العارفون بالله
د. منصور الصقعوب
1437/08/12 - 2016/05/19 06:23AM
( العارفون بالله )
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي المن والإحسان, والإله الذي دانت له الكائنات, وخلق الإنس والجان, قدر فهدى, وأغنى وأقنى, ولا يعجزه شيء في الأكوان, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الإله المنان , سبقت رحمته غضبه فهو الرحيم الرحمن, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, وقدموا اليوم من العمل والطاعات , ما يسعد به المرء يوم يودع في قبره, ويوم أن يلقى ربه ( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ..) الآيه
عباد الله: حين يكون الحديث عن أعظم الأمور, وأجل الأشياء , فإن النفوس لا تمل, والألسن عن الإحاطة به تعجز, وعن الإطراء له لا تكل .
حديث اليوم لن يكون عن الخلائق ولا الآداب على عظيم أمرها, ولا عن الخلق والرموز وإن كان فيهم من يستحق الحديث, لكن الحديث اليوم عن ما هو أعظم من ذلك, إنه حديثٌ عن الله جل جلاله, وتقدست أسماءه, عن الإله الذي لا فوز إلا في طاعته, ولا عز إلا في التذلل لعظمته , ولا حياة إلا في رضاه ولا نعيم إلا في قربه .
عن اللهِ الذي ليس بنا غنى طرفةَ عينٍ عن فضله ورحمته .
وماذا عساه أن يبلغ من الثناء من أراد أن يثني على ربه, وهو الذي له العزة والكمال والكبرياء, ومهما زُيّن الكلام, وأزجي الثناء, على رب الأرض والسماء, فالله سبحانه لا يحصي أحدٌ من خلقه الثناء عليه .
يا أيها المبارك: من أين نبدأ؟ أَمِنْ بدائع الزرع وتنوع الكائنات, والسهول والجبال الراسيات, أم من السماء التي قد تزينت بنجومها, والتي خلق الله سمكها, وأعلى بناءها فلا يقدر أحد على النفوذ فيها, وأحسن بناءها فما لها من فروج
أم من الأرض التي خلق الله طباقها, وجعل فيها أوتادها, وقدر فيها أقواتها, وأمسك السماوات والأرض أن تزولا, وكل هذا شيء من دلائل عظمة المولى سبحانه
يا مؤمن: كم في الكون من خلق ما بين شجر ونبات, وحيوان وطير ودواب لا يحصيها إلا خالقها, ولا يحيط بها إلا ربها, وكل دابةٍ فعليه رزقها, وكل دابة فهي له مسبحه, ولعظمته خاضعه ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ...)
بل حتى الجماداتِ تسبح بحمد ربها, فتباً لابن آدم إذ يتجبر, وعن ربه والإقبال إلى مولاه يتكبر .
يسيرُ العباد في دنياهم, ويتقلبون في أحوالهم, والله يدبر أمورهم ويقدّر أحوالهم, في تدبير محكم, وتقديرٍ لا يلحقه خلل, والله أحكم الحاكمين, ولو كُشف القدر للناس لما اختار كل امرئ إلا ما قدره الله له .
ترتفع الدعوات من العباد سراً, إلى الملك سبحانه, فيسمعها السميع, ويجيب القريب المجيب, لا تختلط عليه الأصوات ولا تختلف عليه اللغات, فسبحان الذي وسع سمعه الأصوات .
الله؛ خلقك فسواك, وأبقى لك صحتك وقُواك, فلو تحرك منك ساكن, أو سكن منك عرق متحرك لرأيت العنت والنصب .
كم من بلاءٍ دفعه عنك ربك, ومصيبةٍ حماك منها بفضله ولطفه وهو اللطيف الخبير, تشتد بك الأمور, وتنغلق عليك الأبواب, وتنقطع الأسباب, وحينها فليس للعبد إلا رب الأرباب, كم من بليةٍ دفعها, وكربة كشفها, فإذا جدّ الجد, فليس للعبد إلا الله .
إلى من يلجأ المريض الذي أضناه المرض, ولمن يتجه المكروب الذي أقضّه الكرب, ولمن يفزع المحتاج الذي انقطعت حيلته , أليس الجميع يتجهون إلى الله القدير .
قُذف ابراهيم ; في النار الملتهبة, فنادى ربه حسبي الله ونعم الوكيل, فقال الله يا نار كوني برداً وسلاما .
طال البلاء بأيوب, فرفع يديه إلى مولاه وقال بضعة عشر حرفاً قلبت الأحوال:(رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) فما الرد؟ (فكشفنا ما به من ضر وآتينه أهله ومثله معهم ).
ويونس ;, والظلمات الثلاث قد ألقت عليه بظلالها , في قعر البحر وبطن الحوت وظلمة الليل, فلا من سامعٍ يسمع ولا من سببٍ ولا حيله , فتأتي الكلمة التي كانت سببا لنزول الرحمة , (لا إله إلا أنت سبحانك ...) فجاء الفرج, وبرحمة الرحيم وكرم الكريم, أُخرِج من بطن الحوت إلى قومٍ يبلغون مائةَ ألفٍ أو يزيدون فآمنوا بالنبي الكريم .
عباد الله: من الذي ينزل المطر, من الذي ينبت الزرع, من الذي يقدر المقادير، إنه الإله العلي القدير, ( قل أريتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ).
ولا يزال العبد يتقلب في نعمٍ من الله لا يحصي لها عدداً, ولا يقدر على إيفاء حقها شكراً, ولو قضى العبد كل عمره ساجداً لربه لما قام بحق أصغر نعمه
من الذي وفقك للإسلام وهداك لتوحيد, ورزقك سمعاً وبصراً, ولسانا وعقلاً
ها أنت الآن قد أتيت بقدميك, ولم تُقعِدك الإعاقة, ولم يطرحك المرض, خلّفت بيتك وأهلك وأولادك آمناً مطمئناً, ولله عليك في كل لحظه نعمه ومنّه, فكيف تبلغ شكرها
أيها المسلمون : إن مما يجعل المرء يطمئن في حياته أنه يمشي بتدبير الحكيم, فما من أمرٍ في الكون إلا والله شاهد, ومطلع عليه ومقدره, فلا تحزن أيها المكروب, ولا تفرح أيها المعرض, فالكل بنظر الله ( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) .
كم من عبدٍ حَذِرَ , فجاءه القدر, ولم يرد عنه الحذر, وكم من عبدٍ حرص على أمرٍ فحرمه واختار الله له غيره , فلا تحزن على فائت فما أنت إلا بتدبير الله, فما يعرض لك من قدر, ويحصل لك من أمر إلا وقد قدره الله وقضاه, قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنه , فعلام يحزن الإنسان .
يا أيها الناس: ما ذا يجلي المرء وماذا يذكر, وهو يتحدث عن عظمة الله, أيتحدث عن أسماء الله وصفاته, أم يتحدث عن مخلوقاته وآياته, أم يتحدث عن العرش والملائكة , أم عن الشمس والقمر, أم عن القرآن وإعجازه, فأينما قلبت بصرك , وبصيرتك وجدت دلائل العظمة لله ظاهره ,
ففي كل شيء له أيه تدل على أنه الواحد
ومع كل هذا : فنحن نعترف أننا قد قصرنا في معرفة الله , فما عرفناه حق معرفته, وما قدرناه حق قدره.
بيد أن ثمة أقواماً عرفوا الله حق المعرفة, فسعدوا حينها بدنياهم وسلكوا طريق سعادة أخراهم, فهم العارفون بالله وما أحرانا أن نتعرف على خصالهم علنا أن نسلك دروبهم ونلحق بركبهم .
وهذا ما نشير إليه بإذن الله في الخطبة الثانية, أقول ما سمعتم .
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده .
أيها المسلمون: إن العارف بالله هو الذي كلما قرب من الله بالطاعة وتأمل في دلائل عظمته ازداد منه خوفاً وخشية, ولذا فلربما رأيت العاصي المفرطَ آمنٌ من العذاب, ولسان حاله: أنا أحسنُ من غيري, لكن الصالحين لا تراهم إلا خائفين ولربهم مطيعين, فهداهم خوفهم لطاعة ربهم, وما ضرهم, فعند الصباح يحمد القوم السري, وعند الممات يحمد القوم التقى, لقد قالوا عن الثوري أنه : كان من يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق , أكثر ما تسمعه يقول يا رب سلم سلم .
وسأل أحدهم الحسن البصري: كيف حالك؟ فقال الحسن: ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر, فانكسرت سفينتهم, فتعلق كل انسان منهم بخشبةٍ على أي حال يكون ؟ قال الرجل : على حال شديدة , فقال الحسن : وحالي أشدُ من حالهم .
وبرغم كثرة طاعتهم, فإنهم خائفون وجلون, دموعهم من خشية الله نازلة, قالوا لأحدهم وقد اشتكى عينه, علاجك أن لا تبكي ثلاثة أيام, فقال: وما خيرٌ في عين لا تبكي من خشية الله, وقال قائلهم : إني لأنظر في أنفي كل يوم مراراً , مخافة أن يكون وجهي قد اسود, فلله ما أشد اتهامهم لأنفسهم .
والعارف بالله : تجده راضي النفس مطمئن القلب, مُسلِّماً أمره لمولاه, لأنه يوقن أنه لن يأتيه من الحكيم الرحيم, إلا الخيرَ والحكمة, إن أعطي شكر, وإن مُنِعَ أمراً رضي بقسمة الله ولسان حاله ومقاله : إن أمر المؤمن كله خير , فاختيار لله لي هو الخيرة , قَدِمَ سعدُ بن أبي وقاص إلى مكة, وكان مجاب الدعوة, وكان قد كَفَ بصرُه, فهرع الناس إليه كُل واحد يسأله أن يدعو له, قال عبدالله بن السائب : فقلت له يا عم , أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فردّ عليك بصرك, فتبسم وقال: يا بني قضاء الله عندي أحسن من بصري .
العارف بالله: هو الذي تقلّ عنه مرارة الأقدار, لأنها امتزجت بحلاوة المعرفة, فإذا جاء قدر مؤلم, ومصيبة مفجعة ذكر ثوابها وأجرها, وأيقن أن الدنيا دارُ بلاء وأكدار, وأن الراحة التامة هي في دار القرار, وأَنِسَ بالقرب إلى الله, وصبر في أيام دنياه على ما يعتريه من الآم ومصائب, ولسان حاله, ما قاله الإمام أحمد " إنما هي أيام قلائل , وما أعدل بالصبر شيئاً" أو تحسب أن من لم يصب, كمن أصيب فصبر واحتسب , وسلّم الأمر للرب, كلا والله , فما أبعد ما بين الرجلين , إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .
العارف بالله : لا يدعو إلا الله, ولا يتوكل على غير مولاه, وما له لا يتوكل على الله وهو الذي بيده كل شيء, ومن توكل عليه كفاه, فإذا دعا ربه ولم يرَ إجابه, لم يدخل في قلبه اعتراض, فإنه موقن أنه يدعو القريب المجيب , الذي خزائنه ملأى ولا يمنع من قٍّلٍ ولا عجز سبحانه, لكن اختياره لعبده خير من اختيار المرء لنفسه, وكم من أمر دعا به المرء, وكانت الخيرة في أن لا يجاب, أو تتأخر إجابته.
فإذا لم يرَ العارفُ بالله الإجابة اطمئن لتقدير الله, وعلم أن القائل (ادعوني استجب لكم) يستجيب إذا حان الوقت المناسب, فلم يعجل ولم يضجر .
العارف بالله أيها الفضلاء: محبٌ لله, ويوم أن كثرت الدعاوى وطولب المحبون بالبينة, أدلى الصالحون ببينة صِدق محبتهم لربهم, حينما تركوا ذنوبهم , وهجروا المحرمات وإن كان فيها لذتهم, إذا سمعوا النداء قاموا مجيبين, لم يقعدهم برد ولا ظلمة, وإذا حرم الله أمراً, صبروا أنفسهم على تركه, خوفاً من عقوبة الله ووعيده, وحياء من الله أن يستعينوا بنعمه على معصيته, ولم يكونوا كمن آثر لذة ساعة وشهوة نفسه على طاعة ربه فغلبه الشيطان وباء بالخسران .
عبد الله: هذه بعض صفات العارفين بالله , ولمحات من أحوالهم, فإن رمت اللحاق فاسلك دروبهم وأبشر حينها براحة الدنيا وفوز الآخرة, وأمن الدنيا والآخرة ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .
أما والله لقد مضى منهم أقوام وارتحلوا, وما ضرهم ما فاتهم من لذائذ الدنيا, ولكنهم حمدوا العاقبة يوم أن نزلوا بربهم فرأوا عاقبة صالح اعمالهم, وعند القدوم على الله فكم سيندم من فئام, على تفريطهم في جنب الملك العلام, وكم سيفرح من قوم على صبرهم على الطاعات وعن الآثام, فكن عاقلاً واعمر دار المقام الأبدي, والخلود السرمدي , ولا تغتر بزخرف دنيا زائل فها هم القوم يساقون إلى المقابر, ولا يعودون, وأنت على الدرب, فكن مستعداً للّحاق بالركب, فالعيش ليس هنا, والاجتماع ليس هنا, والنعيم ليس هنا واللذات ليست هنا, بل هناك في دار بناها الرحمن وجيرانها الأنبياء والصالحون , فلا كدر فيها ولا تنغيص, ولا هم ولا حزن , ولا موت ولا هرم. ( فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز )
اللهم اجعلنا ممن قدرك حق قدرك, وأعنا على ذكرك وشكرك , وأرضنا بقضائك, وبارك لنا في قدرك.
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي المن والإحسان, والإله الذي دانت له الكائنات, وخلق الإنس والجان, قدر فهدى, وأغنى وأقنى, ولا يعجزه شيء في الأكوان, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, الإله المنان , سبقت رحمته غضبه فهو الرحيم الرحمن, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله, وقدموا اليوم من العمل والطاعات , ما يسعد به المرء يوم يودع في قبره, ويوم أن يلقى ربه ( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ..) الآيه
عباد الله: حين يكون الحديث عن أعظم الأمور, وأجل الأشياء , فإن النفوس لا تمل, والألسن عن الإحاطة به تعجز, وعن الإطراء له لا تكل .
حديث اليوم لن يكون عن الخلائق ولا الآداب على عظيم أمرها, ولا عن الخلق والرموز وإن كان فيهم من يستحق الحديث, لكن الحديث اليوم عن ما هو أعظم من ذلك, إنه حديثٌ عن الله جل جلاله, وتقدست أسماءه, عن الإله الذي لا فوز إلا في طاعته, ولا عز إلا في التذلل لعظمته , ولا حياة إلا في رضاه ولا نعيم إلا في قربه .
عن اللهِ الذي ليس بنا غنى طرفةَ عينٍ عن فضله ورحمته .
وماذا عساه أن يبلغ من الثناء من أراد أن يثني على ربه, وهو الذي له العزة والكمال والكبرياء, ومهما زُيّن الكلام, وأزجي الثناء, على رب الأرض والسماء, فالله سبحانه لا يحصي أحدٌ من خلقه الثناء عليه .
يا أيها المبارك: من أين نبدأ؟ أَمِنْ بدائع الزرع وتنوع الكائنات, والسهول والجبال الراسيات, أم من السماء التي قد تزينت بنجومها, والتي خلق الله سمكها, وأعلى بناءها فلا يقدر أحد على النفوذ فيها, وأحسن بناءها فما لها من فروج
أم من الأرض التي خلق الله طباقها, وجعل فيها أوتادها, وقدر فيها أقواتها, وأمسك السماوات والأرض أن تزولا, وكل هذا شيء من دلائل عظمة المولى سبحانه
يا مؤمن: كم في الكون من خلق ما بين شجر ونبات, وحيوان وطير ودواب لا يحصيها إلا خالقها, ولا يحيط بها إلا ربها, وكل دابةٍ فعليه رزقها, وكل دابة فهي له مسبحه, ولعظمته خاضعه ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ...)
بل حتى الجماداتِ تسبح بحمد ربها, فتباً لابن آدم إذ يتجبر, وعن ربه والإقبال إلى مولاه يتكبر .
يسيرُ العباد في دنياهم, ويتقلبون في أحوالهم, والله يدبر أمورهم ويقدّر أحوالهم, في تدبير محكم, وتقديرٍ لا يلحقه خلل, والله أحكم الحاكمين, ولو كُشف القدر للناس لما اختار كل امرئ إلا ما قدره الله له .
ترتفع الدعوات من العباد سراً, إلى الملك سبحانه, فيسمعها السميع, ويجيب القريب المجيب, لا تختلط عليه الأصوات ولا تختلف عليه اللغات, فسبحان الذي وسع سمعه الأصوات .
الله؛ خلقك فسواك, وأبقى لك صحتك وقُواك, فلو تحرك منك ساكن, أو سكن منك عرق متحرك لرأيت العنت والنصب .
كم من بلاءٍ دفعه عنك ربك, ومصيبةٍ حماك منها بفضله ولطفه وهو اللطيف الخبير, تشتد بك الأمور, وتنغلق عليك الأبواب, وتنقطع الأسباب, وحينها فليس للعبد إلا رب الأرباب, كم من بليةٍ دفعها, وكربة كشفها, فإذا جدّ الجد, فليس للعبد إلا الله .
إلى من يلجأ المريض الذي أضناه المرض, ولمن يتجه المكروب الذي أقضّه الكرب, ولمن يفزع المحتاج الذي انقطعت حيلته , أليس الجميع يتجهون إلى الله القدير .
قُذف ابراهيم ; في النار الملتهبة, فنادى ربه حسبي الله ونعم الوكيل, فقال الله يا نار كوني برداً وسلاما .
طال البلاء بأيوب, فرفع يديه إلى مولاه وقال بضعة عشر حرفاً قلبت الأحوال:(رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) فما الرد؟ (فكشفنا ما به من ضر وآتينه أهله ومثله معهم ).
ويونس ;, والظلمات الثلاث قد ألقت عليه بظلالها , في قعر البحر وبطن الحوت وظلمة الليل, فلا من سامعٍ يسمع ولا من سببٍ ولا حيله , فتأتي الكلمة التي كانت سببا لنزول الرحمة , (لا إله إلا أنت سبحانك ...) فجاء الفرج, وبرحمة الرحيم وكرم الكريم, أُخرِج من بطن الحوت إلى قومٍ يبلغون مائةَ ألفٍ أو يزيدون فآمنوا بالنبي الكريم .
عباد الله: من الذي ينزل المطر, من الذي ينبت الزرع, من الذي يقدر المقادير، إنه الإله العلي القدير, ( قل أريتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ).
ولا يزال العبد يتقلب في نعمٍ من الله لا يحصي لها عدداً, ولا يقدر على إيفاء حقها شكراً, ولو قضى العبد كل عمره ساجداً لربه لما قام بحق أصغر نعمه
من الذي وفقك للإسلام وهداك لتوحيد, ورزقك سمعاً وبصراً, ولسانا وعقلاً
ها أنت الآن قد أتيت بقدميك, ولم تُقعِدك الإعاقة, ولم يطرحك المرض, خلّفت بيتك وأهلك وأولادك آمناً مطمئناً, ولله عليك في كل لحظه نعمه ومنّه, فكيف تبلغ شكرها
أيها المسلمون : إن مما يجعل المرء يطمئن في حياته أنه يمشي بتدبير الحكيم, فما من أمرٍ في الكون إلا والله شاهد, ومطلع عليه ومقدره, فلا تحزن أيها المكروب, ولا تفرح أيها المعرض, فالكل بنظر الله ( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) .
كم من عبدٍ حَذِرَ , فجاءه القدر, ولم يرد عنه الحذر, وكم من عبدٍ حرص على أمرٍ فحرمه واختار الله له غيره , فلا تحزن على فائت فما أنت إلا بتدبير الله, فما يعرض لك من قدر, ويحصل لك من أمر إلا وقد قدره الله وقضاه, قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنه , فعلام يحزن الإنسان .
يا أيها الناس: ما ذا يجلي المرء وماذا يذكر, وهو يتحدث عن عظمة الله, أيتحدث عن أسماء الله وصفاته, أم يتحدث عن مخلوقاته وآياته, أم يتحدث عن العرش والملائكة , أم عن الشمس والقمر, أم عن القرآن وإعجازه, فأينما قلبت بصرك , وبصيرتك وجدت دلائل العظمة لله ظاهره ,
ففي كل شيء له أيه تدل على أنه الواحد
ومع كل هذا : فنحن نعترف أننا قد قصرنا في معرفة الله , فما عرفناه حق معرفته, وما قدرناه حق قدره.
بيد أن ثمة أقواماً عرفوا الله حق المعرفة, فسعدوا حينها بدنياهم وسلكوا طريق سعادة أخراهم, فهم العارفون بالله وما أحرانا أن نتعرف على خصالهم علنا أن نسلك دروبهم ونلحق بركبهم .
وهذا ما نشير إليه بإذن الله في الخطبة الثانية, أقول ما سمعتم .
الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده .
أيها المسلمون: إن العارف بالله هو الذي كلما قرب من الله بالطاعة وتأمل في دلائل عظمته ازداد منه خوفاً وخشية, ولذا فلربما رأيت العاصي المفرطَ آمنٌ من العذاب, ولسان حاله: أنا أحسنُ من غيري, لكن الصالحين لا تراهم إلا خائفين ولربهم مطيعين, فهداهم خوفهم لطاعة ربهم, وما ضرهم, فعند الصباح يحمد القوم السري, وعند الممات يحمد القوم التقى, لقد قالوا عن الثوري أنه : كان من يراه كأنه في سفينة يخاف الغرق , أكثر ما تسمعه يقول يا رب سلم سلم .
وسأل أحدهم الحسن البصري: كيف حالك؟ فقال الحسن: ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر, فانكسرت سفينتهم, فتعلق كل انسان منهم بخشبةٍ على أي حال يكون ؟ قال الرجل : على حال شديدة , فقال الحسن : وحالي أشدُ من حالهم .
وبرغم كثرة طاعتهم, فإنهم خائفون وجلون, دموعهم من خشية الله نازلة, قالوا لأحدهم وقد اشتكى عينه, علاجك أن لا تبكي ثلاثة أيام, فقال: وما خيرٌ في عين لا تبكي من خشية الله, وقال قائلهم : إني لأنظر في أنفي كل يوم مراراً , مخافة أن يكون وجهي قد اسود, فلله ما أشد اتهامهم لأنفسهم .
والعارف بالله : تجده راضي النفس مطمئن القلب, مُسلِّماً أمره لمولاه, لأنه يوقن أنه لن يأتيه من الحكيم الرحيم, إلا الخيرَ والحكمة, إن أعطي شكر, وإن مُنِعَ أمراً رضي بقسمة الله ولسان حاله ومقاله : إن أمر المؤمن كله خير , فاختيار لله لي هو الخيرة , قَدِمَ سعدُ بن أبي وقاص إلى مكة, وكان مجاب الدعوة, وكان قد كَفَ بصرُه, فهرع الناس إليه كُل واحد يسأله أن يدعو له, قال عبدالله بن السائب : فقلت له يا عم , أنت تدعو للناس فلو دعوت لنفسك فردّ عليك بصرك, فتبسم وقال: يا بني قضاء الله عندي أحسن من بصري .
العارف بالله: هو الذي تقلّ عنه مرارة الأقدار, لأنها امتزجت بحلاوة المعرفة, فإذا جاء قدر مؤلم, ومصيبة مفجعة ذكر ثوابها وأجرها, وأيقن أن الدنيا دارُ بلاء وأكدار, وأن الراحة التامة هي في دار القرار, وأَنِسَ بالقرب إلى الله, وصبر في أيام دنياه على ما يعتريه من الآم ومصائب, ولسان حاله, ما قاله الإمام أحمد " إنما هي أيام قلائل , وما أعدل بالصبر شيئاً" أو تحسب أن من لم يصب, كمن أصيب فصبر واحتسب , وسلّم الأمر للرب, كلا والله , فما أبعد ما بين الرجلين , إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب .
العارف بالله : لا يدعو إلا الله, ولا يتوكل على غير مولاه, وما له لا يتوكل على الله وهو الذي بيده كل شيء, ومن توكل عليه كفاه, فإذا دعا ربه ولم يرَ إجابه, لم يدخل في قلبه اعتراض, فإنه موقن أنه يدعو القريب المجيب , الذي خزائنه ملأى ولا يمنع من قٍّلٍ ولا عجز سبحانه, لكن اختياره لعبده خير من اختيار المرء لنفسه, وكم من أمر دعا به المرء, وكانت الخيرة في أن لا يجاب, أو تتأخر إجابته.
فإذا لم يرَ العارفُ بالله الإجابة اطمئن لتقدير الله, وعلم أن القائل (ادعوني استجب لكم) يستجيب إذا حان الوقت المناسب, فلم يعجل ولم يضجر .
العارف بالله أيها الفضلاء: محبٌ لله, ويوم أن كثرت الدعاوى وطولب المحبون بالبينة, أدلى الصالحون ببينة صِدق محبتهم لربهم, حينما تركوا ذنوبهم , وهجروا المحرمات وإن كان فيها لذتهم, إذا سمعوا النداء قاموا مجيبين, لم يقعدهم برد ولا ظلمة, وإذا حرم الله أمراً, صبروا أنفسهم على تركه, خوفاً من عقوبة الله ووعيده, وحياء من الله أن يستعينوا بنعمه على معصيته, ولم يكونوا كمن آثر لذة ساعة وشهوة نفسه على طاعة ربه فغلبه الشيطان وباء بالخسران .
عبد الله: هذه بعض صفات العارفين بالله , ولمحات من أحوالهم, فإن رمت اللحاق فاسلك دروبهم وأبشر حينها براحة الدنيا وفوز الآخرة, وأمن الدنيا والآخرة ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) .
أما والله لقد مضى منهم أقوام وارتحلوا, وما ضرهم ما فاتهم من لذائذ الدنيا, ولكنهم حمدوا العاقبة يوم أن نزلوا بربهم فرأوا عاقبة صالح اعمالهم, وعند القدوم على الله فكم سيندم من فئام, على تفريطهم في جنب الملك العلام, وكم سيفرح من قوم على صبرهم على الطاعات وعن الآثام, فكن عاقلاً واعمر دار المقام الأبدي, والخلود السرمدي , ولا تغتر بزخرف دنيا زائل فها هم القوم يساقون إلى المقابر, ولا يعودون, وأنت على الدرب, فكن مستعداً للّحاق بالركب, فالعيش ليس هنا, والاجتماع ليس هنا, والنعيم ليس هنا واللذات ليست هنا, بل هناك في دار بناها الرحمن وجيرانها الأنبياء والصالحون , فلا كدر فيها ولا تنغيص, ولا هم ولا حزن , ولا موت ولا هرم. ( فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز )
اللهم اجعلنا ممن قدرك حق قدرك, وأعنا على ذكرك وشكرك , وأرضنا بقضائك, وبارك لنا في قدرك.