الصيف

د. منصور الصقعوب
1441/11/17 - 2020/07/08 17:05PM

الخطبة الأولى                             

حينما تحترُّ الأجواءُ وتلتهب أشعة الشمس وترتفع درجات الحرارة فإنما ذلك آيةٌ من آيات الله وتذكيرٌ بالنار.

الصيف ذلك الفصل الذي يشتد فيه الحرّ وتزدان فيه الثمار, لله حكمةٌ في تقديره بالغة, والله لا يقدِّر إلا لحكمة, وإن عنّا خفيت.

ولكل فصل من فصول السنة أثره على الأرض والإنسان, ولو استمرت الحياةُ شتاءً بارداً, أو صيفاً محرقاً, لتعطلت معايش الناس, ولهلك الحرث والنسل.

قال ابن القيم رحمه الله: ثم تأمل هذه الحكمة البالغةَ في الحرِّ والبرد, وقيامَ الحيوان والنبات بهما, وفكِّر في دخول أحدهما على الآخر بالتدرج والمُهلة, حتى يبلغ نهايته, ولو دخل عليه ‏مفاجأة, لأضرّ ذلك بالبدان والنباتات وأهلكها, ولولا العنايةُ والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك.

عباد الله: والمؤمن الذي تعلق قلبه بالله هو الذي إذا لفحة حرّ الدنيا تذكر الآخرة, وشتان ما بين حرٍّ وحرٍّ.

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة " قَالَتِ النَّارُ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأْذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ، فَأْذِنْ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ، أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ، وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ، أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ "

ولقد ورد في النصوص وصفُ الحرِّ في الآخرة في مشهدين:

فأما المشهدُ الأول: فيومَ أن يقومَ الناسُ لرب العالمين, وتدنو الشمس حتى تكون منهم مقدار ميل, وهناك يذهبُ العرقُ بالناس.

ولا عجب: فشمسُ اليوم على بعدها الشديد لا تقدرُ على المكث في الرمضاء حافياً من حرارتها, فكيف إذا أُدنيت!

مِن الناس من يبلغ به العرقُ إلى كعبيه, ومنهم إلى ركبتيه, وإلى أذنيه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً, وفي ذات الوقت أناسٌ مستظلون بظل العرش, أمِنوا من الحرّ, وبقوا في الظل, جعلنا الله وإياكم منهم.

وأما المشهد الثاني: ففي نار السَموم, حين يكون أهلُ النارِ فيها, فلباسهم من قطران, وشرابهم الحميم الذي يُقَطِّعُ الأمعاء من حرارته, وأما ظِلّهم فَمِنْ يحموم, هذا ظِلُّهم فكيف بِحَرّهم.

فيا مؤمن: اليوم تتقي حرّ الدنيا, فماذا أعددت لحرّ يوم القيامة, وماذا أعددت لحياة البرزخ والقبر.

رأى عمرُ بن عبد العزيز قوماً في جنازة, قد هربوا من الشمس إلى الظل, فقال:

من كان حين تصيب الشمسُ جبهته    أو الغبارُ يخاف الشينَ والشعثا ويألف الظل كي تبقى بشاشتُه            فسوف يسكن يوماً راغماً جدثاً

في قعر مُظلمةٍ غبراءَ موحشةٍ             يُطيل في قَعرها تحت الثرى اللبثا

تجهزي بجهازٍ تبلغين به                      يا نفسُ قبل الردى لم تُخلقي عبثاً

يا كرام: لئن كنا اليوم إذا اشتد بنا الحرّ نجد ما نتقي به, فكيف سنتقي حرّ الآخرة, وسَموم النار؟

أما إن الصدقة لها شأن في الوقاية من حرّ النار, وإنه لبابُ خيرٍ يُغفل عنه, حين يشتدُ الحرّ, صدقةُ ماءٍ بارد لمن بِه العطش, وتكييفٌ لمن لحقهم العوز, وخيرُ الصدقة ما وافق مسغبة.

وللصوم شأن في الوقاية من حرّ النار, وفي الصحيحين " من صام يوما ً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" وكان أبو سعيد ينتقي اليوم الشديد الحرارة فيصومه.

خرج الحجاج في يوم قائظ فأُحضِر له الغداء فقال: اطلبوا من يتغدى معنا، فطلبوا فلم يجدوا إلا أعرابيا، فأتوا به
فقال الحجاج: هلم لنتناول الغداء.

فقال الأعرابي: قد دعاني من هو أكرم منك فأجبته .
فقال الحجاج: من هو ؟

فقال الأعرابي: الله, دعاني إلى الصيام فأنا صائم .
فقال الحجاج: أصومٌ في مثل هذا اليوم الحار

فقال الأعرابي: صمت ليومٍ أشدَ منه حرّاً .
فقال الحجاج: أفطر اليوم وصم غدا .
فقال: أو يضمن الأمير أن أعيش إلى الغد؟

قال الحجاج: ليس ذلك إلي، فَعِلمُ ذلك عند الله .
فقال الأعرابي: فكيف تسألني عاجلا بآجل ليس إليه من سبيل

وأما معاذ بن جبل فإنه حين حضرته الوفاة, لم يأسف على مال ولا ولد, ولم يبك على فراق الدنيا, بل قال: اللهم إنك تعلم أني أحب البقاء لأجل ظمأ الهواجر-أي الصيام في الحر الشديد- وقيام الليل, ومزاحمة العلماء بالركب.

فلله ما أعظمها من خصال, وما أحياها من قلوب.

اللهم اعصمنا من حر الآخرة, اللهم صل على محمد

 

 

 

 

 

 

 

 

الحمد لله وحده

عباد الله: مع شدة الحرّ يقع البعض بخطيئتين وإثمين, فَكُنْ منهما على أشدِ الحذر.

فصنفٌ ديدنهم ذمُّ الحرّ وسبُّ الأجواء, وهذا إن كان على وجه التسخط فهو من سبِّ الدهر الذي قال عنه الله " يؤذيني ابن آدم, يسب الدهر, وأنا الدهر, أقلب الليل والنهار"

وإن كان لمجرد الإخبار وعابر الحديث, فذاك كلام لا طائل منه ولا ثمرة, وأولى بالإنسان أن ينشغل من الحديث بما ينفعه عند الله.

وآخرون كانت شدةُ الحرِّ مانعةً لهم من الإقبال على الطاعة, فتقاعسوا عن المساجد, أو عن بعض الطاعات بحجة الحرّ, وذلك حرمان والله, فما الحرّ إلا ابتلاء من الذي شرع العبادات

تَفِرُّ من الهجيرِ وتتقيه            فهلا من جهنم قد فررتا
ولستَ تطيق أهونَها عذابا                     ولو كُنت الحديدَ به لذبتا

لقد غزى النبي ق يوم تبوك, في حرٍّ شديد, فهب المؤمنون, وتقاعس المنافقون, وقال بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحرّ, فأنزل الله على نبيه (قل نار جهنم أشدُ حراً لو كانوا)

عباد الله: نعمٌ والله وفيرة نُذهِبُ بها حرَّ الصيف, تكييفٌ أينما وجهت, وماءٌ باردٌ متى أردت, وظلٌّ وافرٌ أينما بقيت, فأين الشاكرون؟

لقد كان النبي ق ينام فيعرق فَيُعبّأ من عرقه بالجرار الصغيرة ليتبرك به, هذا وهو أشرف الخلق, وما زال الناس إلى عقودٍ قريبة على قريب من تلك الحال الشديدة, فبالله عليك ماذا لقيت أنت من الحرّ, وهل أديت حق ربك في إنعامه؟.

وبعد: فالموفق من جعل مِن تقلب الزمان موسماً للطاعة, ومَن أحدث لكل زمانٍ عبادتَه, ومن وعظه نَفَسُ النار فقدّم ما ينجيه منها, وسعى ليكون ممن يستظلون يوم الحرّ الشديد بظل العرش.

 

 

 

المشاهدات 805 | التعليقات 0