فوجد من بني الإنسان الضعيف من قال: .. أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]،
ووجد من بني الإنسان الخصيم من قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258]
ووجد من بني الأإنسان المخلوق من نطفة من قال: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 5]،
ووجد من بني الإنسان الكفور من يقول: ( إنما أوتيته على علم عندي )
ووجد من بني الإنسان من يقول: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) ومن يقول : ( إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ).
ولم ينته طغيان الإنسان عند هذا ، بل استمر الطغيان مع بني الإنسان حتى مع عصر التقدم والرقي، فكان من بني الإنسان من يقول: الدين أفيون الشعوب !
وجاء من بني الإنسان من يقول: إن الشريعة غير صالحة لزماننا هذا، وإن الحدود الشرعية قد عفى عليها الزمن !
وجاء من بني الإنسان من نادى بفصل الدين عن الحياة !
وجاء من بني الإنسان من وصف الشريعة بأنها قيدت حرية المرأة ! إلى غير ذلك من مقولات ضغيانية.
فالطغيان انحراف في الفكر، وانتكاسة في التصور، وكما يكون في الأفراد، يكون أيضًا في الجماعات والأمم ، كما قال سبحانه: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ) [الشمس: 11].
وأعظم الطغيان وأخطره، وأشده انحرافًا وآثارًا ، الطغيان في الملك والحكم ، لقد قص علينا ربنا سبحانه أخبار من طغوا في ملكهم ، فعتوا عن أمر ربهم، وعصوا رسله، وأوضح لنا سبحانه أوصافهم وأقوالهم، وكيف كانت نهايتهم ، قص علينا ذلك، لا للتسلية، وإنما لأخذ العبرة والعظة، والتحذير من التأسي بهم.
فالطغيان ليس قضية ماضية بل سنة باقية، والوقوف على صفات طغاة الأمس من خلال نور القرآن يعطينا معالم لصفات طغاة اليوم، إذ إن السنن تتكرر، وأفعال بني الإنسان تتشابه، ( أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) [الذاريات : 53].
طاغية كثر ذكره في القرآن الكريم، ووردت قصته في سبع وعشرين سورة، هو صورة فريدة للطاغية المتجبر، وقومه صورة أخرى للشعوب التي أذلها الطغيان.
إنه طغيانٌ فاق كل حدٍ وحدود ، إنه طغيانُ من قال: ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) ، وقال:( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي )، وقال: ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ) .
إنه طغيانٌ كان نتيجته ونهايته ومآله عليه وعلى قومه أنه (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) [هود : 98].
فما هي معالم طغيان فرعون، وما هي ملامح سياسته العاتية، التي استحق بها هذا العذاب والنكال ؟
إننا حين نستعرض آيات القرآن ، تتضح لنا بعض الملامح العامة في المنهج الفرعوني في الطغيان، مع كفره بربه، وادعاءه للربوبية.
ـ من هذه الملامح: العلو والتكبر في الأرض ، والتزاهي على الآخرين بالملك والجاه والمال، قال سبحانه:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ ) [القصص: 4]
وقال تعالى: ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) [القصص : 39]
ومن مباهاته ومفاخراته أن جعل يستحقر الآخرين ويعيبهم فقال عن موسى: ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ) [الزخرف: 52]
هذا الزهو والتزاهي، واحتقار الآخرين مع أكل حقوقهم، وسلب مقدراتهم وإراداتهم، هو الفساد بعينه، قال تعالى: ( وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ) [الفجر : 10 - 12].
ـ ومن أبرز معالم الطاغية: استرخاصه للدماء، وإذلاله لشعبه، فتهدر الدماء، لأتفه الأسباب، بل إن فرعون أصدر أوامره بقتل كل مولود، حين رأى حلمًا أزعجه، فعبُر له: أنه يولد في بني إسرائيل مولود يكون عليه زوال ملكك.
وهكذا تسال الدماء، وتقتل أرواح الأبرياء، لأجل المنامات، قال سبحانه عن فرعون: يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ) [القصص: 4])
وقال فرعون لبطانته مهددًا ومتوعدًا شعبه:(سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ) [الأعراف: 127]
ـ ومن ملامح الصفات الفرعونية: أكل خيرات البلاد، وادعاؤه أن ذلك حق له خلق له، فكانت الأثرة له ولبطانته ولزبانيته ، وعاش بنـو إسرائيل بعـدها على فتات موائدهم ، ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) [الزخرف : 51].
هذا الطغيان المادي، والأثرة في أكل الخزائن ، مع الكفر والعناد، جعل موسى عليه السلام يدعو على فرعون وملأه بقوله: ( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) [يونس: 88].
ـ ومن أبرز معالم طغيان فرعون: معاداته للدين وأهله ، يستخدم أشد أنواع التعذيب والتنكيل، بمن اتبع دين موسى، فتوعد السحرة حين آمنوا بقوله: ( فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) [طه : 71].
مع أن هؤلاء المؤمنين ما نازعوا فرعون في ملكه، وما نادوا بالخروج عليه، وإنما أعلنوا إيمانهم وأظهروا شعائر دينهم، فما احتمل هذا الدينَ الطغيانُ الفرعوني، فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه : 60]،
ومع هذه القسوة في التعذيب والاضطهاد في الدين مَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ .
ـ ومن ملامح طغيان فرعون: ادعاؤه معرفة الحقيقة ، فرأيه هو الصواب دائمًا ، وقوله هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والويل ثم الويل لمن خالف أمره ورأيه
قال فرعون مفاخرًا ومتعاليًا : ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ )
هذا الرأي الفرعوني كان يلاقي كل مدح ومديح، فكل أمر عنه فهو عظيم، وكل قرار ولو كان سفكًا للدماء فلا يصدر إلا من حكيم، ولذا كان من شقاء فرعون أنه كان محاطًا بحاشية سيئة، وبطانة متملقة أكالة، تزين له المنكر، وتحضه على الشر، فقالت تلك البطانة عن موسى:( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) [الأعراف: 109] ، وقالت محرضة: ( أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ) [الأعراف : 127]،
عباد الله:
ـ التشويه الإعلامي للخصوم، سياسة فرعونية قديمة ، فحين استجاب من استجاب لدعوة موسى وآمن السحرة وعذِّبوا ، أرسل فرعون أبواقه في الآفاق محذرًا من موسى وأتباعه، ومقللاً من شأنهم، قال تعالى: ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ) [الشعراء : 53 - 56].
ـ ومن سياسة الطغيان الفرعوني في مواجهة الحق، شراء الذمم بالمال، والإغراء بالوجاهة والمناصب، قال تعالى: ( وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) [الأعراف : 113 - 114].
ـ ومن ملامح طغيان فرعون:
المجادلة واللجاجة في الباطل، فقد قص علينا القرآن كثرة جدال فرعون مع ضعف حجته وسفاهة رأيه فقال لموسى مجادلًا: ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) وقال: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى) وقال:( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) ، هذه المجادلة ليست بقصد الوصول إلى الحق، وإنما بقصد رد الحق وإضعافه، قال تعالى: (وَجَحَـدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسـُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا )[النمل : 14].
ـ ومن أبرز ملامح طغيان فرعون: تهديد الخصوم بالسجن، وملء المعتقلات بالمظلومين ،
فحين جادله موسى في الربوبية، وبطلت حجته، وانقطعت، جاء التهديد الفرعوني، بقوله: (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ) [الشعراء : 29].
يتغنى فرعون بالوطنية (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) ثم هو يحارب أبناء وطنه وشعبه، تارة بالقتل، وتارة بالسجن، وتارات بالفقر والجوع، ونشر الفرقة بينهم؛ ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا )
هذه السياسة الفرعونية، بقهرها وقبضتها الحديدية جعلت من فرعون صنمًا مطاعًا طاعة عمياء، طاعة طمعًا في الدنيا، ولأجل العاجلة ، هذا الانحراف في الطاعة عبر عنه القرآن بالاستخفاف، قال تعالى: ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ) .
إخوة الإيمان:
معاداة الدين معركة محسومة، ونهايته متيقنة، "لن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) وقديمًا قال الطاغية اليهود حيي بن أخطب: من يغالب الله يغلب.
ومهما طال ليل الظلم، فإن صبح العدل والحرية سينبلج .
تنام عين الطاغية، وعين الله لم تنم ، ينام كالجيفة، على أرائكه ومفارشه، وما علم أن هناك أرجل قد وقفت في ظلمات الأسحار، وأكف مقهورة ، ترفع ظلامتها، للملك العلام.
فبينما فرعون في غيه سادر، وفي ظلمه قاهر، إذ أتاه أمر ربه بغتة , يخرج الشقي منتفخًا ثائرًا، يطلب دم كليم الرحمن، وفي لحظة لم يستعد لها، إذا به يصير هاربًا بعد أن كان طالبًا.
هاربًا من جند من جنود الله، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)[المدثر : 31]، طوفان عظيم ابتلعه هو وأقاربه وزبانيته، ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ) .
ذهب الطاغية وذهب معه غروره وكيده، فكأنه ما كان هو ولا ملكه، وجعله ربه عبرة لكل طاغية بعده، فلفظه البحر على شاطئه ليراه الناس ،( فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) [يونس : 92]
فيا لله هذه نهاية الطغيان، هذه الجثة التي يراها الناس ، كانت يومًا من الدهر تقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى .
كم أرعدت وأبرقت هذه الجثة ، وأرعبت بخطاب:( لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ).
فأف والله من الطغيان، وأهله , أف والله من حقارة الإنسان، حين يطغى ويتكبر، ويتعالى ويتجبر.
قل لي بربك هل وجدت سبيلا = وهل اتخذت إلى النجاة سبيلا
ماذا تقول لمن سيحصي كلَّ = ما قد كان منك كثيرَه وقليلا ؟
ماذا تقول لصاحب الجبروت = في يوم يصير به العزيز ذليلا ؟
أتقول إنك قد نبذت كتابه = ورضيت قانون الضياع بديلا ؟
أتقول إنك قد سجنت دُعاته = وجعلت قيد الصالحين ثقيلا ؟
ها أنت تخرج من حياتك عاجزا = وتركت خلفك قصرك المأهولا
أقول قولي هذا.. وأستغفر الله تعالى.
مازن النجاشي-عضو الفريق العلمي
وهناك مقال في المنتدى حول هذا الموضوع:
تعديل التعليق