الظلم في المواريث
عبدالرحمن سليمان المصري
الظلم في المواريث
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الذي يَحكُمُ بِالحقِّ قَطعاً ، وَيَجزِي كُلَّ نَفْسٍ بِما تَسْعَى ، وَإِلَيْهِ المآبُ والرُّجْعَى ، وأَشهدُ أن لا إِلهَ إِلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّمَ تَسليماً كَثيراً ، أمَّا بَعدُ :
أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالى فهيَ وصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.
عبادَ اللهِ : جُبِلَتْ النُّفوسُ على حُبِّ المَالِ والتَّعلُقِ بهِ ، وقدْ أَعْطَى اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِلأَحْياءِ حَقَّ التَّصرفِ بِأَمْوالهِمْ في حُدُودِ الشَّرعِ ، وبَيَّنَ لِعبَادِهِ كَيفِيَّةِ انْتِقَالِ المَالِ مِنَ المَيتِ .
وَقدْ تَولّى اللهُ جَلَّ وعَلَا بِنَفْسِهِ قِسْمَةَ التَّرِكَاتِ ، فَبَيَّنَ لِكُلِّ وَارِثْ مَا لهُ منَ التَّرِكَةِ ، وَفَصَّلَ أَحَكْامَهَا تَفْصَيلاً تَاماً ، بِخِلافِ كَثِيرٍ منْ أَبوابِ الفِقهِ الَّتي جَاءتْ مُجمَلةً في كِتَابِ اللهِ ، وَفَصَّلّتْهَا السُّنةُ النَّبويةِ كَالصَّلاةِ والزَّكاةِ ونَحْوِها ، وّذَلِكَ مَنْعاً لِلنُّفوسِ الضَّعِيفةِ المَفْتُونةِ بِالمالِ ، منْ أَنْ تَتَلاعبَ بِأَمْوَالِ الوَرَثةِ ، وَلِكَي يَرضَا المُؤْمِنُ وَيُسَلِّمُ لِشَرعهِ وَقَضَائهِ وَقِسْمَتهِ.
وقَدْ ذَكَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلا آيَاتِ المَوَارِيثِ في سُورَةِ النِّسَاءِ، في ثَلاثِ آيَاتٍ ، وَصَفَهَا في الآيةِ الأُولَى ؛ بِأَنَّها فَرِيضةٌ تَعَبُدِّيةٌ ، قال تعالى :﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ ، وفي الآيةِ الثَانِيةِ بِأَنَّها وَصِيَّةٌ إِلَهِيَّةٌ ، فقال: ﴿ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ ، وفي الآيةِ الثَالِثَةِ أنَّ الضَلالَ وَالزَّيغَ لمِنْ تَعَدَى أَمْرَ رَبِّهِ ، فقال: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ النساء: 176.
عباد الله : إنَّ الوَاجِبَ على الوَرَثةِ بَعدَ وَفَاةَ مُوَرِّثِهمْ ، السَّعيُ في قَضَاءِ دَينِ المَيِّت ِمنَ التَّركةِ ،لأَنَّ المَيِّتَ نَفْسُهُ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حتَّى يُقْضَى عَنْهُ ، ثُمَّ تَنْفيذُ وَصِّيتِهِ فِيمَا دُونَ الثُّلثْ ، ولَا يَجُوزُ الوَصِيَّةُ لأَحَدٍ منَ الوَرَثةِ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " رواه ابن ماجة وصححه الألباني.
ثُمَّ مَا بَقِيَ بعدَ الدُّيونِ والوَصِيَّةِ ، فَهُوَ مَالُ الوَرَثةِ ، ويَجِبُ المُبَادرةُ بِقِسمَةِ التَّرِكةِ ، وعلى الوَرَثةِ أَنْ يَتّقُوا اللهَ عزَّ وجَلْ بِإِعْطَاءِ كُلَّ وَارثٍ حَقّهُ الشَّرعِيُّ .
وَلِيَعلَمْ المُسلِمُ أَنَّ قِسْمَةَ المِيرَاثِ أَمَانةٌ مِنَ الأَمَانَاتِ الَّتِي أَمرَ اللهُ بِأَدَائِهَا، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾، فَلا مَجَالَ لِلْمُجَامَلَةِ ، أو لِلرَّأْيِ والهَوَى .
عباد الله: وَيَحرُمُ تَأْخِيرُ قِسْمَةِ التَّركةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ؛ فَتَمْضِي الْأَشْهُرُ وَالسَّنَواتُ وَالتَّرِكَةُ لَمْ تُقْسَمْ، وَلَمْ تُؤدَّ الحُقُوقُ لِأَصْحَابِهَا .
كَمَا أنَّ إِخْفَاءَ بَعْضِ التَّرِكَةِ ، لِيَنتفعْ بِها البَعْضُ ، أو التَحَايُلَ في قِسْمَةِ التَّركةِ ، بِإسْقَاطِ حُقُوقِ الوَرَثةِ أوْ بَعْضِها ، أوْ المُمَاطَلةِ في قِسمَةِ المَيراثِ لِيَنْتفِعَ البَعْضُ بِالمَالِ ، أوْ لِلإِضْرارِ بِالبَعضِ ، أوْ لِإلَجائِهمْ إلى التَّنازُلِ عنْ حُقُوقِهمْ ، أو التَّنازُلِ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ .
كُلُّ ذَلكَ منْ كَبَائِرِ الذُّنوبِ ، وهُوَ أَكْلٌ لِأَموَالِ النَّاسِ بِالباطلِ ، ومِنَ الظُّلمِ المُتَوَعَدِ عَلَيهِ بِالعذَابِ الأَلِيمِ يَومَ القِيامَةِ ، وهُوَ منْ قَطِيعةِ الرَّحمِ ، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها : " مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ ، مِنَ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ " رواه الترمذي بسند صحيح .
وهَذَا يَحدُثُ غَالِباً لِلضَّعَفَةِ مِنَ الوَرَثَةِ كَالمرْأَةِ وَالطِّفلِ وَالشَّيخِ الكَبِيرِ، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾.
وقال ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ " رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
أَيْ: أُلْحِقُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ ، وأشدد في ذلك بِمَنْ أَضَاعَ حَقَّ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ .
والوَاجِبُ على الأُسْرَةِ التَّعَاوُنُ فِيمَا بَينَهمْ ، لمَنْعِ التَّعَدِّي على أَموَالِ الضُّعَفَاءِ مِنَ الوَرَثةِ ، وَنُصْحِ الْمُعْتَدِيْ وَتَذْكِيرِهِ وَتخْوِيفهِ بِاللهِ ، أَوْ إِبْلاَغِ الْجِهَاتِ الْمَعْنِيَّةِ بِشَأْنِهِ لِكَفِّهِ عَنْ ظُلْمِهِ.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً ، أمَّا بعدُ :
عباد الله : كَانَ أَهلُ الجَاهِليَّةِ قَبلَ الإِسلامِ ، لَا يُوَرِّثُونَ النِّساءَ ولَا الصِّغارِ من الذُّكورِ ، وَيَجْعَلونَ المَالَ لِلكَبِيرِ منَ الأَبْناءِ ، أوْ لِأَخِ المَيِّتِ أوْ العَمِ ، وَيَقُوُلُونَ: لَا يُعطَى المَالُ إِلَّا لِمنْ يَحمِي الذِّمارَ ، ويَأْخُذَ بِالثَأرِ ، فَأَبْطَلَ اللهُ هذَا الحُكمَ المَبنِّي على الجَهْلِ والظُّلمِ ، وَفَرضَ لِلنِّساءِ ولِلصِّغارِ نَصِيباً مِنْ تَرِكةِ المَيِّتِ ، قَلَّتْ التَّرِكةُ أوْ كَثُرتْ ، قال تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾
عباد الله : إِنَّ الظُّلمَ في المِيرَاثِ يُسَبِّبُ المُعَانَاةِ لِلمَحرُومِينَ ، ويَقْطَعْ أَوْاصِرَ الأُسْرَةِ والقُرْبَى ، حتَّى بَاتَ أَفْرادُ الأُسرَةِ الوَاحِدةِ أَعدَاءً مُتَنَاحِرينَ ، فَكَمْ مِنْ اِمْرَأَةٍ حُرِمَتْ مِنْ مِيرَاثِهَا، وكَمْ مِنْ يَتَامَى أُكِلتْ حُقُوقَهُمْ ، وكَمْ مِنْ ضُعَفَاءَ لمْ يَجِدُوا لهَمْ نَاصراً، وكَمْ مِنْ إِخْوةٍ تَوَاطَؤُوا على أَخِيهِمْ أَوْ أُخْتِهِمْ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُون.
عباد الله : وَقَدْ وَعَدَ اللهُ مَنْ طَبَّقَ هَذِهِ المَوَارِيثِ كَما أَمرَ اللهُ بِها ؛ بِالثَّوابِ العَظِيمِ ، وتَوَعَّدَ منْ تَعدَّاهَا وَتَلاعَبَ بِها بِالعَذَابِ الأَلِيمِ ، قال تعالى : ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ – أي هذه المواريث - وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ – أي في تنفيذها - يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾النساء: 13-14.
عباد الله: سَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ منْ رَبِّكُمْ ، وَإِرجَاعِ الحُقوقِ إِلى أَهْلِهَا ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْقِصَاصَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
المرفقات
1735924011_الظلم في المواريث خطبة.docx
1735924011_الظلم في المواريث خطبة.pdf