الطغيان في شخصية فرعون

هلال الهاجري
1437/01/09 - 2015/10/22 08:27AM
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:

فمن يتأملْ في كتابِ اللهِ تعالى يجدُ أن أكثرَ ما تكرَّرَ فيه من القّصصِ هي قِصَّةُ موسى عليه السَّلامُ وفرعونَ .. أتعلمونَ لماذا؟ .. لثلاثةِ أسبابٍ رئيسيَّةٍ:

الأولُ: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .. إذن هي موعظةٌ وعِبرةٌ يستفيدُ منها أهلُ الإيمانِ.

الثَّاني: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) .. وهيَ وسيلةٌ لمعرفةِ مصيرُ أهلِ الظُّلمِ والفسادِ .. ونهايةُ من عَلا فِي الأَرْضِ وكانَ من أهلِ الإلحادِ.

الثَّالث: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) .. وهي لتوضيحِ عاقبةُ المظلومينَ والمُستضعفينَ من أهلِ الإيمانِ .. وأنَّ لهم يوماً يرثونَ من الظَّالمينَ الإمامةَ والأوطانَ.

عبادَ اللهِ ..

دعونا نتذاكرُ جانباً واحداً فقط من جوانبِ القصَّةِ .. ألا وهو جانبُ الطُّغيانِ في شخصيَّةِ فرعونَ.

بدأتْ أحداثُ القِصَّةِ يومَ أن صرخَ ذلك المخلوقُ الضَّعيفُ بقولٍ سخيفٍ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي)، وغرَّه حلمُ اللهِ تعالى وإمهالُه: (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) .. إنَّه واللهِ الطُّغيانُ البشريُّ إذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، والغرورُ الشَّيطانيُّ إذا تجاوزَ حدَّه، والذي عبَّرَ عنهُ اللهُ تعالى في قولِه لنبيِّه موسى عليه السَّلامُ: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى).

إنَّه الطُّغيانُ الذي تُسفكُ به الدِّماءُ .. وتُسترخصُ به الأرواحُ .. وتُنتهكُ به الأعراضُ .. ولا يسلمُ منه حتى الأطفالِ.

جاءَ في كُتبِ التَّفسيرِ والتَّاريخِ أنَّ فِرْعَوْنَ رَأَى فِي مَنَامِهِ، كَأَنَّ نَارًا أَقْبَلَتْ مِنْ نَحْوِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَأَحْرَقَتْ دُورَ مِصْرَ وَجَمِيعَ الْقِبْطِ وَلَمْ تَضُرَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ .. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ هَالَهُ ذَلِكَ، فَجَمَعَ الكَهَنةَ والسَّحرةَ .. وسألهم عَن ذَلِك، فَقَالُوا: هَذَا غُلَامٌ يُولد منهم، يَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِ أَهْلِ مِصْرَ عَلَى يَدَيْهِ، وكانَ فرعونُ وجلساؤُهُ مِن قبلُ يتذاكَرون ما كان اللهُ وعدَ إبراهيمَ عليهِ السلامُ أن يجعلَ في ذريتِهِ أنبياءَ وملوكًا، وكيفَ أن بني إسرائيلَ ينتظرونَ ذلكَ النَّبيَّ، فَلِهَذَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْغِلْمَانِ وَتَرْكِ النِّسْوَانِ .. وكانَ بلاءً عظيماً على بني إسرائيلَ .. قالَ تعالى: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ).

إنّهُ الطُّغيانُ الذي يكونُ القتلُ فيه دونَ ضوابطَ ولا قوانينَ .. وإنما يُرجعُ فيه لمصلحةِ الطُّغاةِ والمُفسدينَ.

لذلكَ لمَّا رَأَوْا أنَّ الكبارَ من بني إسرائيلَ يموتونَ بآجالِهم والصغارَ يُذْبَحُونَ، قالوا: يُوشِكُ أن تُفْنُوا بني إسرائيلَ، فتصيروا أن تُبَاشِرُوا من الأعمالِ والخدمةِ التي كانوا يَكْفُونَكُمْ، فاقتلوا عامًا كلَّ مولودٍ ذكرٍ، ودعوا عامًا فلا تقتلوا منهم أحدًا، فأَجْمَعُوا أمرَهم على ذلك، (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

إنَّه الطُّغيانُ الذي يَنسى معه العبدُ أنَّ له خالقاً عليماً حليماً .. جبَّاراً قويَّاً عظيماً .. يُمهلُ ولا يُهملُ.

حملتْ أمُّ موسى بهارونَ في العامِ الذي لا يُذْبَحُ فيهِ الغلمانُ، فولدتْهُ علانيةً آمنةً، فلمَّا كان من قابلٍ حملتْ بموسى عليهِ السلامُ، فوقعَ في قلبها الهمُّ والحزنُ، ولكن تأتيها البُشرى من السَّميعِ البَصيرِ، الذي هو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

لا إلهَ إلا اللهُ .. أبى اللهُ تعالى لهذا الغلامِ الذي يكونُ هلاكُ فرعونَ على يدِه .. والذي قتلَ آلافَ الأطفالِ من أجلِه .. إلا أن يُولدَ في العامِ الذي يُقتلُ فيه الوِلدانُ ويتولَّى حفظَه بنفسِه .. بل ولا يتربَّى إلا في قَصرِ فرعونَ وتحتَ نظرِه وحمايتِه .. (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) .. فسبحانَ اللهِ .. هكذا عندما يُرينا اللهُ عزَّ وجلَّ شيئاً من قوتِه وقُدرتِه .. (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً).

يا أهلَ الإيمانِ ..

احتقارُ الآخرينَ سمةٌ بارزةٌ لأهلِ الطُّغيانِ .. اسمعوا إلى لغةِ السُّخريةِ والاستهزاءِ .. (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) .. فيأتيه الجوابُ الشَّافي .. (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ) .. (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) .. (قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ) .. (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) .. (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) .. فعجباً لصمودِ وثباتِ الصَّادقينَ .. أمامَ عبثِ واستهتارِ الهازلينَ.

وأما الكِبرُ .. وما أدراكَ ما الكِبرُ .. فلا ينفكَّ عن الطُّغاةِ .. (وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ).

إنَّه الطُّغيانُ الذي يستبدُّ بالرأي .. فلا يسمعُ من الأقوالِ إلا قولَه .. ولا يُصدِّقُ من العقولِ إلا عقلَه .. (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) .. ولقد صدقَ اللهُ تعالى: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ).

إنَّه الطُّغيانُ الذي يجعلُ صاحبَه يستميتُ في صرفِ أهلِ الحقِّ عن صراطِهم المُستقيمِ .. سواءً باستمالةِ قلوبِهم وكسبِهم إلى صفِّه .. (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) .. أو بالطَّعنِ في أشخاصِهم وتذكيرِهم بأخطائهم السَّابقةِ .. (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) .. أي قتلتَ نفساً بغيرِ حقٍّ .. فجاءَه الجوابُ المُستبينُ .. من أهلِ الحقِّ واليقينِ: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) .. كنتُ من الخاطئين .. ومن الذي لا يُخطيءُ؟ .. وخيرُ الخطَّائينَ التَّوابونَ .. (فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .. والآن قد أنعمَ اللهُ عليَّ بالهدايةِ والنُّبوَّةِ والعلمِ .. (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) .. ولقد أنعمتَ عليَّ بتربيتي .. ولكن أيُعقلُ أن تمنَّ على طفلٍ واحدٍ من من بني إسرائيلَ .. وأنت قد قتلتَ أطفالَهم .. واستحييتَ نِساءَهم .. وعبَّدتَ رِجالَهم؟.

وأما التَّهديدُ بالسِّجنِ للمعارضينَ .. فحدِّثْ ولا حرجَ .. (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) .. وقد يصلُ الأمرُ إلى القتلِ .. (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) .. بل وللأتباعِ وأبنائهم إذا احتاجَ الأمرُ لذلكَ .. (فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ) .. وهذه صفاتُ أهلُ الطُّغيانِ .. وإن اختلفَ الزَّمانُ.

وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمينَ والمُسلماتِ من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إن ربِّي كانَ غفَّارًا.


الخطبة الثانية:


الحمدُ للهِ العزيزِ الحميدِ، ذي العرشِ المجيدِ، فعالٌ لما يُريدُ، (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الخلقُ والأمرُ وهو الغنيُ الحميدُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه المصطفى على سائرِ العبيدِ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وصحابتِه ومن تبعَ ملتَه واقتفى أثرَه إلى يَومِ الوعيدِ.

لقد أعمى الطُّغيانُ فرعونَ عن الحقِّ وعن الآياتِ الواضحاتِ .. (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى) .. معَ أنَّه كانَ يعلمُ الحقَّ بقلبِه يقيناً ولكنَّه الظُّلمُ والعلوُّ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ .. (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا).

عندَها تبدأُ سلسلةُ اتِّهامِ النَّاصحينَ وأنهم يريدونَ تمزيقَ الوطنِ، (أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى)، وإخراجَ أهلِه منه (يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)، وتبديلَ دينِ الآباءِ (إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ)، ونشرَ الفوضى والفَسادِ (أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)، اتِّهاماتٍ مُتتاليةً قبيحةً، ولكنَّها تخلو من البراهينِ الصَّريحةِ.

وبعدَها يأتي دورُ المواجهةِ .. وأوَّلُها المواجهةُ الفِكريةُ .. (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى) .. ثمَّ ما الذي حدثَ أثناءَ المُناظرةِ؟ .. (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ) .. وهكذا تتلاشى شُبَهُ الباطلِ أمامَ حُجَجِ الإيمانِ .. كما تلاشتْ الحبالُ والعِصيُّ في بطنِ الثُّعبانِ.

فإذا لم ينتصرْ الباطلُ في المعركةِ الفِكريَّةِ .. وأنى له أن ينتصرَ؟ .. بدأَ في المعركةِ الأخرى .. وهي معركةُ البطشِ والقضاءِ على الحقِّ وأهلِه .. (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) .. فخرجَ بجنودِه الظالمينَ فخراً .. وأرادَ قتلَ المُستضعفينَ كِبراً (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) .. هنا تتميَّزُ القلوبُ الصَّادقةُ .. التي برحمةِ ربِّها عالقةٌ .. (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ).

وأما المقطعُ الأخيرُ في حياةِ كلِّ طاغيةٍ مريدٍ .. هو ذلك الموقفُ الذي يواجهُ فيه الموتَ الأكيدَ .. ويعلمُ أنَّ له ربَّاً فعالاً لما يُريدُ .. عندها ينقطعُ الرَّجاءُ إلا من ربِّ العبيدِ .. (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) .. كلماتُ مؤثرةٌ في التَّوبةِ والنَّدمِ .. ولكنَّها بعدَ زوالِ القَدمِ .. (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)، نهايةٌ مُحزنةٌ وشيءٌ قليلٌ من العذابِ، هَذَا وَإنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ.

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا يَعْنِي عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقَالَ: (أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ) .. ويتكرَّرُ الشُّكرُ من المؤمنينَ في كلِّ زمانٍ .. على هلاكِ المُجرمينِ .. ونجاةِ المؤمنينَ.

وهكذا يتجدَّدُ التَّفاؤلُ في كلِّ عاشوراءَ .. ونعرفُ يقيناً أنَّه إذا اشتَّدَ البلاءُ .. فهناكُ ربٌّ يدبِّرُ الأمرَ من السَّماءِ.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الطغاةَ والملاحِدة والمُفسدين .. اللهم أبرِم لهذه الأمة أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى عن المُنكر يا رب العالمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، ورُدَّ كيدَه في نَحرِه، واجعَل دائِرَة السَّوء عليه يا ربَّ العالمينَ.
اللهم انصُر المُجاهدينَ في سبيلِك في كلِّ مكانٍ، اللهم فُكَّ حِصارَهم، وأصلِح أحوالَهم، واكبِت عدوَّهم.
اللهم حرِّر المسجدَ الأقصَى من ظُلم الظالمين، وعُدوان المُحتلِّين.
اللهم الطُف بإخواننا المُستضعفينَ، اللهم ارفع عنهم البلاء، وعجِّل لهم بالفَرَج، اللهم ارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، وتولَّ أمرَهم يا راحِم المُستضعَفين، ويا ناصِرَ المظلومِين .. اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن روعَاتهم، واحفَظ أعراضَهم، وسُدَّ خلَّتَهم، وأطعِم جائِعَهم، واربِط على قلوبِهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم أصلِح أحوالَهم، واجمعهم على الهُدى، واكفِهم شِرَارهم، اللهم اكبِت عدوَّهم، اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المُؤمنين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضَى، وخُذ به للبرِّ والتقوى، اللهم أصلِح كلَّ من ولِيَ للمسلمينَ أمرًا، واملأ قلبَه من مخافَتك وخشيَتك سرًّا وجهرًا، اللهم أصلِح بِطانتَهم.
اللهم انشُر الأمنَ والرخاءَ في بلادنا وبلاد المسلمين، واكفِنا شرَّ الأشرارِ، وكيدَ الفُجَّارِ.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) .. اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، اللهم اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُرِّيَّاتهم وأزواجنا وذُرِّيَّاتنا، إنكَ سميعُ الدُّعاءِ.
المرفقات

الطغيان في حياة فرعون.docx

الطغيان في حياة فرعون.docx

المشاهدات 2467 | التعليقات 2

جزاك الله خيرا


للرفع.