسان وما ثبت عليه واستقر عليه؛ فمن الناس من يبدأ شهره بالتقصير والغفلة وفي نهاية الشهر يجتهد في العبادة، فهذا دليل خير؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبد عسله قالوا: وما عسله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه"(رواه أحمد بسند صحيح).
وخير منه من يبدأ الشهر بالاجتهاد ويختمه بالاجتهاد ويسأل الله القبول وهو خائف، سألت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قوله -سبحانه-: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)، أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويخافون العقاب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يا ابنة الصدِّيق، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويخافون ألا يتقبل منهم".
العبرة بالخاتمة لأنها نسخ للبداية؛ فاختيار الإنسان النهائي هو ما مات عليه واستقر عليه، ويبعث عليه يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "يبعث كل عبد على ما مات عليه".
العبرة بالخاتمة لأنها ما يذكر عن الإنسان بعد موته، والله -تعالى- يقول: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ)؛ أي ما يذكر عنهم بعد موتهم، ونحن نذكر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ونذكر ما مات عليه من الثبات، ولا نذكر سيئاته المتقدمة وعداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن ذلك نسخ بعمله الصالح وختم عمره بالصالحات، وكذلك خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وبقية الصحابة -رضي الله عنهم-.
العبرة بالخاتمة لأنها دليل على الثبات؛ قال صلى الله عليه وسلم: "لا تعجبوا بعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له"(رواه أحمد بسند صحيح)، وانظروا إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تعجبوا بعمل عامل"، دليل على عدم الاستعجال في الاغترار بالدعايات والشهرة وفتنة الإعلام والخطب العصماء، وإنما العبرة بم يختم له.
معاشر الصائمين: لم يتبق من شهر رمضان إلا القليل؛ فكيف يستدرك المؤمن بوقت قليل ما فاته من أول الشهر؟ وهل هناك فرصة للاستدراك؟ نعم: فإن هناك أناساً يبدأون في الأخير ويسبقون الأُوَل؛ كما قيل:
من لي بمثل سيرك المدلل*** تمشي رويداً وتجي في الأول
ويمكن التدارك بحجم العمل أي كثرته، أو عِظَمه في الإسلام، فنستطيع بإذن الله أن نسبق بمراحل من قام وتصدق وقرأ القرآن بما يلي:
أولاً: بقوة الإيمان، وحسن الظن به، وقوة التوكل عليه، والاستسلام الكامل لأمره؛ فإن هذه الاعتقادات الإيمانية الغيبية أفضل وأعظم بكثير من العبادات الجسدية؛ لذلك جعل الله -تعالى- الإيمان بالغيب أفضل أعمال المؤمنين؛ قال سبحانه: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ)، وقال سبحانه: (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) فقدمه على الصلاة، وقال عمر -رضي الله عنه-: "لا تغتروا بصلاة امرئ ولا بصومه، ولكن لا إيمان لمن لا أمانة له.
فلنجتهد في تقوية الإيمان واليقين بوعده والثقة بإجابته ونصره والرضا عن الله -سبحانه- وقدَره، والتفكر في آلائه والخشية منه وحسن الظن به والتواضع لعباده، وما فائدة من يصلِّي ويصوم الشهر كله وقلبه مريض بالحسد والكبر والشحناء، وسرعة التأثر بالسحرة والدجالين والشك في كلام الله ورسوله لأدنى شبهة!
ثانياً: بهداية أحد إلى الإسلام؛ فإنه حياة جديدة لمسلم مليئة بالعمل الصالح والإيمان، وهذا خير من عمل شهر بل شهور مليئة بالصلاة والصيام؛ قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير من الدنيا وما فيها"، وقد منّ الله على كثيرٍ من أهل الكتاب بالإسلام في شهور رمضان وغيره المخيَّمات الدعوية المنتشرة ولله الحمد، ودعم هذه المخيمات هو مساهمة في إنقاذ البوذيين وأهل الكتاب والمشركين من الضلال لأن فيها برامج توعوية مدروسة.
ثالثاً: بالعزم على تصحيح مسار حياتنا؛ فإن الله -تعالى- يحب التوابين؛ فمن عزم على تحسين أخلاقه، أو ترك الكبائر، أو مواصلة من قاطعهم، كان أحب إلى الله من أن يصوم ويقوم، وبالتوبة يبلغ الإنسان الدرجات العلى، كما في حديث قاتل المائة نفس الذي دخل الجنة بتوبته ولم يعمل صالحاً قط، والأصيرم من بني عبد الأشهل الذي أسلم قبل غزوة أحد فاستشهد فدخل الجنة وهو لم يصلّ لله قط.
ولا يزال في رمضان بقية للتوبة والتصحيح والتغيير والمعالجة.
وسِر عن قريبٍ واستجب واجتنب غداً *** وشمّر عن الساق اجتهاداً بنهضةِ
وكن صارماً كالسيف فالموت في عسى *** وإياك مهلاً فهي أخطر علةِ
وجذّ بسيف العزم سوف فإن تجُد *** تجد خيراً فالنفس إن جُدتَ جدَّتِ
نسأل الله -تعالى- أن يعيننا على أنفسنا ويعيننا على ذكره وشكره وهدايته وحسن عبادته.
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أيها المسلمون: الموفقون ليس لعملهم الصالح خاتمة، بمعنى أنهم أموات جسدياً ولكنهم أحياء روحياً وعملياً؛ فالناس صنفان موتى في حياتهمُ، وآخرون ببطن الأرض أحياءُ، وسيِّدهم وإمامهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي مات وفارق الدنيا؛ (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)، (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)، (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، ولكنه صلى الله عليه وسلم حيّ روحياً، بردِّه السلام؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يسلم عليّ إلا رد الله علي روحي حتى أردّ عليه السلام"، وحيّ بذكره الشريف بين الخلق في الأذان والصلاة وذكر أحاديثه الشريفة والعمل بها، وتذكُّر مواقفه وسيرته وجهاده صلى الله عليه وسلم، وكثرة الصلاة عليه.
ومن الأحياء بعد موتهم الذين لا ينتهي عملهم الصالح الصدقة الجارية؛ "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"(رواه مسلم).
ومن الأحياء بعد موتهم الشهداء الذين عند ربهم يرزقون.
ومن الأحياء بعد موتهم العلماء الربانيون والدعاة المصلحون وأعلام الأمة المخلصون، الذين يبقى أثر علمهم أو جهادهم أو دعوتهم في الأمة دهوراً.
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.
المرفقات
1742813159_الأعمال بالخواتيم.docx
1742813159_الأعمال بالخواتيم.pdf