الظلم في الميراث
هلال الهاجري
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، أَمَّا بَعْدُ:
فَفِي وَسَطِ غَزوةِ أُحُدٍ المُثيرةِ، وبَينَ تِلكَ الأَحدَاثِ الخَطِيرةِ، يَتَذَكَّرُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ رُجلاً مِن أَصحَابِهِ، فَيَقُولُ لِزَيْدِ بنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (أُطْلُبْ سَعْدَ بنَ الرَّبِيْعِ، فَإِنْ رَأَيْتَهُ، فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: يَقُوْلُ لَكَ رَسُوْلُ اللهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟)، يَقُولُ: فَطُفْتُ بَيْنَ القَتْلَى، فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ، وَبِهِ سَبْعُوْنَ ضَرْبَةً، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: عَلَى رَسُوْلِ اللهِ السَّلَامُ وَعَلَيْكَ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَجِدُ رِيْحَ الجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُم عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ وَفِيْكُم عَينٌ تَطْرُفُ، ثُمَّ فَاضَتْ نَفْسُهُ.
تَرَكَ سَعدٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ زَوجَتَهُ وابنَتيهِ، فَحَزِنَا عَلى فِرَاقِهِ أَشَدَّ الحُزنِ، وَزَادَ مُصِيبَتَهُم مَا حَدَثَ لَهُم مِن الظَّلمِ، فَمَا الذي حَدَثَ؟ .. جَاءَتْ امْرَأَةُ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ بِابْنَتَيْهَا مِنْ سَعْدٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قُتِلَ أَبُوهُمَا مَعَكَ فِي أُحُدٍ شَهِيدًا، وَإِنَّ عَمَّهُمَا أَخَذَ مَالَهُمَا، فَلَمْ يَدَعْ لَهُمَا مَالًا، وَلَا يُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، فَقَالَ: (يَقْضِي اللهُ فِي ذَلِكَ)، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَمِّهِمَا، فَقَالَ: (أَعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأُمَّهُمَا الثُّمُنَ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ لَكَ).
اللهُ أَكبَرُ .. بِبَركَةِ أَمَثَالِ هَؤلاءِ الشَّهَدَاءِ، تَتَنزَّلُ آيَاتُ العَدلِ مِنَ السَّمَاءِ، فَبِنُزُولِ آيَاتِ المَوَاريثِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أُسدِلَ السِّتَارُ عَلى قَصَصِ مِنَ الظُّلمِ دَامَتْ عَلى مَدَى دُهُورٍ وسِنِينَ، قَد حُرِمَ فِي الجَاهِليَّةِ مِن المِيرَاثِ كَثيرٌ مِنَ النَّساءِ والبَنَاتِ والبَنِينَ، بِحُجَّةِ أَنَّهُ لا يَستَحِقُ المِيراثَ إلا مَن قَاتَلَ عَلَى ظُهُورِ الخَيلِ، وَطَاعَنَ بِالرُّمحِ، وَضَارَبَ بِالسَّيفِ، وَحَازَ الغَنِيمَةَ.
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ .. هَل لاحظتُم أَنَّ اللهَ تَعالى هُو الذي تَولَّى بِنَفسِهِ تَوزيعَ المِيرَاثِ عَلى أَصحَابِ الحُقُوقِ، وجَعَلَها فَرِيضَةً يَجِبُ العَمَلُ بِهَا عَلى كُلِّ مَخلُوقٍ، (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا)، وسَمَّاهَا حُدُوداً حَتَى يَقِفَ عِندَهَا المُطيعُ فَيُؤجَرَ، وَمَن تَجَاوزَهَا فَفِي نَارِ جَهَنَمَ يُسجَرُ، فَقَالَ سُبحَانَهُ: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ).
والعَجِيبُ أَنَّنَا لا زِلنَا نَسمَعُ فِي هَذَا الزَّمانِ، أَنَّ هَنَاكَ مَن يَتَلاعَبُ فِي حُدُودِ الرَّحمَانِ، فَيَأَكُلُ مِيرَاثَ الإخوانِ الأَخَواتِ، أَو يَنتَقِصُ حُقُوقَ الأَيتَامِ والزَّوجَاتِ، بِطُرُقٍ مِنَ المَكرِ والدَّهَاءِ والاحتِيَالِ، وحُجَجٍ بَاطِلَةٍ لِيَأَخُذَ العَقَارَ والأَموَالَ، فَأَينَ سَيَذهَبُ مِن القَويِّ الكَبيرِ المُتَعالِ، يَقُولُ أَحدُهم: بَعدَ أَن مَاتتْ أَمي بِسِنِينَ، دَعَاني خَالي وهُو فِي سَكَراتِ المَوتِ، فَأَخرَجَ لِي مَالاً كَثيراً وَقَالَ لي: هَذا مِيراثُ أُمِّكَ مِن أَبينَا والذي حَرمتَهَا مِنهُ، فَخُذهُ لَكَ ولإخوَتِكَ، فَقَالَ لَهُ: دَعهُ عِندَكَ فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهُ، فَإنَّ أَمي قَد أَخبَرتنَا أَنَّها تَنتَظِرُكَ عِندَ اللهِ تَعالى لِتَأَخُذَ حَقَّهَا.
وَمِن الظُّلمِ الذي يَقَعُ مِنَ المَيِّتِ قَبلَ مَوتِهِ فِي المِيرَاثِ أَن يَخُصَّ بَعضَ الوَرَثَةِ بِوَصيَّةٍ، وَقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)، أَو يَخُصَّ بَعضَ الأَبنَاءِ والبَنَاتِ بِعَطَاءٍ قَبلَ وَفَاتِهِ، مِن مَالِهِ أو أَرَاضِيهِ أو شَرِكَاتِهِ أَو عَقَارَاتِهِ، وَقَد جَاءَ رَجُلٌ لِيُشهِدَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ عَلى عَطِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ، فَقَالَ: (أفعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِك كُلِّهم؟)، قَالَ: لا، قَالَ: (فَلا تُشهِدْني إذَن؛ فَإنِّي لا أَشهَدُ عَلى جَورٍ)، تَقُولُ إحدَاهُنَّ: واللهِ لا أَستَطيعُ أَن أَترَّحَمَ عَلى أَبي، ولا أَدعُو لَه بِالمَغفِرةِ، كُلَّمَا تَذَكَّرتُ أَنَّهُ ظَلَمَني فِي المِيراثِ، وَسَجَّلَ العَقَاراتِ باسمِ إخواني الذُّكورِ، وبَدَلَ أَن يُواسُوني وَيَكُونُوا لِي أَبَّاً بَعَدَ الأَبِّ، وَجدتُ نَفسِي وَحِيدَةً أَصَارِعُ غَلاءَ الإيجَارَاتِ، وأُقَاتِلُ الفَقرَ حَتى أَجِدَ لُقمَةَ الحَياةِ.
أقُوْلُ قَوْلِي هَذا وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا، أما بعد:
وَمِن الظُّلمِ الذي يَقَعُ عَلى الأَخَوَاتِ، أَن تُحرَمَ مِن الأَراضِي والعَقَاراتِ، بِحُجَّةِ أَنَّ هَذِهِ أَملاكٌ خَاصَةٌ بالرِّجَالِ، أَو أَنَّ زَوجَهَا وأَولادَهَا لَيسوا مِن العَائلَةِ أَو القَبيلَةِ، (قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)؟، ومِنهُم مَن يَأكُلُ أَموالَ الصِّغَارِ، لأَنَّهُم لا يَعرِفُونَ الدِّرهَمَ والدِّينَارِ، وَقَد قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ: اليَتِيم وَالمَرْأةِ)، يَعنَي: أُلْحِقُ الحَرَجَ وَهُوَ الإثْمُ بِمَنْ ضَيَّعَ حَقَّهُمَا، وَأُحَذِّرُ مِنْ ذلِكَ تَحْذِيرًا بَليغًا، وَأزْجُرُ عَنْهُ زجرًا أكيدًا، وَمَن لَم يَرتَدِعْ فَوَيلٌ لَهُ ثُمَّ وَيلٌ لَهُ مِنَ النَّارِ: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا).
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ .. إنَّ مِنَ الخَطَأِ التَّأَخُرَ فِي قِسمَةِ المِيراثِ بَعدَ العَزاءِ، خَاصَّةً إن كَانَ هُنَاكَ مُحتَاجُونَ فِي الوَرَثَةِ مِن رِجَالٍ ونِسَاءٍ، فَتَجِدُ الأَخَ الأَكبَرَ وَهُوَ فِي خَيرٍ وَسَعَةٍ يَنتَظِرُ ارتِفَاعَ العَقَارِ، وإخوَانُهُ وأَخوَاتُهُ بِينَ مَطرَقَةِ الغَلاءِ وسِندَانِ الإيجَارِ، واسمَعْ إلى أَنينِ المَحَاكِمِ مِن قَضَايا القَطِيعَةِ والخِصَامِ، بِينَ الآبَاءِ والأَبنَاءِ والأَشِقَّاءِ وَذَوي الأَرحَامِ، وَصَدَقَ اللهُ تَعَالى: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا)، قَالَ أَهلُ التَّفسِيرِ: (أَيْ: تَأَكلُونَ المِيرَاثَ أَكلاً شَدِيدَاً).
فَالحَذَرَ الحَذَرَ مِنَ الاعتِدَاءِ عَلى مِيرَاثِ الضُّعفَاءِ، فَإنَّ لَكُم وإيَّاَهُم بَينَ يَدي اللهِ لِقَاءٌ، والمُفْلِسُ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْعُدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْتَصَّ مَا عَلَيْهِ مِنَ الخَطَايَا، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ.
اللهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حَقًّا وارقنا اتباعَه، وَأَرِنا البَاطِل بَاطِلًا وارزقنا اجتِنَابَه، اللهمَّ وَسِّعْ لَنَا في دُورِنا، وَبَارِك لَنَا في أَرزَاقِنَا وَأَزوَاجِنَا وَذُريَّاتِنَا، وَتَقَبَّلْ صَالحاتِ أَعمَالِنَا، وَاغفرْ لَنَا ذُنوبَنَا، وَاغفِر لأَموَاتِنا يَا ذَا الجَلالِ والإكرامِ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ مِنَ الخَيرِ كُلِّهِ، عَاجلِهِ وَآجلِهِ، مَا عَلِمنَا مِنهُ وَمَا لم نَعلمْ، وَنَعوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجلِهِ وَآجلِهِ، مَا عَلِمنَا مِنهُ وَمَا لم نَعلَمْ، اللهمَّ وَفِّقْ خَادِمَ الحَرمينِ الشَّريفينِ وَوَليَّ عَهدِه لِمَا تُحِبُّ وَتَرضَى، خُذ بِنواصيهِمَا لِلبِّرِّ وَالتَّقوَى، وَاجعلهُمَا سِلمَاً لأوليَائكَ، حَربَاً عَلى أَعدَائكَ، ووفِّقْهُمَا لِمَا فِيهِ خَيرٌ للإسلامِ وَصَلاحُ المُسلمينَ.
المرفقات
1735795353_الظلم في الميراث.docx
1735795360_الظلم في الميراث.pdf