العبادة في شعبان وفي زمن الفتن
د. منصور الصقعوب
الخطبة الأولى
يتحدث الأطباء والعارفون عن حكمة خلق الإنسان بهذه الطريقة, لماذا خلق الله يده هكذا, وأصابعه هكذا, وأذنيه هكذا, ويُرجعون كل شيء من خلقه لحكمة عظيمة تُبين حكمة الله في خلقه, ولكن, صاحب هذه الجوارح كلها, والذي خلقه الله فأبدع في خلقه لماذا أوجده الله وخلقه ؟.
بل وتقرأ في القرآن آياتٍ متتابعة ( هو الذي خلق لكم..) (هو الذي ذرأ لكم) (هو الذي سخر لكم) كل هذا لكم, فلأي شيء أنتم خلقتم؟ يا من خُلق الكونُ لكم, يا من خُلقت الأشجار والزروع لكم, يا من سخر الله الطير والحيوانات والريحَ لكم, يا من أرسى الأرض ونصب الجبال لكم, لأي شيء أنتم خلقتم؟
سؤال عرفناه صغاراً وتذاكرناه كباراً, لعبادة الله خلقنا ولطاعته أوجدنا.
أجل؛ وهل خُلق الإنسان وتوالت عليه نعم المنان إلا ليعبد الرحيم الرحمن, وما أعظم خسارة المرء يوم أن ينسى ما خُلق لأجله, وما أجهله يوم أن ينشغل بكل شيء إلا بعبادة ربه.
معشر الكرام: وإذا كان الإقبال على الله يُطلب في كل آن فإنه حين الغفلة عنه يتأكد, وفي زمن انشغال الناس عن العبادة يعظم ويُطلب.
وإن من أجلى صور المحب لله أن تراه يقبل عليه والناس منشغلون, وعن طاعته لاهون, فبينما الناس في دنياهم, في غدوهم ورواحهم, هو يقبل على الطاعة, لأن ربه أغلى عنده من كل شيء.
وليس ثمة شكٌ أن الطاعة في زمن الغفلة أشق على النفس منها في مواسم الطاعات الجماعية كرمضان, فليس سواءً صومٌ في رمضان, وصومٌ في غيره, لأن الأول يجد المجتمع المعين, والثاني يتعبد لوحده, وبلا إيجاب, فالدافع أقل, والمعين قليل, ولذا فهو عسير, ولا يوفق له إلا الموفقون.
وقد ورد في الأحاديث -أيها الكرام- حالتان ينشغل الناس فيهما عن الطاعة ويغفلون.
ففي زمن الفتن ينشغل الناس عن طاعة الله, ولذا قال النبي ج "العبادة في الهرج- والهرج أيام الفتن واختلاط الأمور، وحال القتل والحرب، وحال الخوف والذعر" كهجرة إلي". أي للنبي ج في فضلها.
يالله؛ الهجرة ! التي لها من الثواب جزيلُهُ ومن الأجر شريفُه, والتي أثنى الله على أهلها إذ ضحوا بالأهل والبلد لأجلها, ثوابها يُنال بالتعبد في زمن الفتن وتغير الأحوال, وهو زمن يُعَدّ مظنةَ الغفلة والانشغال.
حينما تدلهم الفتن وتتوالى المحن وتضطرب الأحوال يبقى الإنسان متلهفًا للخبر، متابعًا للحدث، باحثًا عن الحقيقة، يقلب القنوات ويتتبع الإذاعات، ويلهث خلف المواقع, ولكنه قد ينسى أمرًا عظيمًا، وسياجًا واقيًا، ودرعًا حصينًا، أرشد إليه المصطفى ج، إذا اشتدت الكروب، وعظمت الفتن، إنها العبادة على اختلاف أنواعها وأوقاتها، وتفاوت أفضالها وأزمانها.
كم أشغلتنا الأخبار, وكم فتكت بالمسلمين الفتن, ومهمٌ أن تعتني بحال المسلمين ولكن ذلك لا يكون على حساب حق الله في العبادة, وربنا بيده كشف الفتن وتغيير الحال إذا توجه له الناس.
لن تُغيِّر الحالَ حين ترى الأخبار والتحليلات, وتتابع المستجداتِ الساعات, وإنما قد تكون سبباً في التغيير حين تغيرُ حالك وتقبلُ على ربك وترفعُ له الدعوات, وتتقلبُ في العبادات {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم }
يا كرام: إنه لا ملاذ من الفتن, ولا مخرج من البلايا والمحن, ولا نجاة من العقوبات, ولا مفرّج للكربة عند حلول المصائب والمثُلات, إلا القرب من رب الأرض والسماوات, والتعبد والتذلل له, ولا فرار من الله إلا إلى الله
ولذا كان النبي إذا حزبه أمر لا يفزع للمحللين, ولا يذهب وقته في تلقي الأخبار, وإنما يتصل بخالق الكون -سبحانه -، يستمد منه العون، والمعافاة, وقال عنه بلال " كان إذا حزبه شيء فزع إلى الصلاة".
وفي الصحيح "استيقظ رسول الله ج ذات ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! وماذا فتح من الخزائن؟! أيقظوا صواحبات الحُجَر, فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة "
يا ترى لأي شيء توقظ صواحب الحجرات؟! ألِنظرٍ في الأخبار, أم لعبادة الواحد القهار, ومناجاتِه في الليل وأطرافِ النهار.
وحين رأى كثرة عدوه يوم بدر فزع إلى ربه, وألح في دعاءه ومناشدته, فنصره الله وأتمّ له الظفر.
معشر الكرام: أما والله لا يعجزُ اللهَ تغيير الحال في كل مكان وبلد من بلاد المسلمين في لحظة, ولكنه يتابع المحن لعل العباد يرجعون, ولتزداد الأجور, وليسمع دعاء عبده.
يا مؤمنون: الله يرى ويسمع, فأقبلوا عليه, وكِلوا الأمر له, وأبشروا, فكم من شدّةٍ رفعها, ومحنةٍ كشفها, كم مرّت على المسلمين من شدائد وبلايا, ومحنٍ ورزايا, أشد مما ترونه اليوم, وحين غيّرَ الناسُ حالهم, وأقبلوا على عبادة مولاهم, تحول البؤسُ عِزاً, والذلُّ تمكيناً.
وفوق هذا أيها الكرام, ففي مقول الرسول عليه الصلاة والسلام " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم .." اجتهدوا قبل وقوعها, وأقبلوا على الطاعة قبل حلولها, وافزعوا لها عند وجودها, فبذلكم تُرفع الفتن وتكشف الكرب.
عباد الله: وليست العبادة – حين يُشاد بها- مقصورةً على الصلاة ونحوها, بل هي أوسع من ذلك.
إن ثباتك على الدين في وقت الفتن, واستقامتك على الجادة, مهما كثرت الصوارف، أو طغت المغريات، أو لاح تهديد، أو عرض ترغيب، عبادة من أجل العبادات في زمن الفتن.
وتقلبك في صنوف القربات, قولِيها وعمليها, عبادةٌ من العبادات, ذكرٌ ودعاء, توبةٌ ورجاء, صلاةٌ وصيام, قرآنٌ وأخلاق وقيام, وزد, فما عند الله أعظم, ولكل عبادة فضيلة
في وقت الفتن وغفلة الناس زد من طاعاتٍ كنت تعملها, واسعَ في جمع الكلمة وإيصال النصيحة ورفع الغمة, وكن دلاّلاً للخير, داعيةً للبر, مُرهٍّباً من العصيان, منابذاً للفساد والطغيان, فكل ذلك تعبّد للرحمن.
اللهم أصلح فساد قلوبنا ووفقنا لاستغلال ما بقي من أعمارنا .
الخطبة الثانية:
واليوم أظلنا زمنٌ يغفل البعض فيه عن العبادة, ويلهون عنها, إنه شهر شعبان, قال النبي (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ )
شعبان يا مؤمنون شهرٌ مختلف عن سوابقه, وهو كالتهيئة لما بعده, هو موسم إعدادٍ وأخذِ أُهبة, وتعبدٍ وقُربة, ولذا: كان للنبي فيه شأن مختلف عما قبله, وكان يقول فيه (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاس عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِين)
إذن, فسبب العناية به أمران: غفلة الناس فيه, ورفع الأعمال لله فيه.
في شعبان تعرض الأعمال على ذي الجلال, ويُصعدُ بأعمال عامٍ عشته بحسناته وسيئاته, دُوِّنَتْ فيه أقوالُك وفِعالُك, فماذا تريد أن يُرفع لك إلى الله, وإذا كنت نسيت ما عملت فحسن أن يرفع العمل وأنت في عبادة, علّ الله يغفرُ ما خُطَّ من الإساءة.
عباد الله: ولأجل هاتين الحكمتين -غفلةِ الناس ورفع الأعمال- كان المصطفى ج يصوم شعبانَ كله, أو جُلّه, قالت عائشة ل "ما رأيت رسول الله أكثر صياماً منه في شعبان, كان يصوم شعبان كله, كان يصوم شعبان إلا قليلاً" متفق عليه
وأما السلف الصالحون فلهم في شعبان حالٌ بها لرمضان يتهيئون, ولأُهبة موسم الصوم يستعدون.
قال سلمة بن كهيل: كان يُقال: شهر شعبان شهر القراء
وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء.
وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبانُ أغلق حانوته و تفرغ لقراءة القرآن.
كل هذا يُطلعك على شيء يا مؤمن, وهو أن النفس أحوج ما تكون إلى الترويض للعبادة, لذا: فكونك تمهِّدُ لها قبل رمضان, سيجعل انتفاعك برمضان أبلغ, لأنك راءٍ كثيراً منا إذا ما جاء الشهر يعسُر عليه طول المكث في المسجد, يؤده طول القيام وتتابعُ التعبد, لكن الذين تهيؤا في شعبان لرمضان هو عليهم يسير.
لذا فأرِ الله من نفسك في شهرك الذي أظلّ خيراً, واجعل أيامه اليسيرة دروة تتهيأ بها لرمضان.
الصوم في شعبان من أجلّ الأعمال, وحين يطول النهار يعظم الأجر, ويدّخِرُ المرءُ ظمأ الهواجر فيه لحرّ الآخرة, والعطشَ فيه ليومٍ طويلٍ عطشُه, وشديدٍ حرُّه.
وكم سيفرح أقوامٌ حين يلقون الله فيرون طاعاتٍ عملوها, وقرباتٍ قدّموها, ذهب عناؤها وثبت بإذن الله أجرُها, فيفرح المرء عند طاعته لأنه مشى في رضى ربه, ويفرح في ختام عمله لأن الله أعانه, ويفرح يوم يلقى ربه لأنه غلب هواه وأطاع مولاه.
مضى رجبٌ وما أحسنت فيه وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيّع الأوقات جهلاً بحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللّذات قسرا ويُخلي الموت كُرها منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيمٍ فخير ذوي الجرائم من تدارك
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق