الطغيان وصاحب الجنتين
هلال الهاجري
1436/05/07 - 2015/02/26 15:39PM
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَاأَيُّهاَ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أَمَّا بَعْدُ:
قالَ الحقُّ سبحانَه وتعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) .. يقولُ الشَّيخُ ابنُ عثيمينَ رحمَه اللهُ تعالى: كلُّ إنسانٍ من بني آدمَ إذا رأى نفسَه استغنى، فإنه يطغى، من الطُّغيانِ وهو مجاوزةُ الحدِّ .. إذا رأى أنه استغنى عن رحمةِ اللهِ، طغى ولم يُبالِ .. إذا رأى أنه استغنى عن اللهِ عزَّ وجلَّ في كَشفِ الكُرباتِ وحصولِ المطلوباتِ، صارَ لا يلتفتُ إلى اللهِ، وإذا رأى أنه استغنى بالصَّحةِ، نسيَ المرضَ، وإذا رأى أنه استغنى بالشَّبعِ نسي الجوعَ، وإذا رأى أنه استغنى بالكُسوةِ، نسي العُرْيَ وهكذا .. فالإنسانُ من طبيعتِه الطُّغيانُ والتَّمردُ متى رأى نفسَه في غِنىً، ولكن هذا يَخرجُ منه المؤمنُ، لأن المؤمنَ لا يرى أنه استغنى عن اللهِ طرفةَ عينٍ، فهو دائمًا مفتقرٌ إلى اللهِ سبحانَه وتعالى، يَسألُ ربَّه كلَّ حاجةٍ، ويلجأُ إليه عندَ كلِّ مكروهٍ، ويرى أنه إن وكلَه اللهُ إلى نفسِه وكلَه إلى ضَعفٍ وعَجزٍ وعَورةٍ، وأنه لا يملكُ لنفسِه نفعًا ولا ضرًّا هذا هو المؤمنُ.
ودعونا نتأملُ مثالاً في ذلك الطُّغيانِ .. ليسَ ذلكَ المِثالُ من قَولِ البَشرِ .. وإنما هو من ربِّ البَشرِ سبحانَه .. أمثلةٌ ضربَها اللهُ تعالى للنَّاسِ ليتفكروا بها (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) .. ثُمَّ تكونُ لهم عِبرةً وذِكرى (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .. فاستمعْ أيها الإنسانُ .. إلى خطابِ الرَّحيمِ الرَّحمنِ.
يقولُ تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) .. لا يهمُّ من هما؟ .. وما هيَ أسماءُهما؟ .. ولا أينَ عاشوا؟ .. ولا في أيِّ زمانٍ كانوا؟ .. المهمُ هو ما هو عملُهما؟ .. وما الذي كانَ في قلوبِهما؟ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لايَنْظُرُ إِلَى صُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ).
وتدبَّرْ قولَه تعالى: (جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا) .. ستُشعرُكَ كلمةُ (جَعَلْنَا) بالمعاني العظيمةِ في قولِه سبحانَه: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) .. فلا رزقَ إلا منه .. ولا خيرَ إلا منه .. ولا عطاءَ إلا منه .. أعطى أحدَهما جنتينِ لحكمةٍ .. وحرمَ أحدَهما لحكمةٍ .. فيُبتلى الأولُ بالشُّكرِ .. ويُبتلى الآخرُ بالصَّبرِ .. (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) .. فليسَ عطاؤه دليلَ محبةٍ وتقديرٍ .. وليسَ إمساكُه دليلَ مهانةٍ وتحقيرٍ .. (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لا يُحِبُّ، وَلا يُعْطِي الدِّينَ إِلا لِمَنْ أَحَبَّ فَمَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ).
وأما وصفُ الجنتينِ فشيءٌ عجيبٌ .. (جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) .. فالمنظرُ لك أن تتخيَّلَه .. في وسطِ الجنتينِ: أشجارُ العنبِ تمتدُّ على الأرضِ وتتسلَّقُ العروشَ بعناقيدِها الجميلةِ وأورَاقِها الضَّخمةِ وظِلِّها المديدِ .. وفي أطرافِ الجنتينِ: تنتصبُ أشجارُ النَّخيلِ بهاماتِها العاليةِ وجذوعِها الطَّويلةِ وعذوقِها المُتدَلِّيةِ وسعفِها الظَّليلِ وطلعِها النَّضيدِ .. وبينَ هذا وهذا تنتشرُ الزُّروعُ المتنوِّعةُ والأشجارُ المُختلفةُ بأزهارِها المُلوَّنةِ وثمارِها اليانعةِ ورائحتِها الطيِّبةِ .. (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ)، لم يَنقُصْ شيئٌ من نتاجِها ولا مَحصولِها .. فعنَبُها ورُطبُها وثمارُها كاملةٌ وافيةٌ قد تدلَّتْ من على أشجارِها، (وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا) .. سبحانَ اللهِ .. يتفجَّرُ في وسطِ الجنتينِ نهرٌ، ويجري بماءِه العَذبِ بينَ الشَّجرِ، فلا يحتاجُ إلى حفرِ الآبارِ للرَّيِّ، ولا شقِّ الجداولَ للسَّقيٍّ .. فأيُّ مَنظرٍ أجملُ من هذا؟، وأيُّ نعيمٍ مثلُ هذا؟، فهل يا تُرى كيفَ سيوَفِّي هذا الرَّجلُ شُكرَ هذه النِّعمِ؟.
وفي اللَّحظةِ التي ننتظرُ فيها أن يُحدِّثَنا فيها الرَّجلُ عن نعمةِ اللهِ تعالى عليه امتثالاً لقولِه تعالى: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) .. إذا به يُناجي صاحبَه المؤمنَ في حديثٍ لم يَسمعْهُ إلا اللهُ عزَّ وجلَّ الذي أخبرنا به .. (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، يقولُ قتادةُ رحمَهُ اللهُ تعالى: تِلْكَ وَاللَّهِ أُمْنِيَةُ الْفَاجِرِ، كَثْرَةُ الْمَالِ وَعِزَّةُ النَّفَرِ.
ولم يكتفِ بهذا .. بل (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) .. هذا هو تصويرٌ عمليٌّ لقولِه تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ) .. فحالَ رؤيتِه لإحدى حدائقِه التي (آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) .. إذ به يدخلُها وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ .. فهل يكونُ النَّباتُ أعدلُ منك أيُّها الإنسانُ؟ .. (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ).
فجمعَ هذا الرَّجلُ خللاً في العَقلِ حينَ قالَ: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا) .. وخللاً في التوحيدِ حينَ قالَ: (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) .. وخللاً في حُسنِ الظَّنِّ حينَ قالَ: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا).
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) .. هنا يأتي دورُ المؤمنِ الغيورِ في الدِّفاعِ عن عقيدةِ التَّوحيدِ والتَّذكيرِ بنِعَمِ اللهِ تعالى .. فقالَ لهذا الظَّالمِ لنفسِه واعظاً له وناصحاً ومُذكِّراً له بحقيقتِه: أتجحدُ من أوجدَك من العَدَمِ .. ورعاكَ وأنتَ نُطفةً في رحمِ أمِّكَ وَسْطَ الظُّلَمِ .. وجعلَك رَجُلاً قوياً تمشي على القِدَمِ .. وإذا بِك تتَّبعُ سيرةَ من ظَلَمِ .. وتنسى من ربَّاكَ وجعلَك تتقلَّبُ بينَ النِّعَمِ .. فعجيبٌ لكَ أيُّها الإنسانُ من بينِ الأمَمِ .. فكيفَ بكَ وأنت غَداً جيفةً بين الرِّمَمِ؟.
ثُمَّ قرَّرَ له إيمانَه باللهِ تعالى: (لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) .. فهو ربِّي الذي ربَّاني وربَّى جميعَ العالَمينَ بنِعَمِه .. وأعطاني الإيمانِ وهو أعظمُ عطاءٍ .. وصَرفَ عنِّي الشِّركَ وهو أخطرُ بلاءٍ .. (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) .. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ) .. وهكذا المؤمنُ ثابتٌ على دينِه وعقيدتِه كثباتِ الجِبالِ .. لا يُزحزِحُها عنها دُنيا ولا شَهوةٌ ولا مالٌ.
(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)، هذا هو التَّصرفُ السَّليمُ في التَّعاملِ مع نِعمِ اللهِ تعالى .. الاعترافُ بالنِّعمةِ والتَّرديدِ .. والشُّكرُ للمُنعمِ لتزيدَ .. (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا) .. انظرْ إلى من هو أقلَّ منكَ .. لِتعرفَ فضلَ اللهِ تعالى عليكَ .. وإلا فإن سُنَّةَ اللهِ تعالى التي لا تتبدلُ ولا تتغيرْ هي في قولِه تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، فمن شكرَ القليلَ أعطاهُ وزادَه .. ولذلك قالَ: (فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ) .. ومن كفرَ حرمَه ومن الخيرِ أبادَه، ولذلك قالَ: (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا)، يأتيها العذابُ من السَّماءِ فتتَّحولُ تلكَ الجِنانُ .. إلى أرضٍ خاويةٍ ليسَ فيها زرعٌ ولا ثمرٌ ولا أغصانٌ .. وقد يأتيها الحِرمانُ من أسفلَ، (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا)، فتذهبُ الأنهارُ، وتهلكُ الأشجارُ.
فتحقَّقَ ما توقَّعَهُ المؤمنُ .. (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) .. ولك أن تتَّصورَ ذلك الموقفَ .. أرسلَ سبحانَه عذاباً أحاطَ بكلِّ ما في الجنَّتينِ ولم يُبقِ شيئاً .. فوقفَ ينظرُ إلى مالِه وهو يُحرِّكُ يديه عجباً .. أو يضربُ بعضِها ببعضٍ ندماً .. وهو يُكرِّرُ (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) .. فشتانَ بينَ دُخولِه الأولِ .. وبينَ دُخولِه الثَّاني .. فسُبحانَك ربِّي ما أعظمَك.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنِي وَإِيَاكُم بِمَا فِيهِ مِن الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ .. أَقُولُ قَولِي هَذَا وَ أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِكَافَةِ المُسْلَمَين مَن كُلِ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ عظيمِ الإحسانِ، ووَاسِعِ الفَضْلِ والجُودِ والاِمْتِنَانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ .. أَمَّا بَعْدُ:
أفتذكرونَ يا عبادَ اللهِ ما افتخرَ به ذلك الرَّجلُ على صاحبِه .. (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) .. فافتخرَ بالمالِ وها هو (يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) .. وافتخرَ بكثرةِ قومِه الذينَ حولَه .. فقالَ تعالى: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا) .. وكذلك كلُّ من اعتزَّ بغيرِ اللهِ تعالى .. فإنه لا ينفعُه بل سيكونُ ضِدَّه .. (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً) .. فصدقَ اللهُ تعالى: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا).
فأينَ تذهبُ يا من أطغاهُ مالُه، فها هو قارونُ كانَ له (مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)، مفاتيحُ الكنوزِ يعجزُ عن حملِها جماعةُ الرِّجالِ الأقوياءِ، فلما جحدَ (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)، وطغى (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)، جاءَه الوعدُ الحقُّ (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ).
وأين المفرُّ يا من أطغاهُ منصبُه .. قالَ تعالى لموسى عليه السَّلامُ: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) .. لقد تعدى جميعَ الحدودِ (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) .. وتجاوزَ جميعَ الحواجزِ (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) .. وافتخرَ على موسى بجريانِ الماءِ من تحتِ قُصورِه (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) .. فأجرى اللهُ تعالى الماءَ من فوقِه (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يتكررُ مشهدُ ذُلِّ الطُّغاةِ عند حلولِ العذابِ .. فيأتي الجوابُ: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) .. فاللهمَّ رُحماكَ رُحماكَ .. ولا تجعلنا عن آياتِك غافلينَ .. واجعلنا لنعمِك حامدينَ شاكرينَ.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ .. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هَادِينَ مُهْتَدِينَ، غَيْرَ ضَالِّيْنَ وَلا مُضِلِّينَ، سِلْماً لأَوْلِيائِكَ، وَحَرْباً على أَعْدَائِكَ، نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَنْ أَحَبَّكَ، وَنُعَادِي بِعَدَاوَتِكَ مَنْ خَالَفَكَ .. اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَينَا الإيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهِ إلَينَا الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ .. اللَّهُمَّ أعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ.
المرفقات
الطغيان وصاحب الجنتين.docx
الطغيان وصاحب الجنتين.docx
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق