الضرورة الشرعية مؤقتة لا دائمة! أ. أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف

الفريق العلمي
1442/02/28 - 2020/10/15 10:21AM

من كمال الشريعة وجمالها وعوامل خلودها أن راعت الأحوال التي تكون فيها الأوضاع خلاف المعتاد، أو تفرض الضرورة نفسها، وجعلت لهذه الأحوال أحكاماً عامة استنبط منها علماء الشريعة وفقهاء الدين قواعد وأطر تجمعها حتى لا يقع العباد في المشقة والحرج، ومنعاً لإفراط الغالين أو تفريط الجاهلين، فضلاً عن هوى المغرضين الذين يقولون الحق ومرادهم محو الحق ومحض الباطل.

 

وقد جاءت النصوص الشرعية بمراعاة أحوال المضطرين، إذ الشريعة عدل ورحمة ومصالح، وورد اعتبار الضرورة في نصوص الوحيين وفي القواعد العامة للشريعة، قال الله -جل شأنه-: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة: 173]، وروي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لا ضرر ولا ضرار"( حديث حسن رواه ابن ماجة والدارقطني).

 

ومن قواعد الشريعة العامة التي تدل على اعتبار الضرورة: محافظتها على الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، وعنايتها بجلب المصـالح ودرء المفاسد، وبناء الأحكام على التيسـير والتخفيف ورفع الحرج، واشتراط القدرة والاستطاعة لكثير من الواجبات الشرعية.

 

وتندرج الضرورة تحت قاعدتين من القواعد الفقهية، أولاهما: قاعدة المشقة تجلب التيسـير؛ فالضرورة من المشاق التي تستدعي التيسير، وثانيهما: قاعدة الضرر يزال؛ وهي من القواعد الفقهية الكبرى، وتشتمل على أصلين مهمين هما:

الأصل الأول: النهي عن إيقاع الضرر ابتداء. الأصل الثاني: وجوب رفع الضرر إن وقع.

 

والضرورة هي أن يطرأ على الإنسان حال من الخطر أو المشقة الشديدة بحيث يخاف حدوث ضرر عليه أو أذى يمس منه الدين، أو النفس، أو العرض، أو العقل، أو المال، ويتعين أو يباح عندئذ ارتكاب الحرام أو ترك الواجب، أو تأخيره عن وقته دفعاً للضرر المحتمل في غالب الظن؛ وضمن القيود والضوابط الشرعية التي سيرد الحديث عنها.

 

وقد تواترت الأدلة على أن الشريعة جاءت لحفظ الضروريّات الخمس، وصح عند العلماء جعل المحافظة على الأمر الضروري أصلاً ثابتاً لا يتغير أبداً، وأساساً قائماً لا ينقض ولا يعارض، وتسمى المحافظة على هذا الأمر الضروري حال ضرورة إن ترتبت عليه مخالفة لحكم شرعي ثابت.

 

ولاعتبار أمر ما بأنه داخل تحت حال الضرورة ضوابط لا مناص من مراعاتها والالتزام بها؛ حتى لا تكون الضرورة ألعوبة بيد العابثين، أو حجة يتذرع بها الكسالى والمفرطون، وهذه الضوابط هي:

أن تكون الضرورة قائمة لا منتظرة، ويغلب الظن بوقوعها لا مجرد الشك.

 

ألا يترتب على الأخذ بها إخلال بمبادئ الدين ومقاصد الشريعة كقتل معصوم الدم، والزنا، فهذه لا ضرورة تحلها؛ لأن تحريمها جاء على سبيل القصد والتعيين، لا على سبيل الذريعة والتكميل.

 

تعذر الوسائل المباحة لإزالة هذا الضرر؛ فيتعين إذ ذاك ارتكاب المحظور لأجل إزالته.

 

أن يقتصر فيما يباح تناوله للضرورة على الحد الأدنى أو القدر اللازم لدفع الضرر، ويكتفى في ارتكاب المحظور بأقل قدر يدفع الضرورة مع تقييد الإذن بزمن بقاء الضرورة فقط.

 

النظر إلى المآل؛ بحيث لا يترتب على العمل بالضرورة ضرر مساو أو أكبر من الضرر الحاصل كأن يأكل المضطر طعام مضطر آخر فالضرر لا يزال بمثله.

 

أن يتحقق ولي الأمر المجتهد -في حال الضرورة العامة- من وجود ظلم فاحش، أو ضرر واضح، أو حرج شديد، أو منفعة عامة، بحيث تتعرض البلاد أو العباد للخطر، إذا لم يؤخذ بمقتضى الضرورة.

 

وإذا كانت الضرورة عامة للأمة أو لغالبها، فإن تنزيلها على الواقع لا يكون إلا من علماء الشريعة الربانيين المشهود لهم بالعلم، والاجتهاد والأمانة، وفهم الواقع مع الاستعانة بأهل المعرفة والاختصاص، وإليهم يجب رجوع الأمة خاصتها وعامتها، وعن فتاواهم المستقلة تصدر الجموع حتى لا يصير دين الله نهباً للأهواء؛ ولا ذريعة للطغاة والمفسدين.

 

أما إن كانت الضرورة خاصة بإنسان ما فإن تطبيقها يختص به بعد سؤال أهل العلم، والواجب على الجميع تقوى الله قدر المستطاع والتثبت من الأحوال والوقائع، ثم الأخذ بهذه الضرورة وفق ضوابطها وقيودها المذكورة دون بغي ولا اعتداء، فإن ما جاز لعذر بطل بزواله.

 

ومن أسباب الوقوع في الضرورة: الإكراه من ظالم، والمخمصة، ودفع الصائل، والسفر، والمرض والتداوي، وعموم البلوى، وغيرها من الأحوال التي تقدر بقدرها وفق الضوابط الشرعية.

 

والعمل بالضرورة استثناء مؤقت، ولا مناص من السعي الصادق لإزالة الضرورة وبذل الجهد لرفعها، وعدم الركون إلى الرخصة؛ أو الاستسلام للحال والطمأنينة إليه، وهذا أمر واجب، ومن فروض الكفاية على الأمة، ويتعين على القادرين منها بسلطان أو علم أو مال أو فكر.

 

وحكم العمل بالضرورة الشرعية هو الإباحة، وذلك من حيث هي ضرورة، وأما بالنظر إلى ما يتصل بالضرورة من قرائن وأحوال فإن حكمها يدور بين الإباحة والوجوب؛ وبعض العلماء يرى وجوب الأخذ بالضرورة.

 

ويجب أن يكون العمل بالضرورة الشرعية مشروطاً بألا يعارضها مفسدة مساوية لها أو راجحة عليها، وبالتالي فقتل معصومي الدماء ليس من الضرورة في شيء؛ ومثله الزنا ولو وُضع السيف على رقبة المكره أو كانت المرأة في فقر بالغ.

 

ولا يعد العمل بالضرورة نقضاً لأدلة الشرع مع ما فيه من مخالفة واضحة للدليل الشرعي الثابت، لأن العمل بالضرورة وفق ضوابطها الشرعية عمل بالدليل الشرعي، فالضرورة ثابتة من خلاله، والعمل بالضرورة مقيد بضوابط تحفظ مقاصد الشريعة وتحققها، ومشروع في حدود مقاصد الشرع. بل إن العمل بالضرورة من الأمور التي تؤكد شمول الشريعة لشتى الوقائع، وصلاحها لكل زمان ومكان وحال، كما أن في العمل بالضرورة رحمة بالعباد ورعاية لمصالحهم، ودرءاً للمفاسد عنهم.

 

وتحتاج قاعدة الضرورات تبيح المحظورات إلى تقييد من جهتين؛ فالإباحة هنا بمعنى رفع الإثم والحرج، لا بمعنى التخيير بين الفعل والترك، ومن جهة أخرى فالضرورات لا تبيح كل المحظورات، بل هناك محظورات لا تباح البتة. وقد تساهل كثير من الناس في ارتكاب محرمات ومحظورات شرعية بحجة أن ذلك من قبيل الضرورة الشرعية، مستندين إلى أن الضرورات تبيح المحظورات، واستسلم آخرون إلى نعمة الترخص، مع أن الرخصة أمر عارض يجب السعي لرفعها والأخذ بعزائم الأحكام، ولذا فمن الواجب على العلماء والخطباء شرح هذه القواعد العامة إذا ذكروها حتى لا يقع العامة في فوضى المعنى العابر لها.

 

وفقه الضرورة من الدقة بمكان، ولا يتصدر له إلا من وعى الشريعة بأدلتها ومقاصدها، وفهم قواعدها ومراميها، فللضرورة تداخل مع باب الرخص، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وعموم البلوى، والإكراه، وغيرها من القواعد التي ينبغي اعتبارها حتى لا تكون الضرورة كالماء الذي يتوافق مع شكل أي إناء سواء اتسع أو ضاق، وأيا كانت مادته أو حجمه.

 

 وإن القيام بفروض الكفاية المعطلة في الأمة كفيل برفع حالات الاضطرار التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، كواجب إعداد القوة، ودفع الباغي، وسد الخلة، ونصرة المظلوم، وتعليم الجاهل، وقصر الآثم، والعناية بالتنمية، وإصلاح الاقتصاد، وتحسين الرعاية الاجتماعية والصحية، وغير ذلك مما يتعين القيام به على أناس بأعيانهم، أو يجب القيام بما يكفي منه على الأمة بمجموعها، وهذا من متعلقات الضرورة التي يحسن إنهاء الحديث عن الضرورة به؛ فلا يعقل بحال أن نستمرأ المخالفات والانتهاكات بحجة الضرورة، وقد قامت علينا الحجة بالمال والعلم والتقنية، وبتجارب الأمم التي كانت مستضعفة فإذا بها اليوم تنافس على الصدارة، وتتجاوز حال الضرورة والاستجداء إلى وضع التمكن والإملاء.

 

 أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

 

  ahmalassaf@

 

الأربعاء 08 من شهرِ رجب الحرام عام 1435

 

07 من شهر مايو عام 2014م

 

 *مجلة البيان، العدد324، شعبان 1435،يونيو 2014م

 

المشاهدات 500 | التعليقات 0