الصوم الحقيقي ونفحات العشر. بتاريخ 18 / 9 / 1442هـ
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي بفضلِه تَتمُّ الصالحاتُ، وتُغفرُ الزلاتُ، وتُقبلُ الدعواتُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُ اللهِ ورسولِه، أقومُ الخلقِ منهجًا وسيرةً، وأنقاهم نفسًا وأطهرهم سريرةً، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه ومن تبعهم بإحسان وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب: 70 ـ 71].
أيُّها الصائمون: شرعَ اللهُ جلَّ وعلا لعبادِه الصومَ لمعانٍ ساميةٍ، وحكمٍ بالغةٍ، ليسَ فيهَا تشديدٌ ولا تفريطٌ، بلْ تجمعُ بينَ سعادةِ الروحِ والبدنِ، ومنْ تذوَّقَ حلاوةَ الصَّومِ الحقيقي عاشَ فرحًا مسرورًا متلذذًا بطاعةِ ربِّه ومولاه.
أيُّها الصائمونَ: ومِنْ مقاصدِ الصومِ العظيمةِ ما يأتي:
أولاً: تحقيقُ العبوديةِ للهِ تعالى: فهي الغايةُ العظمى والهدفُ الأسمى، فالصَّائمُ الحقيقيُّ يستحضرُ عظمةَ الخالقِ جلَّ وعلا، ويراقُبهُ في كلِّ لحظةٍ مِنْ لحظاتِ حياتِه، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم(مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (رواه البخاري(38) ومسلم(760).
ثانيًا: تحقيقُ تقوى اللهِ ـ عزَّ وجل ـ: فالصومُ لجامُ المتَّقينُ، ورياضةُ الأبرارِ والمقرَّبينَ، وهو عبادةٌ جليلةٌ جميلةٌ، يتقربُ بها العبدُ لربِّ العالمين، فالصائم يترك شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجلِه سبحانَه، وهو سرٌّ بين العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه سواه، ولا يتذوَّقُ حلاوةَ الصومِ إلا من قامَ به بصدقٍ وإخلاصٍ.
ثالثًا: تربيةُ النَّفسِ على مراقبةِ اللهِ جلَّ وعلا والصبرِ والتَّحمُّلِ ومحاسبتُها على التقصيرِ والزَّللِ: فالصومُ الحقيقيُّ يجعلُ الصائمَ مقبلاً على ربِّهِ، مُحبًا له، خاضعاً متذللاً بين يديِه، خائفًا من معصيتِه، مؤمِّلاً في رحمتِه ومغفرتِه، راجيًا رضاه وجنَّته.
رابعًا: الإمساكُ عن الطََّعامِ والشَّرابِ في رمضانَ ليسَ هدفًا في ذاتِه، بل هو وسيلةٌ لوصولِ المؤمنِ إلى رقَّةِ القلبِ وانكسارهِ وخشيتِه لربِّه، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلََّم:(مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)(رواه البخاري (1903)، وقال جابرٌ رضي اللهُ عنه: "إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ، وبَصَرُكَ، وَلِسَانُكَ، عَنِ الكَذِبِ، وَالمَحَارِمِ، وَدَعْ أَذَى الخَادِمِ، وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ، وَلَا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاءً".
خامسًا: الصَّائمُ الحقيقيُّ في هذا الشهرِ، تسْمُو فيه روحُهُ، ويتطهَّرُ قلبُهُ، ويحيَا فيه ضميرُه، وتعلُو أخلاقُه، وتُشحذُ فيه هممُه، ويتحلَّى بجميلِ الألفاظِ في أقوالِه، وأفعالِه، وينفِّرُ مِنْ كلِّ سيءٍٍّ وخبيثٍ.
سادسًا: الصائمُ الحقيقيُّ في هذا الشهرِ يكونُ أملُه في نيلِ القبولِ من ربِّهِ، وتحصيلِ رضاه، والوصولِ إلى جنتَّهِ، وكلمَّا كانَ العبدُ أصدقَ في تعاملِه مع اللهِ نالَ شرفَ القبولِ من ربِّ الأربابِ وقيَّومِ الأرضِ والسماواتِ.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}[البقرة:183].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيها المؤمنون، واعلموا أنَّ أيامَ العشرِ الأواخرِ قد أقبلتْ، وهيَ من أفضلِ أيامِ الشهرِ وليالِيه شرفًا ورفعةً وفضلاً لما اختصّها اللهُ به من ليلةٍ عظيمةٍ،{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر:1ـ 3)، وقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:(مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)(رواه البخاري(35) ومسلم(760)، وكانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (إذا دخَلَ العَشرُ أحيا اللَّيلَ، وشَدَّ المِئزَرَ، وأيقَظَ أهلَه)(رواه البخاري(2024) ومسلم(1174)، وكانَ يجتهدُ فيها أكثرَ من غيرِها.
ورغَّبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمتَه في التماسِ ليلةِ القدرِ في ليالي العشرِ الأواخرِ، وخاصةً في ليالي الوترِ، وأرجى تلكَ اللياليَ هي ليلةُ السابِع والعشرينَ من هذا الشهرِ الكريمِ، لقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:(الْتَمِسُوها في العَشْرِ الأواخِرِ، يَعْنِي لَيْلَةَ القَدْرِ، فإنْ ضَعُفَ أحَدُكُمْ، أوْ عَجَزَ، فلا يُغْلَبَنَّ على السَّبْعِ البَواقِي)(رواه مسلم(1165)، ولقد أرشدَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المسلمَ إلى ما يدعو بِه في ليلةِ القدرِ، بقولِه:(اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي) (رواه الترمذي(3513).
أسألُ اللهَ تعالَى أَنْ يباركَ لنَا فيما تَبقَّى من شهرِنا، وأَنْ يعينَنا على الاجتهادِ في العشرِ الأواخرِ، وأن يمنَّ علينَا ببلوغِ ليلةِ القدرِ وقيامِها إيمانًا واحتسابًا، وأَنْ يجعلنَا وإيَّاكم في ختامِ هذا الشهرِ من المقبولينَ ومن عتقائِه من النارِ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا].
الجمعة: 18 / 9 / 1442هـ