الصيام، فقه وأحكام!
د. محمد بن سعود
الحمد لله الذي كتب علينا الصيام وجعله سبباً من أسباب غفران الذنوب وبابًا من أبواب الجنة دارِ السلام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله.. صاحبُ الحوض المورود والدرجاتِ العلى والمقاماتِ العظام، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمين ما تعاقبت الليالي والأيام .أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (
ثم اعلموا أن العلم بشريعة الله هو خير ما قُضيت فيه الأعمار، خاصة معالمُ الدين وأركانُه؛ فإنّ تعلُّمها فرضٌ على كل مسلم، ولا عذر لأحد بالجهل فيها، وإلا تعرض للوعيد، وحمَلةُ العلم هم من أرفع الناس في الدارين، ، وشفاءُ العيِّ السؤالُ (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) هذا إن عجز عن التعلم،
ولأنني قد تكلمت في الخطبة المنصرمة عن حِكم الصيام وأسرارِه، فإني أعرض اليوم –بإذن الله- أهمَّ أحكامِه، بطريق الاختصار، فأَرْعوني سمعكم وافتحوا لها قلوبكم، واعلموا أن الله شرع الصيام محدودًا بحدود شرعية، مَن تجاوزها أفسد صيامَه، أو نقّصَه، فيجب على المسلم أن يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله مما يتعلق بالعبادات المفروضة، ومن أهمها الصيام.
أيها الصائمون: أهمُّ المسائل المتعلقة بالصيام هي مفسداتُه، وما يوجبُ الكفارة؛ أي: (مفطّراتُ الصيام)، ولهذا سيكون الكلام كلُّ مرتكزًا عليها، وقد كتبَ العلماءُ في هذا الأمر، وصدرَت منهم الفتاوى الكثيرة، وتناولتْه المجامع الفقهية، وذلك لمسيس الحاجة إليه.
أيها المسلمون: اتفق العلماءُ على أن الأكلَ والشربَ والجماعَ مفسدةٌ للصوم؛ لقوله تعالى: )فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل(
وكل ما وصلَ إلى المعدة، فهو مفطّر، أيًّا كان، حتى لو كان غير مغذٍّ.
ولا يقع التفطير بأي فعل إلا إذا فعله الإنسان عالمًا مختارًا ذاكرًا،
ولا يفطر الصائم ببلع ريقه أو نخامته، ولا بدخول الغبار إلى حلقه، ولا يفطر بذوق الطعام، ولا بدخول الماء إلى بطنه أثناء المضمضة أو الاستنشاق وهو غير متعمد، ولا بخروج الدم منه قهرًا، ولا يفطِر بالقيء غيرَ متعمد لإخراجه.
أيها الصائمون: هناك مفطراتٌ معاصرة تدخل إلى بدن الصائم، وليست خارجةً منه، ويجب على المسلم أن يتجنبها، وإلا بطل صومُه؛ ومن ذلك الإبرُ الوريديةُ سواءٌ أكانت مغذيةً أم علاجية (تحتوى على غذاء كالماء)!؛ أما المعذية فحكمها ظاهر، وأما العلاجية فلأنها تحتوي على ماء، وعلى موادَّ غذائيةٍ؛ كالكالِسْيوم، والجلوكوز، وغيرِهما، بل قد تصل نسبةُ الماء في بعض هذه الإبر إلى نحو عشرة ملليترات، أو أكثر، كما في إبرة المضاد الحيوي؛ فهذه الإبر تفطر؛ لأن الجسم ينتفع بالماء، والمواد الغذائية التي في هذه الإبر، وبهذا كان يفتي مفتي عام المملكة ورئيسُ القضاة الشيخ محمدُ بن إبراهيم آل الشيخ –رحمه الله-، وهو الصحيح،
أما الحقنة الجلديةُ أو العضلية، فهذه لا تفطر أيًّا كان نوعها،
واعلموا –وفقكم الله- أن غالبَ الإبر التي تعطى للمرضى، هي إبر عضلية، ونادرًا ما تكون وريدية،
أيها الصائمون: الأقراص التي توضع تحت اللسان لعلاج بعض الأزَمات القلبية، وقطرةُ الأنف، وغاز الأكسجين الذي يُعطى لمرضى الجهاز التنفسي، وغازات التخدير (البنج) التي تكون عن طريق الشم بالأنف، أو التخديرُ الجاف الصيني، وقطرةُ الأذن، وغَسول الأذن، وقطرةُ العين، والدهانات، والمراهم، واللصقات العلاجية؛ فهذه كلُّها لا تفطر، وكلما استطاع الإنسان تأخيرَها إلى الليل فهو أحوط.
عباد الله: يحتاج كثير من الصائمين أحيانًا إلى بخاج الربو، والحكم فيه أنه إن كان من الأنواع القديمة التي هي عبارة عن علبة فيها دواءٌ سائل يحتوي على موادَّ كيميائيةٍ، وماء، وأكسجين؛ فهذه لا تفطر، أما البخاخات الحديثة المحتوية على كمية من البَودرة؛ فهذه ينبغي ألا تستعمل في النهار إلا عند الضرورة، ومن اضطر لاستخدامها نهارًا فليتمضمض مباشرة بعد استخدامها، حتى لاتنزل البودرة المتبقية على اللسان إلى المعدة مع اللعاب،
والواجب على المسلم حينما يسأل عن حكم استخدام الصائم لدواء معين، أن يوضّح للمفتي نوعَ ذلك الدواء، فليست البخاخات –مثلًا- على نوع واحد، والطب يتطور يومًا بعد يوم.
ومثل بخاج الفمِ في الحكم بخاخُ الأنف.
أيها المؤمنون: قد يحتاج الطبيب إلى استخدام منظار المعدة للكشف على معدةِ مريض صائم، فهنا نقول للصائم: إن وضع الطبيب على المنظار مادة دهنية مغذية لتسهيل دخول المنظار؛ فهما يفطِر الصائم؛ لأن هذه المادة مفطّرة بذاتها؛ لأنها مغذية
أما إن لم يضع الطبيب شيئًا على المنظار؛ فالأحوط للمسلم أن يعيد صيامه؛ لأن كلَّ ما يدخل للمعدة فهو مفطّر؛ ولو كان غير مغذٍّ، وهذا قول عامة فقهاء الإسلام –رحمهم الله-.
أما المنظار البطني أو تنظير البطن؛ وهو منظار يُدخَل من خلال فتحة صغيرة في جدار البطن إلى التجويف البطني؛ وذلك لأجل إجراء عملية جراحية –كاستئصال المرارة، أو الزائدة؛ أو تشخيص بعض الأمراض، أو سحب البُيَيْضات في عملية التلقيح الصناعي، ونحو ذلك= فهذا لا يفطر؛ لأن هذا المنظار لا يصل إلى المعدة، كما صرح بذلك الأطباء.
وهناك أنبوب دقيق يستخدم داخل الشرايين للتصوير أو العلاج أو غير ذلك، وتسمى (القسطرة)، فهذا لا يفطّر؛ لأنه لا يدخل المعدة، وليس بأكل ولا شرب.
أيها الصائمون: إذا أجريت للمسلم عمليةٌ جراحية واستُخدم فيها التخدير بالحُقن، واستمر الإغماء كل النهار؛ فلا يصح الصوم عند جماهير الفقهاء، وإن أفاق جزءًا من النهار -ولو قليلًا- صح صومه.
ثم اعلموا –رحمكم الله- أن غسيل الكُلى يفطر الصائم إذا كان مع الغسيل تزويد للجسم بموادَّ سكريةٍ أو غيرها، لأن هذه المواد بمعنى الأكل والشرب؛ فالجسم يتغذى بها ويتقوى، سواءٌ أكان الغسيلُ عبر الكلية الصناعية، أم عن طريقِ الغشاء البريتواني في البطن،
أما إذا لم يكن مع الغسيل موادُّ مغذية، فلا يفطّر إن شاء الله؛ لأن مجرد تنقية الدم ليس بمفطر. لكن ينبغي لمريض الكُلى أن يستمع لنصيحة الطبيب فيمتثل له إذا أمر بالفطر؛ لأن الغسيل قد يرهقه ويتعبه، وللمريض الحق في الفطر، ويقضي متى ما قدر؛ قال تعالى: )فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ(
وبعد: فاحرصوا رحمكم الله على تعلُّم أحكام دينِكم فهو رأسُ مالكم، وأدوا صيامكم كما أمركم ربكم، واحذروا من الوقوع في مفسداته ومنهياته؛ فيبطل ثوابكم، أو ينقص أجركم.
أقولي قولي هذا ....
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله المُؤمَّلِ الكريم، الرحمنِ الرحيم، أشهَدُ أن لا إله إلا هو الملكُ العليم، وأشهَدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين، أما بعد:-
فقد مرّ بنا فيما سبق شذراتٌ من أحكام الصيام، ونطرّزها بما تبقى، خاصة ما يتعلق بالمفطرات الخاصة بما يخرج من الجسد؛ فإن المسلم لا يجوز له التساهل في شيء من المفطرات، سواءٌ أكانت مما يدخل أم مما يخرج،
أيها الصائمون: يجب أن يعلم المسلم والمسلمة أن الغسول المِهبلي، والتحاميلَ العلاجية، والمنظارَ الشرجي، وأُصبُعَ الفحص الطبي، وإدخالَ القسطرةِ أو المنظارِ، أو إدخالَ الدواءِ أو المحلول لغسل المثانة، أو فحصَ مجرى البول= كلها لا تفطر الصائم،
أما الحُقنة الشرجية: فإنها تفطر الصائم إذا احتوت على موادَّ غذائيةٍ أو ماءٍ يمكن أن يُمتص؛ لأن هذا في الحقيقة بمعنى الأكل والشرب؛ إذ خلاصة الأكل والشرب هو ما يُمتص في الأمعاء.
وإذا حُقنت الأمعاءُ بدواء ليس فيه غذاء ولا ماء، فليس هناك ما يدل على التفطير، والأصلُ صحة الصيام.
عباد الله: يسأل الكثير من الناس عن حكم التبرع بالدم، وحكمِ أخذ عينة منه لغرض التحليل، والجواب أن ذلك لا يَضر الصائم، ما لم يكن الشخص ضعيفًا يُضر به ذلك ويُضعفه؛ فليتجنبه نهارًا.
وبعد: فما مضى إنما هو قطرة من بحر مسائل هذه العبادة، يُقاس به غيره، وتدرك به أصول الباب، ومن أشكل عليه شيء فليسأل أهل الفقه والعلم، فإنما شفاء العيِّ السؤالُ؛ وتلمَّسوا –وفقكم الله- أهلَ العلم المعتبرين، واسألوهم عما يشكل عليكم، واحذروا من التساهل في ذلك؛ فإن الأمر دين، فانظروا عمن تأخذون دِينكم قال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
واحرصوا على سلامة صيامكم، وإتمامِه، ولا يتساهل المسلم في ارتكاب شيء من المفطرات والمفسدات؛ تقبل الله منا ومنكم، ورزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وفقَّهنا في دينه،
وصلوا .........
المرفقات
فقه-وأحكام-2
فقه-وأحكام-2