الظالم والمظلوم

عبدالله حمود الحبيشي
1443/02/23 - 2021/09/30 19:22PM

الظالم والمظلوم

 خطبة الجمعة 24 صفر 1443هـ

الخطبة الأولى

الحمد لله القوي العزيز ، خضعت له الرقاب ، وذلت له الصعاب ، مالك الملك ، عزيز ذو انتقام ، وأشهد ألا إله إلا الله ، وحدة لا شريك له ، عز فارتفع ، وذل كل شيء له وخضع ، لا يذل من والاه ، ولا يعز من عاده ، قاهر الجبابرة ، وقاصم القياصرة ، ومهلك المتكبرين والأباطرة ، وأشهد أن محمد عبدالله ورسوله صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد .. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
عباد الله .. من منا لم ير أو يسمع ما حصل ويحصل للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من ظلم شنيع ، وقتل مريع ، ودماء تُسفك، وحقوق وتغتصب وتسلب .. طائرات تدك بيوت الناس ، ومتفجرات تمزق أجسادهم ، حرق للبيوت بمن فيها من رجال ونساء وأطفال .. طغاة أو غوغاء ، مجرمون وسفاحون بلا رحمة ولا شفقة يقتلون عزل ومسالمين .. كل جرمهم أنهم مسلمون .. ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ ولا فرق بين مسلم ملتزم بدينه ومسلم بالاسم والتبعية فهي جريمة تستحق القتل والإبادة .. وكأن أهل الإسلام لا بواكي لهم ، ولا حامي ومدافع عنهم .. يعتصر القلب ألما ، ويتمزق حزنا أن تكون دماء أهل الإسلام بهذا الهوان والرخص.
وهنا يقرع سمعك آيات من كتاب الله تشفي الصدور ، وتداوي الجراح، وتبعث الروح في النفوس .. آيات فيها بيان بأن القضية لم تنته .. وأن القصاص واقع .. وأن الدماء التي سالت ، والأرواح التي أزهقت، والأشلاء التي مزقت وقطعت وأحرقت ليست هباء منثورا ، وليست رخيصة في ميزان الله وعدلة .. يقرع الأسماع آيات تجعل المقتول يوقين بالنصر ولو بعد حين .
يقول الله جل جلاله ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴾ إنها تسلية للمظلومين ، ووعيد شديد للظالمين ، حيث أمهلهم وأدرَّ عليهم الأرزاق، وتركهم يتقلبون في البلاد آمنين مطمئنين ، فإن الله يملي للظالم ويمهله ليزداد إثما ، حتى إذا أخذه لم يفلته ، ويكون ذلك في يوم تشخص فيه الأبصار فلا تطرف من شدة ما ترى من الأهوال وما أزعجها من القلاقل .
فلا تحسب أيها المظلوم ، لا تحسب أيها المسلوب حقه ، لا تحسبون أيها المؤمنون .. لا تحسبون أن الله غافلٌ عن عمل الظالمين .. قد يكون هذا هو الظاهر للبعض حين يرى عظمة الظلم وطغيان الظالمين ، ويسمع بوعيد الله ، ثم لا يراه واقعا بهم في هذه الحياة الدنيا .. فلا تحسبون أن الأمر كذلك ، ولكن لهم موعد ، ولهم أجل مضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة ، التي لا إمهال بعدها ، ولا فكاك منها .. إن موعدهم ذلك اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع ، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة ، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرك .. رافعين رؤوسهم لا عن إرادة ولكنها مشدودة لا يملكون لها حراكا . يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب فلا يطرف ولا يرتد إليهم . وقلوبهم من الفزع خاوية خالية لا تضم شيئا يعونه أو يحفظونه أو يتذكرونه ، فهي هواء خواء .. هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه . حيث يقفون هذا الموقف ، ويعانون هذا الرعب .. فالله جل جلاله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرما .. لا يغفل ولا ينسى ، الحكم العدل العظيم .. لا يُضيع حق المظلوم، ولا يُعجزه الظالم .. سبحانه قاصم الجبابرة ، ومذل الطغاة .. أغرق فرعون ، وخسف بقارون ، وأهلك فرعون هذه الأمة أبو جهل فكان كجيفة نتنة ألقي في طَوِيّ مِن أطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ .. ﴿وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أهل الظلم والجور والطغيان يقولون ويتمنون ويأملون ﴿رَبَّنَا﴾ الآن عرفوه وأيقنوا به .. الآن الذي يدعي العظمة والملك والجبروت .. بل من يقولها صراحة أو بلسان حاله أنا ربكم الأعلى .. الآن يقولون صاغرين ذليلين مهانين ﴿رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ﴾ ألم تقسموا يقينا في قرارة أنفسكم أنه لا زوال لكم عن عروشكم وجيوشكم وسلطانكم ، ألم تكونوا جازمين أنها ستحميكم ويكون لكم بسببها البقاء والخلود .. ومن جهل الظالمين أن كل طاغية جبار يظن أنه خالد مخلد وهو يعلم يقينا ويرى عيانا مصائر الغابرين قبله ، ومع هذا يجزم بالخلود والبقاء ، ويعض كرسيه مستمسكا به ، ولو أباد كل البشر ، وأهلك الحرث والشجر ﴿أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ إنه الوعد الحق .. إنه وعد الصدق الذي وعده الله أهل الإيمان ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ ينتقم من الظالمين المجرمين ، وينتقم للمظلومين الأبرياء ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ سريع الحساب وإن عاش الظالمون عشرات ومئات السنين، سريع الحساب وإن مضى على الجرائم آلاف السنين ﴿إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ﴾ هذا بلاغ للظالم والمظلوم ، للمسلمين والكافرين .. بلاغ للناس كافة ﴿ هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ .. نسأل الله أن يجعلنا من أولي الألباب الذين إذا ذكروا تذكروا ، والذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ..

الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صل الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أَمَّا بَعْدُ : فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ .
عباد الله .. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ بيان لحال الظالمين المجرمين الطغاة المتجبرين ، وانتقام الله منهم .. ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ عذاب جهنم وعذاب الحريق لظلمهم وتسلطهم وفتنتهم للمسلمين ، هذا حالهم وهذا جزاؤهم ، فما حال المظلومين ، ما حال الأبرياء الذين قتلوا لا لشيء إلا أن يقولوا ربنا الله .. قتلوا رجالا ونساء وأطفالا بل ذنب ولا جريمة .. إن حالهم قررها الله في كتابه ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ فوز كبير .. قتلوا وقطعوا وأحرقوا.. أزهقت أرواحهم ، وأحرقت أجسادهم ، وقطعت أطرافهم .. فكيف يكون فوزا كبيرا ؟ إنه ميزان الله العدل ، وإنه قضاء الله الكريم الرحيم ، جعل هذا البلاء العظيم ، وهذا المصاب الجلل ، وهذا الظلم الذي وقع عليهم فوزا لهم بل فوزا كبيرا .. ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ .. ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ .. في غزة أحد قتل عبدالله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه.. ومَثَّلَ به المشركون ، فقطعوا أنفه وأذناه .. بشاعة في القتل والتمثيل ، حقدٌ وأجرامٌ ، ولكن الجائزة عظيمة .. يقول صلى الله عليه وسلم يخاطب جابر بن عبدالله (يا جابرُ ! أَلَا أُبَشِّرُك بما لَقِي اللهُ به أباك ! ما كلم اللهُ أحدًا قَطُّ إلا من وراءِ حجابٍ ، وكلم أباك كِفَاحًا ، فقال : يا عبدي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ ، قال : يا ربِّ تُحْيِينِي فأُقْتَلُ فيك ثانيةً) قتل ومثل بجثته ومع هذا يتمنى أن يرجع لا ليعيش مع أهله وأولاده ، ولا حتى ليصلي ويصوم .. بل يريد أن يرجع فيقتل لما رآه من فضل الله وجزائه وكرمه (قال : يا ربِّ تُحْيِينِي فأُقْتَلُ فيك ثانيةً ، فقال الربُّ تبارك وتعالى : إنه سَبَق مِنِّي أنهم إليها لا يُرْجَعون) . ويقول عليه الصلاة والسلام (يُؤتَى بالرَّجلِ من أَهْلِ الجنَّةِ، فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يا ابنَ آدمَ، كيفَ وجدتَ منزلَكَ؟ فيقولُ: أي ربِّ خيرَ منزلٍ، فيقولُ: سَل وتَمنَّ، فيقولُ: أسألُكَ أن تردَّني إلى الدُّنيا فأُقتَلَ في سبيلِكِ عشرَ مرَّاتٍ، لما يَرى من فضلِ الشَّهادةِ) .
اللهم ارفع الظلم عن المظلمين من المسلمين وانصر عبادك الموحدين
اللهم احقن دمائهم وصن أعراضهم

المرفقات

1633029935_الظالم والمظلوم.docx

1633029936_الظالم والمظلوم.pdf

المشاهدات 1311 | التعليقات 0