الظل.. آية كبرى ونعمة عظمى

محمد بن عبدالله التميمي
1443/01/18 - 2021/08/26 20:40PM

الظل.. آية كبرى ونعمة عظمى

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، فإنما مثلها كظل فيء التلول عن قريب يزول.

عباد الله.. بيّن سبحانه وتعالى أن هذا الكون كله خاضع له، وأنه يسجد له أهل السموات والأرض طوعًا وكرهًا، وتسجد له ظلالهم بالغدو والآصال، تسجد له ظلال المخلوقات أول النهار وآخره، وسجود كل شيء بحسب حاله.

فالظل من خلق الله من النعم العظيمة، والمنافع الجليلة، والآيات الكبرى. قال جل وعلا: { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا} فعدّد الله من نعمه: الظلال، فهي تقي من حر الشمس الذي لا تحتمله الأبدان، ولا يبقى معه ولا دونه الإنسان، ففي الآية امتنان بنعمة الإلهام إلى التوقي من أضرار الحرّ، وما هيّأه لعباده من نعمة الظل التي تغمر الناس ولا يحسّون بها، ولكن إذا حرموها يعرفون مقدار الإنعام، كالذين في بلاد التي لا ماء يرطّب جوها، ولا نسيم عليلَ يُطفيءُ حرها.

ومما يدل على أن الظل من النعم العظيمة: أن الله تعالى نفى التساوي بين الظل والحرور، فجعل الظل نعمة قارنها الله عز وجل بالفرق بين العمى والإبصار، وبين الظلام والنور، حيث قال: { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} فأخبر تعالى في هذه الآية أنه لا يتساوى الأضداد.

وأخبر تعالى أنه بسط الظل ومدّه، وأنه جعله متحركًا تبعًا لحركة الشمس، ولو شاء لجعله ساكنًا لا يتحرك، فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } يقول ابن القيم وهو يبين دلالة قدرة الله تعالى في هذه الآية: «ثم أخبر أنه قبضه بعد بسطه قبضًا يسيرًا، وهو شيء بعد شيء لم يقبضه جملة، فهذا من أعظم آياته الدالة على عظيم قدرته، وكمال حكمته، فندب الرب سبحانه عباده إلى رؤية صنعته وقدرته وحكمته في هذا الفرد من مخلوقاته، ولو شاء لجعله لاصقًا بأصل ما هو ظل له.. ففي مدّه وبسطه، ثم قبضه شيئًا فشيئًا من المصالح والمنافع ما لا يخفى ولا يحصى، فلو كان ساكنًا دائمًا، أو قبض دفعة واحدة لتعطلت مرافق العالم ومصالحه به» ويقول رحمه الله في تعداد بعض منافعه: «وفي دلالة الشمس على الظلال ما تعرف به أوقات الصلوات، وما مضى من اليوم، وما بقي منه، وفي تحركه وانتقاله ما يبرد به ما أصابه من حر الشمس، وينفع الحيوانات والشجر والنبات، فهو من آيات الله الدالة عليه»

عباد الله.. ومما يدل أيضًا على أن الظل من النعم الجليلة: أن الله تعالى جعل الظل ليستروح فيه بعد النصب والتعب‏، كما حدث مع نبي الله موسى عليه السلام بعد أن سقى للفتاتين. قال تعالى: { فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} وكذا جعل الله من نعمه على بني إسرائيل أنه سخّر لهم السحاب ليظلهم، فقال: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} فلما عصوا ربهم، رفع الجبل من فوقهم، فبدا لهم كأنه ظلة، يقول تعالى: { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} وبيّن الله تعالى أنه لما ظلم قوم شعيب عليه السلام، وكذّبوا رسولهم، وطفّفوا الكيل، وبخسوا الناس أشياءهم، انتقم الله منهم بعذاب يوم الظلة، وبيّن أن عذاب يوم الظلة عذابٌ عظيم، والظلة: سحابة أظلتهم فأضرمها الله عليهم نارًا، فأحرقتهم، قال تعالى في قوم شعيب عليه السلام: { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}.

عباد الله.. وفي الدار الآخرة من نعيم أهل الجنة: الظل، وقد وصف الله تعالى ظل الجنة بأنه ظليل، فقال تعالى: { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا } ووصفه بأنه دائم، فقال: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } ووصفه بأنه ممدود، فقال: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وبيّن في موضع آخر أنها ظلال متعددة، منها قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} ظلال الأشجار، وظلال القصور.

فالظل في الجنة دائم ممدود لا نهاية له؛ لأن الجنة ليس فيها شمس، بل هي ظل، وصفها بعض السلف بأنها كالنور الذي يكون قرب طلوع الشمس، تجد الأرض مملوءة نورًا، ولكن لا تشاهد شمسًا، وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُود})

وكما كان الظل عقابا لبني إسرائيل وقوم شعيب فهو لأهل النار عقاب، وقد وصف الله تعالى ظل أهل النار بقوله: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} وهو دخان جهنم الأسود، الذي لا يقي حرًا، ولا يدفع عطشًا، ولا يجد المستظل به مما يشتهيه لراحته سوى شرر النار الهائل. وقد وصفه الله بأنه: {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} يعني: ليس باردًا يقيهم الحر، ولا كريم حسن المنظر يتنعمون به ويستريحون فيه، فهو لا بارد كما هو الشأن في الظل، ولا كريم، أي: حسن المظهر؛ لأنه دخان كريه منظره، حار مخبره، نسأل الله العافية.

الخطبة الثانية

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيرًا عنيفًا، ومرتحلة ارتحالًا سريعًا، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها؛ ولهذا مثّلت بالظل؛ فإنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة، ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل البصيرة الباطنة، في الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب قال في ظل شجرة في يوم حار، ثم راح وتركها)

 

المرفقات

1630010419_الظل.. آية كبرى ونعمة عظمى.docx

1630010419_الظل.pdf

المشاهدات 1342 | التعليقات 0