الصراع بين الحق والباطل (1-4) د. سعيد بن ناصر الغامدي
احمد ابوبكر
1438/06/20 - 2017/03/19 10:48AM
[align=justify]السنن الإلهية في قضية الصراع بين الحق والباطل (1-3)
1 – منزلة القرآن وأهمية تدبره.
2 – معنى السنة الإلهية.
3 – سمات السنن الإلهية.
4 – أهمية معرفة السنن الإلهية وسبل ذلك.
• • • • •
[1] – منزل القرآن وأهمية تدبره
القرآن كلام من له الكمال المطلق فهو كامل، القرآن كلام العالم بكل شيء والخالق لكل شيء والمالك لكل شيء والمدبر لكل شيء فهو كامل شامل حق مبين.
وقد ورد في منزلة القرآن وفضله آيات كثيرة وأحاديث وآثار:
فمن القرآن وصف الله للقرآن بأنه تبيان لكل شيء.
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الإسراء: 81].
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} [الروم: 58].
وأخبر الله بأن هذا القرآن يهدي من اتبعه إلى أقوم مسلك وأقوم منهج، وأسلم طريق:
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [سورة الإسراء: 9].
القرآن كتاب الحق نزل من عند الحق وبالحق نزل:
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...} [آل عمران: 2 – 3].
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [سورة النساء: 105].
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: 1].
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 5].
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6].
{إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} [الزمر: 41].
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ} [محمد: 2].
القرآن نور وروح وبرهان:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
القرآن فرقان بين الحق والباطل والصواب والخطأ والحقيقة والوهم:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
هو مصدر الهداية:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157].
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52].
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20].
{... تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ. هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1-2].
أما من الأحاديث:
1 – قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أبشروا فإن هذا القرآن طرفهُ بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبداً).
2 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما بعد، ألا أيها الناس، فإنَّمَا أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتابُ الله، فيه الهدى والنور من استمسك به، وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلَّ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكِّركُمُ الله في أهل بيتي).
3 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (القرآن شافعٌ مشفَّعٌ، وما حِلُّ مصَدَّقٌ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار).
4 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كتاب الله هو حبلُ الله الممدود من السماء إلى الأرض).
5 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو جُمِعَ القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار).
6 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار).
ومن الآثار:
عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: (كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، ولاتتشعب فيه الآراء، ولايشبع منه العلماء، ولايمله الأتقياء، ولايخلق على كثرة الرد، ولاتنقضي عجائبه، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا به فقد هدي إلى صراط مستقيم).
وأسند ابن الأنباري في كتاب (الرد على من خالف مصحف عثمان) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من اتبعه، لايعوج فيقوم، ولايزيغ فيستعتب، ولاتنقضي عجائبه، ولايخلق عن كثرة الرد).
وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغدير يدعى خُماً بين مكة والمدينة، فقال: (يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله فيه...).
أمر الله تعالى بتدبر القرآن واتباع هداه:
قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].
المحرومون من فقهه:
قال تعالى: {وَمِنْهُم مَن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَيُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء: 41].
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ. كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ} [الروم: 58-59].
هو موعظة وشفاء لما في الصدور:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].
هو بشارة لأهل الإيمان:
قال تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97].
وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} [مريم: 97].
وقال تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ. هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1-2].
[2] – معنى السنن الإلهية
المفهوم العام:
يتحدث القرآن الحكيم عن سنن الله العامة في الكون على أنها دعامة النظام الكوني المتماسك بوشائج التوازن الذي يحكم به هذا النظام، فهذا الترابط المحكم بين عوالم الكائنات علويها وسفليها، وهذا التنسيق بين آحادها ومجموعاتها، وهذه الأوضاع المنسجمة التي تتراءَى في وضع كل كائن في مكانه من التركيب الكوني، وهذا الاتّساق في تقدير صلة كل عنصر من عناصر الكون بسائر العناصر ؛ هو الإطار الذي تجمعت فيه الخطوط التي تصور سنن الله الكونية التي يتحقق بها جميع المخلوقات.
وقد بيّن القرآن ذلك في عديد من آياته فقال في سورة الحجر: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ}.
وقال في سورة الروم: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ}، وقال في سورة الدخان: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} وتختص آية الإلهية، وذلك في نفي اللعب عن خلق السموات والأرض، وذلك يعني نفي الفوضى التي تعتمد المصادفات والأرض، ولهذا عقَّبَها القرآن بما رجع بالآية إلى أختيها آيتي الحجر والروم في بيان أن خلق السموات والأرض وما بينهما صدر منذ الأزل متلبساً بالحق، والحق هو الوجود الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل.
فالقرآن العظيم يرسم صورة للنظام الكوني في نماذج المخلوقات، يستبين منها أن الكون كله خاضع في نظام سيره في وحدة قائمة على اتساق في وضع وتركيب كل كائن في موضعه من نظام الكون العام، وهذا التماسك والاتساق بين ذرات الكون هو ما نعنيه بالتوازن المحكوم بسنن الله في هذا الكون العظيم.
وسنن الله تعالى في المجتمع جانب من جوانب الحقيقة القرآنية التي بثها الله في آيات هذا الكتاب المبين نظاماً اجتماعياً مترابطاً إلى جانب سنن الله العامة في الكون، التي تصور حكمة وعمق القرآن في فهم الحياة كما تصور حكمته في نعوت الكمال لله تعالى خالق الحياة، وفلسفة القرآن تجعل من الكون كله حقيقة واحدة طوى فيها خالقها دلائل وجوده، وبراهين وحدانيته، وآيات قدرته وعلمه وحكمته، ووكل إلى العقل البشري تكليفاً وتشريفاً الكشف عن هذه الدلائل والبراهين بما أودع فيه من قوة إدراكية غائصة، وبما أمده به من عون في تهدِّيه إليها، وهذا المعنى هو خلاصة وعد الله تعالى لهذا العقل بالكشف عن آيات الله في الكون، يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
إن ما يقع في هذا العالم من حوادث ومجريات لا يقع صدفة، ولا خبط عشواء، وإنما يقع ويحدث وفق قانون عام دقيق ثابت صارم لا يخرج عن أحكامه شيء.
والكائنات الحية – بما فيها الإنسان – تخضع لهذا القانون، فخلق الإنسان والأطوار التي يمر بها في بطن أمه يخضع في ذلك كله إلى هذا القانون العام الثابت.
والظاهرات الكونية هي من الآيات الدالة على خالق هذا الكون، وهي خاضعة لهذا القانون الثابت.
والإنسان لا يستطيع أن يغير شيئاً من هذا القانون، وإنما يستطيع أن يوسع معرفته بتفاصيله وجزئياته الكثيرة جداً، وذلك بالنظر والمشاهدة والتأمل والاستقراء والتجارب.
والبشر يخضعون لقوانين ثابتة – يسميها القرآن بالسنن – في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش، والسعادة والشقاء، والعز والذل، والرقي والتأخر، والقوة والضعف، وما يصيبهم في الدنيا والآخرة من عذاب أو نعيم.
قال سيد قطب في الظلال جـ1 ص513: ({أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}، ثم يمضي خطوة في استعراض أحداث المعركة، والتعقيب عليها، فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور، واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم -وهم المسلمون – مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة، وتصوغهم صياغة واقعية، تتعامل مع واقع الأمر، وطبيعة السنن، وجدية هذا الواقع الذي لا يجابي أحداً لا يأخذ بالسنن، ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة ! ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة، وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم !.. ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة - التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية العقد - بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج، وبمشيئة الله الطليقة من رواء السنن والقوانين ؛ فيكشف لهم عن حكمتهم ما وقع، وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم، وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها، وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها، وليمحص قلوبهم، ويميز صفوفهم، من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث، فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره.. وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق: [أو لَمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا ؟ قل: هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير. وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ! هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، والله أعلم بما يكتمون. الذين قالوا لإخوانم - وقعدوا -: لو أطاعونا ما قتلوا. قل: فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)...
لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته.. ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم، وباستكمال العدة التي في طاقتهم، ويبذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سنة الله، وسنة الله لاتحابي أحداً.. فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لايقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس، فإنَّمَا هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن، ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس.. ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً كذلك، ولا يضيع هباء، فإن استسلامهم لله، وحملهم لرايته، وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه.. من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية – بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح – وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب، تزيد في نقاء العقيدة، وتمحيص القلوب، وتطهير الصفوف، وتؤهل للنصر الموعود، وتنتهي بالخير والبركة.. ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته، بل تمدهم بزاد الطريق، مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق].
فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار، يرتبط به سعي الناس للكسب، وعلم السنين والحساب. ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر، وترتبط به عواقب الهدى والضلال، وفردية التبعة فلاتزر وازرة وزر أخرى، ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولاً، وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها، وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة.. كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لاتتبدل، ونظام لايتحول فليس شيء من هذا كله جزافاً.
تعريف السنة:
هي الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للبشر بناء على سلوكهم وأفعالهم وموقفهم من شرع الله وأنبائه وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة.
قال ابن تيمية: (السنة هي العادة التي تتضمن أن يُفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار).
وقال: (... إن الله أخبر أن سنته لن تبدل ولن تتحول وسنته عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي).
وابن كثير في تفسير آية الأنفال: {وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} قال: (أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة) 3/316.
وقال في تفسير آية الإسراء: (سنة من قد أرسلنا من رسلنا، أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا يرسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب...) 4/332.
قال سيد 3/1201: (... شهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر، وشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً).
وقال في 3/1336: ({وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}..
إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة، ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر.. ومن ثَمَّ يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور ؛ وتتم وفقه الأحداث ؛ ويتحرك به تاريخ ((الإنسان)) في هذه الأرض، وأن الرسالة ذاتها – على عظم قدرها – هي وسيلة من وسيلة من وسائل تحقيق الناموس – وهو أكبر من الرسالة وأشمل – وأن الأمور لا تمضي جزافاً ؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض – كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان ! – وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية، وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة ؛ التي وضعت السنة، وارتضت الناموس.
ووفقاً لسنة الله الجارية، وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان، مما حكاه السياق، ويكون من أمر غيرها ما يكون!).
السنن الإلهية:
مرتبطة بالمشيئة الإلهية وهي مشيئة كونية لابد من وقوعها.
وهي مرتبطة بالإرادة الكونية.
وهي التي يجب معها وجود الفعل، وهي الموجبة للفعل المحققة له.
وهي متعلقة بكلمات الله الخلقية الكونية.
[3] – سمات السنن الإلهية
الوجه الأول:
السنن الذي تخضع لهما جميع الكائنات الحية في وجودها المادي وجميع الحوادث المادية ويخضع له كيان الإنسان المادي، نمو وحركة أعضائه وحياته وموته، وهذا الوجه لا يختلف في وجوده أهل العلم، ولا في خضوع الكائنات المادية له.
ووجوده ودقته واستمرارية نظامه من أكبر الأدلة على وجود الله وربوبيته.
من سماته الثبات والاستمرار واطراد أحكامه على الحوادث والظواهر التي تحكمها هذه السنة.
فالأرض تحيا بالمطر ويخرج به منها النبات والشمس من المشرق إلى المغرب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} الآيات {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}.
ومعرفة هذه السنة مباحة للجميع من مسلم وكافر وأكثرهما جدية ونشاطاً ونظراً وبحثاً وسعياً أكثرهما وقوفاً عليه وإحاطة بجوانبه وجزئياته.
الوجه الثاني من السنن الإلهية هو الذي يتعلق بخضوع البشر أفراداً وأُمَماً وجماعات له، أي أن تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش والسعادة والشقاء والعزل ؛ والذل والرقي والتأخر والقوة والضعف، ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا، ثُمَّ ما يصيبهم في الآخرة من عذاب أو نعيم، كل ذلك يجري وفق أحكام هذا الوجه من السنن الإلهية.
تؤكد أدلة الوحي المعصوم وتبين بجلاء ووضوح وجود [سنة عامة] لله تعالى تخضع لحكمها تصرفات البشر وأفعالهم وسلوكهم، ومواقفهم من شرع الله، وما قد يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة.
السنة
القانون والطريقة
لاتبديل لسنن الله:
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
{وَإِن يَعُوْدُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}.
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}.
من سمات سنة الكونية:
[الثبات]: فهي ثانية لا تتغير ولا تتبدل: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
[الاطراد]: فهي مطردة لا نتخلف، ويدل على اطرادها أن الله تعالى قص علينا قصص الأمم السابقة وما حلّ بها لنتعظ ونعتبر ولانفعل فعلهم لئلا يصيبنا ما أصابهم، ولولا اطرادها لما أمكن الاتعاظ والاعتبار بها، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}، وقال عن بني النظير: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}.
[العموم]: فهي عامة يسري حكمها على الجميع دون محاباة ولا تمييز {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}.
وقد بين سبحانه وتعالى أن السنة لا تتبدل ولا تتحول في غير موضع، و (السنة) هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول ؛ ولهذا أمر سبحانه وتعالى بالاعتبار، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}.
والاعتبار أن يقرن الشيء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه، قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جوزي مثل جزائهم ؛ ليحذر أن يعمل مثل أعمال الكفار ؛ وليرغب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين اتباع الأنبياء.
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
وقال تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِن الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}.
وقال تعالى: {لَئِن لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
والمقصود أن الله أخبر أن سنته لن تبدل ولن تتحول، وسنته عادته التي يسوى فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة ؛ ولهذا قال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ}؟ وقال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي أشباههم ونظراءهم، وقال: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قرن النظير بنظيره، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ}، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
[4] - أهمية معرفة السنن الإلهية وسبل ذلك
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} من الضروري جداً للمسلمين عموماً، والدعاة والساسة منهم خصوصاً أن يتفهموا سنن الله في الاجتماع البشري ليعرفوا أسباب النجاح والهلكة فيأخذوا بالأولى ويتخلصوا من الثانية.
السبل لمعرفة السنن:
1 - الرجوع إلى كتاب الله العظيم وسنة نبيه الكريم، ففيهما القول الفصل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
قال الألوسي في تفسير 14/214 في تفسير هذه الآية: (والمراد من كل شيء ما يتعلق بالناس أي بياناً بليغاً لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملة ذلك أحوال الأمم مع أنبيائهم).
2 - معرفة قصص الأمم السالفة وماذا حدث منها مع أنبيائها وماذا حدث لهم من فوز أو عذاب ولذلك أتى القرآن العظيم بقصص السالفين.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى: (وإنَّما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم، لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، ثُمَّ قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر في الحروب من السيرة المكذوبة).
3 - النظر في التاريخ ودراسته في حصة متأنية واستخراج العبر، وقياس النظير بنظيرة.
قال د/ يوسف القرضاوي في الصحوة الإسلاميَّة بين الجحود والتطرف ص 100 - 104: (ومن غرائب ما قرأت وسمعت، موقف قيادة الجماعة التي سموها ((جماعة التكفير والهجرة)) من التاريخ كما شهد بذلك شاهد من أهلها، فقد سجل الأستاذ عبدالرحمن أبو الخير في ذكرياته عن ((جماعة المسلمين)) - وهذا اسمها عند أصحابها وأتباعها - هذا الموقف باعتباره أحد أوجه الخلاف بينه وبين الشيخ شكري مؤسس الجماعة ؛ إذ كان الوجه الرابع منها هو ((عدم الاعتداد بالتاريخ الإسلامي، فقد كان شكري يعتبره وقائع غير ثابتة الصحة، وإن التاريخ عنده هو أحسن القصص في القرآن الكريم، ولذا يحرم دراسة عصور الخلافة الإسلاميَّة، أو الاهتمام بها)) ص 35.
فانظر يا رعاك الله إلى هذه النظرة السطحية الضيقة الأفق، التي تجعل دراسة تاريخ المسلمين حراماً دينياً ! مع أن التاريخ هو مخزن العبر، ومعلم الأمم، فكما أن الفرد يتعلم من أحداث أمسه لغده، فإن الأمة أيضاً تأخذ من ماضيها لحاضرها، وتستفيد من صوابها وخطئها معاً، ومن انتصاراتها وهزائمها جميعاً.
والتاريخ إنَّما هو في الواقع ذاكرة الأمة الحافظة الواعية، والأمة التي تهمل تاريخها أشبه بالفرد يفقد ذاكرته، ويعيش ليومه وحده، بلا ماض يعرفه ويبني عليه، إنه إنسان مبتلى مقطوع الجذور، يرثى لحاله، وهو أحوج ما يكون إلى العلاج، فكيف ترضى جماعة أن تجعل هذا الوضع المرضيّ الشاذ أساساً لحياتها؟.
والتاريخ هو المرآة التي تتجلى فيها سنن الله تعالى في الكون عامة، وفي الاجتماع البشري خاصة، ولهذا عني القرآن عناية بالغة بلفت الأنظار، وتنبيه العقول إلى هذه السنن للانتفاع بها، وتلقي الدروس العملية منها.
اقرأ معي هذه الآيات الكريمة: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، وهذه السنن تتميز بالثبات، فلا تتبدل ولا تتحول، كما قال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُورًا. اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَل يَنْظُرُونَ إلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
كما تتميز هذه السنن بالعموم، فهي تنطبق على الناس جميعاً، بغض النظر عن أديانهم، وجنسياتهم، فأي مجتمع أخطأ أو انحرف لقي جزاء خطئه أو انحرافه، ولو كان هو مجتمع الصحابة أو مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسبنا في هذا ما دفعه الصحابة ثمناً لخطئهم في غزوة أُحُد، وهو ما سجله القرآن عليهم بوضوح في قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، وبين في آية أخرى هذا الذي عند أنفسهم بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ}.
وأمَّا القول بأن التاريخ وقائع غير ثابتة الصحة، فقد يصدق هذا على بعض الوقائع الجزئية، أمَّا الاتجاهات العامة، والأحداث الأساسية معروفة وثابتة بيقين بأكثر من دليل، على أن تلك الوقائع التي يحيط بها بعض الريب لا يصعب على أهل الذكر تمحيصها، وتمييز الخطأ من الصواب فيها، والثابت من المختلق أو المبالغ فيه منها.
على أننا لا نعني بالتاريخ تاريخ المسلمين فحسب، بل تاريخ البشرية حيثما عرف، وتاريخ الأمم في أي أرض كانت، وفي أي عصر كانت، وعلى أي ملة كانت، مسلمة أو غير مسلمة، فالعبرة لا تؤخذ من سير المؤمنين وحدهم، بل تؤخذ من المؤمن والكافر، ومن البر والفاجر ؛ لأن الفريقين تجري عليهما سنن الله بالتساوي، ولا تحابي هذه السنن أحداً شأنها شأن السنن والقوانين الطبيعية، فقوانين الحرارة والبرودة، والغليان والانصهار، والضغط والانفجار، قوانين كونية عامة، تتعامل مع الموحدين تعاملها مع الوثنيين.
بل نحن لا نفهم القرآن كما ينبغي، ولا نعرف فضل الإسلام تماماً، ما لم نعرف ماذا كانت عليه الجاهليَّة من ضلال، أشار إليه القرآن بمثل قوله: {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}، وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا}.
وهذا سر ما ورد عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حين قال: إنَّما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهليَّة.
وإذا كان الاعتراف بالحق فضيلة، فإني أعترف أن كثيراً من المشتغلين بأمر الإسلام والدعوة إليه، لم يقرأوا التاريخ، وإن لم يحرّموا دراسته على أنفسهم وأتباعهم كما حرمها بعض الغلاة، أعني: لم يقرأوه ببصيرة نفاذة، ووعي حاضر، فليس المهم قراءة الأحداث مسرودة متتابعة، بل المهم النفاذ إلى لبها ومعرفة العبرة منها، والوصول إلى سنن الله فيها.
كما أنه ليس المهم لمن يسير في الأرض وينظر في آثار الأمم أن يراها بعين رأسه، ويسمع أخبارها بأذنه، إنَّما المهم هنا هو عين القلب وأذنه، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
إن أحداث التاريخ تتكرر وتتشابه إلى حد كبير ؛ لأن وراءها سنناً ثابتة تحركها وتكيفها، ولهذا قال الغربيون: (التاريخ يعيد نفسه)، وعبر العرب عن هذا المعنى بقولهم: (ما أشبه الليلة بالبارحة !).
والقرآن الكريم أشار إلى تشابه المواقف والأقوال والأعمال، نتيجة لتشابه الأفكار والتصورات التي تصدر عنها، وفي هذا جاء قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
وقال تعالى عن مشركي قريش: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِّنَ رَسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.
أي: إن هذا الاشتراك والتشابه في الموقف من الرسل، بين الأولين والآخرين، والمسارعة إلى الاتهام بالسحر أو الجنون، لم ينشأ نتيجة تواص بين هؤلاء وأولئك، بل السبب أنهم جميعاً طغاة ظالمون، فلما تشابهوا في السبب، وهو الطغيان، تشابهوا في النتيجة.
ومن عرف التاريخ وسنن الله فيه، وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، تعلّم من أخطاء الآخرين، وكان له بهم عظة، فالسعيد من وعظ بغيره، واقتبس مِمَّا عندهم من خير، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها.
المصدر: الألوكة
[/align]
1 – منزلة القرآن وأهمية تدبره.
2 – معنى السنة الإلهية.
3 – سمات السنن الإلهية.
4 – أهمية معرفة السنن الإلهية وسبل ذلك.
• • • • •
[1] – منزل القرآن وأهمية تدبره
القرآن كلام من له الكمال المطلق فهو كامل، القرآن كلام العالم بكل شيء والخالق لكل شيء والمالك لكل شيء والمدبر لكل شيء فهو كامل شامل حق مبين.
وقد ورد في منزلة القرآن وفضله آيات كثيرة وأحاديث وآثار:
فمن القرآن وصف الله للقرآن بأنه تبيان لكل شيء.
قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111].
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الإسراء: 81].
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} [الروم: 58].
وأخبر الله بأن هذا القرآن يهدي من اتبعه إلى أقوم مسلك وأقوم منهج، وأسلم طريق:
قال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [سورة الإسراء: 9].
القرآن كتاب الحق نزل من عند الحق وبالحق نزل:
{اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ...} [آل عمران: 2 – 3].
{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [سورة النساء: 105].
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
{المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد: 1].
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 5].
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6].
{إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} [الزمر: 41].
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَبِّهِمْ} [محمد: 2].
القرآن نور وروح وبرهان:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
القرآن فرقان بين الحق والباطل والصواب والخطأ والحقيقة والوهم:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1].
هو مصدر الهداية:
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157].
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52].
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20].
{... تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ. هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1-2].
أما من الأحاديث:
1 – قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أبشروا فإن هذا القرآن طرفهُ بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا، ولن تضلوا بعده أبداً).
2 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما بعد، ألا أيها الناس، فإنَّمَا أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربي فأُجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتابُ الله، فيه الهدى والنور من استمسك به، وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلَّ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكِّركُمُ الله في أهل بيتي).
3 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (القرآن شافعٌ مشفَّعٌ، وما حِلُّ مصَدَّقٌ، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار).
4 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كتاب الله هو حبلُ الله الممدود من السماء إلى الأرض).
5 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو جُمِعَ القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار).
6 – وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار).
ومن الآثار:
عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: (كتاب الله تبارك وتعالى، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، ونوره المبين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، ولاتتشعب فيه الآراء، ولايشبع منه العلماء، ولايمله الأتقياء، ولايخلق على كثرة الرد، ولاتنقضي عجائبه، من علم علمه سبق، ومن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا به فقد هدي إلى صراط مستقيم).
وأسند ابن الأنباري في كتاب (الرد على من خالف مصحف عثمان) أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة من تمسك به، ونجاة من اتبعه، لايعوج فيقوم، ولايزيغ فيستعتب، ولاتنقضي عجائبه، ولايخلق عن كثرة الرد).
وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغدير يدعى خُماً بين مكة والمدينة، فقال: (يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله فيه...).
أمر الله تعالى بتدبر القرآن واتباع هداه:
قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].
المحرومون من فقهه:
قال تعالى: {وَمِنْهُم مَن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَيُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} [الإسراء: 41].
وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء: 46].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ. كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَيَعْلَمُونَ} [الروم: 58-59].
هو موعظة وشفاء لما في الصدور:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].
هو بشارة لأهل الإيمان:
قال تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 97].
وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ} [مريم: 97].
وقال تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ. هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1-2].
[2] – معنى السنن الإلهية
المفهوم العام:
يتحدث القرآن الحكيم عن سنن الله العامة في الكون على أنها دعامة النظام الكوني المتماسك بوشائج التوازن الذي يحكم به هذا النظام، فهذا الترابط المحكم بين عوالم الكائنات علويها وسفليها، وهذا التنسيق بين آحادها ومجموعاتها، وهذه الأوضاع المنسجمة التي تتراءَى في وضع كل كائن في مكانه من التركيب الكوني، وهذا الاتّساق في تقدير صلة كل عنصر من عناصر الكون بسائر العناصر ؛ هو الإطار الذي تجمعت فيه الخطوط التي تصور سنن الله الكونية التي يتحقق بها جميع المخلوقات.
وقد بيّن القرآن ذلك في عديد من آياته فقال في سورة الحجر: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ}.
وقال في سورة الروم: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ}، وقال في سورة الدخان: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ. مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} وتختص آية الإلهية، وذلك في نفي اللعب عن خلق السموات والأرض، وذلك يعني نفي الفوضى التي تعتمد المصادفات والأرض، ولهذا عقَّبَها القرآن بما رجع بالآية إلى أختيها آيتي الحجر والروم في بيان أن خلق السموات والأرض وما بينهما صدر منذ الأزل متلبساً بالحق، والحق هو الوجود الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل.
فالقرآن العظيم يرسم صورة للنظام الكوني في نماذج المخلوقات، يستبين منها أن الكون كله خاضع في نظام سيره في وحدة قائمة على اتساق في وضع وتركيب كل كائن في موضعه من نظام الكون العام، وهذا التماسك والاتساق بين ذرات الكون هو ما نعنيه بالتوازن المحكوم بسنن الله في هذا الكون العظيم.
وسنن الله تعالى في المجتمع جانب من جوانب الحقيقة القرآنية التي بثها الله في آيات هذا الكتاب المبين نظاماً اجتماعياً مترابطاً إلى جانب سنن الله العامة في الكون، التي تصور حكمة وعمق القرآن في فهم الحياة كما تصور حكمته في نعوت الكمال لله تعالى خالق الحياة، وفلسفة القرآن تجعل من الكون كله حقيقة واحدة طوى فيها خالقها دلائل وجوده، وبراهين وحدانيته، وآيات قدرته وعلمه وحكمته، ووكل إلى العقل البشري تكليفاً وتشريفاً الكشف عن هذه الدلائل والبراهين بما أودع فيه من قوة إدراكية غائصة، وبما أمده به من عون في تهدِّيه إليها، وهذا المعنى هو خلاصة وعد الله تعالى لهذا العقل بالكشف عن آيات الله في الكون، يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
إن ما يقع في هذا العالم من حوادث ومجريات لا يقع صدفة، ولا خبط عشواء، وإنما يقع ويحدث وفق قانون عام دقيق ثابت صارم لا يخرج عن أحكامه شيء.
والكائنات الحية – بما فيها الإنسان – تخضع لهذا القانون، فخلق الإنسان والأطوار التي يمر بها في بطن أمه يخضع في ذلك كله إلى هذا القانون العام الثابت.
والظاهرات الكونية هي من الآيات الدالة على خالق هذا الكون، وهي خاضعة لهذا القانون الثابت.
والإنسان لا يستطيع أن يغير شيئاً من هذا القانون، وإنما يستطيع أن يوسع معرفته بتفاصيله وجزئياته الكثيرة جداً، وذلك بالنظر والمشاهدة والتأمل والاستقراء والتجارب.
والبشر يخضعون لقوانين ثابتة – يسميها القرآن بالسنن – في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش، والسعادة والشقاء، والعز والذل، والرقي والتأخر، والقوة والضعف، وما يصيبهم في الدنيا والآخرة من عذاب أو نعيم.
قال سيد قطب في الظلال جـ1 ص513: ({أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا}، ثم يمضي خطوة في استعراض أحداث المعركة، والتعقيب عليها، فيعرض دهشتهم لما صارت إليه الأمور، واستغرابهم لوقوع ما وقع بهم -وهم المسلمون – مما يشي بسذاجة تصورهم للأمر يومذاك قبل أن تطحنهم التجربة، وتصوغهم صياغة واقعية، تتعامل مع واقع الأمر، وطبيعة السنن، وجدية هذا الواقع الذي لا يجابي أحداً لا يأخذ بالسنن، ولا يستقيم مع الجد الصارم في طبيعة الكون والحياة والعقيدة ! ومن ثم يقفهم على الأرض الصلبة المكشوفة، وهو يبين لهم أن ما أصابهم كان بفعلهم، وكان الثمرة الطبيعية لتصرفهم !.. ولكنه لا يتركهم عند هذه النقطة - التي وإن كانت حقيقة إلا أنها ليست نهاية العقد - بل يصلهم بقدر الله من وراء الأسباب والنتائج، وبمشيئة الله الطليقة من رواء السنن والقوانين ؛ فيكشف لهم عن حكمتهم ما وقع، وعن تدبير الله فيه ليحقق من ورائه الخير لهم، وللدعوة التي يجاهدون في سبيلها، وليعدهم بهذه التجربة لما بعدها، وليمحص قلوبهم، ويميز صفوفهم، من المنافقين الذين كشفتهم الأحداث، فالأمر في النهاية مرجعه إلى قدر الله وتدبيره.. وبذلك تتكامل الحقيقة في تصورهم ومشاعرهم من وراء هذا البيان القرآني الدقيق العميق: [أو لَمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا ؟ قل: هو من عند أنفسكم، إن الله على كل شيء قدير. وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله، وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا، وقيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ! هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان، يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، والله أعلم بما يكتمون. الذين قالوا لإخوانم - وقعدوا -: لو أطاعونا ما قتلوا. قل: فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين)...
لقد كتب الله على نفسه النصر لأوليائه، حملة رايته، وأصحاب عقيدته.. ولكنه علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم وسلوكهم، وباستكمال العدة التي في طاقتهم، ويبذل الجهد الذي في وسعهم.. فهذه سنة الله، وسنة الله لاتحابي أحداً.. فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لايقتضي خرق السنن لهم وإبطال الناموس، فإنَّمَا هم مسلمون لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن، ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس.. ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً كذلك، ولا يضيع هباء، فإن استسلامهم لله، وحملهم لرايته، وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه.. من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية – بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح – وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب، تزيد في نقاء العقيدة، وتمحيص القلوب، وتطهير الصفوف، وتؤهل للنصر الموعود، وتنتهي بالخير والبركة.. ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته وعنايته، بل تمدهم بزاد الطريق، مهما يمسهم من البرح والألم والضيق في أثناء الطريق].
فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار، يرتبط به سعي الناس للكسب، وعلم السنين والحساب. ويرتبط به كسب الإنسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر، وترتبط به عواقب الهدى والضلال، وفردية التبعة فلاتزر وازرة وزر أخرى، ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولاً، وترتبط به سنة الله في إهلاك القرى بعد أن يفسق فيها مترفوها، وترتبط به مصائر الذين يطلبون العاجلة والذين يطلبون الآخرة وعطاء الله لهؤلاء وهؤلاء في الدنيا والآخرة.. كلها تمضي وفق ناموس ثابت وسنن لاتتبدل، ونظام لايتحول فليس شيء من هذا كله جزافاً.
تعريف السنة:
هي الطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للبشر بناء على سلوكهم وأفعالهم وموقفهم من شرع الله وأنبائه وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة.
قال ابن تيمية: (السنة هي العادة التي تتضمن أن يُفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول، ولهذا أمر الله تعالى بالاعتبار).
وقال: (... إن الله أخبر أن سنته لن تبدل ولن تتحول وسنته عادته التي يسوي فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي).
وابن كثير في تفسير آية الأنفال: {وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} قال: (أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة) 3/316.
وقال في تفسير آية الإسراء: (سنة من قد أرسلنا من رسلنا، أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا يرسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب...) 4/332.
قال سيد 3/1201: (... شهد السنة الدقيقة التي تتوالى مقدماتها ونتائجها في نظام محكم ولكنه فطري ميسر، وشهد المشيئة القادرة من وراء السنة الجارية تدفع بالسنة لتعمل وهي من ورائها محيطة طليقة ومشهد الناس والأحداث وهم في نطاق النواميس وهي في هذا النطاق أيضاً).
وقال في 3/1336: ({وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}..
إن السياق القرآني هنا لا يروي حادثة، إنما يكشف عن سنة، ولا يعرض سيرة قوم إنما يعلن عن خطوات قدر.. ومن ثَمَّ يتكشف أن هناك ناموساً تجري عليه الأمور ؛ وتتم وفقه الأحداث ؛ ويتحرك به تاريخ ((الإنسان)) في هذه الأرض، وأن الرسالة ذاتها – على عظم قدرها – هي وسيلة من وسيلة من وسائل تحقيق الناموس – وهو أكبر من الرسالة وأشمل – وأن الأمور لا تمضي جزافاً ؛ وأن الإنسان لا يقوم وحده في هذه الأرض – كما يزعم الملحدون بالله في هذا الزمان ! – وأن كل ما يقع في هذا الكون إنما يقع عن تدبير، ويصدر عن حكمة، ويتجه إلى غاية، وأن هنالك في النهاية سنة ماضية وفق المشيئة الطليقة ؛ التي وضعت السنة، وارتضت الناموس.
ووفقاً لسنة الله الجارية، وفق مشيئته الطليقة كان من أمر تلك القرى ما كان، مما حكاه السياق، ويكون من أمر غيرها ما يكون!).
السنن الإلهية:
مرتبطة بالمشيئة الإلهية وهي مشيئة كونية لابد من وقوعها.
وهي مرتبطة بالإرادة الكونية.
وهي التي يجب معها وجود الفعل، وهي الموجبة للفعل المحققة له.
وهي متعلقة بكلمات الله الخلقية الكونية.
[3] – سمات السنن الإلهية
الوجه الأول:
السنن الذي تخضع لهما جميع الكائنات الحية في وجودها المادي وجميع الحوادث المادية ويخضع له كيان الإنسان المادي، نمو وحركة أعضائه وحياته وموته، وهذا الوجه لا يختلف في وجوده أهل العلم، ولا في خضوع الكائنات المادية له.
ووجوده ودقته واستمرارية نظامه من أكبر الأدلة على وجود الله وربوبيته.
من سماته الثبات والاستمرار واطراد أحكامه على الحوادث والظواهر التي تحكمها هذه السنة.
فالأرض تحيا بالمطر ويخرج به منها النبات والشمس من المشرق إلى المغرب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} الآيات {وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}.
ومعرفة هذه السنة مباحة للجميع من مسلم وكافر وأكثرهما جدية ونشاطاً ونظراً وبحثاً وسعياً أكثرهما وقوفاً عليه وإحاطة بجوانبه وجزئياته.
الوجه الثاني من السنن الإلهية هو الذي يتعلق بخضوع البشر أفراداً وأُمَماً وجماعات له، أي أن تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة وما يكونون عليه من أحوال وما يترتب على ذلك من نتائج كالرفاهية أو الضيق في العيش والسعادة والشقاء والعزل ؛ والذل والرقي والتأخر والقوة والضعف، ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية في الدنيا، ثُمَّ ما يصيبهم في الآخرة من عذاب أو نعيم، كل ذلك يجري وفق أحكام هذا الوجه من السنن الإلهية.
تؤكد أدلة الوحي المعصوم وتبين بجلاء ووضوح وجود [سنة عامة] لله تعالى تخضع لحكمها تصرفات البشر وأفعالهم وسلوكهم، ومواقفهم من شرع الله، وما قد يترتب على ذلك من نتائج معينة في الدنيا والآخرة.
السنة
القانون والطريقة
لاتبديل لسنن الله:
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
{وَإِن يَعُوْدُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}.
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}.
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}.
من سمات سنة الكونية:
[الثبات]: فهي ثانية لا تتغير ولا تتبدل: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}، {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
[الاطراد]: فهي مطردة لا نتخلف، ويدل على اطرادها أن الله تعالى قص علينا قصص الأمم السابقة وما حلّ بها لنتعظ ونعتبر ولانفعل فعلهم لئلا يصيبنا ما أصابهم، ولولا اطرادها لما أمكن الاتعاظ والاعتبار بها، قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ. هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}، وقال عن بني النظير: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}.
[العموم]: فهي عامة يسري حكمها على الجميع دون محاباة ولا تمييز {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}.
وقد بين سبحانه وتعالى أن السنة لا تتبدل ولا تتحول في غير موضع، و (السنة) هي العادة التي تتضمن أن يفعل في الثاني مثل ما فعل بنظيره الأول ؛ ولهذا أمر سبحانه وتعالى بالاعتبار، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}.
والاعتبار أن يقرن الشيء بمثله فيعلم أن حكمه مثل حكمه، قال: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}، وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أفاد أن من عمل مثل أعمالهم جوزي مثل جزائهم ؛ ليحذر أن يعمل مثل أعمال الكفار ؛ وليرغب في أن يعمل مثل أعمال المؤمنين اتباع الأنبياء.
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
وقال تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِن الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً}.
وقال تعالى: {لَئِن لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً}.
والمقصود أن الله أخبر أن سنته لن تبدل ولن تتحول، وسنته عادته التي يسوى فيها بين الشيء وبين نظيره الماضي، وهذا يقتضي أنه سبحانه يحكم في الأمور المتماثلة بأحكام متماثلة ؛ ولهذا قال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ}؟ وقال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي أشباههم ونظراءهم، وقال: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} قرن النظير بنظيره، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ}، وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
[4] - أهمية معرفة السنن الإلهية وسبل ذلك
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} من الضروري جداً للمسلمين عموماً، والدعاة والساسة منهم خصوصاً أن يتفهموا سنن الله في الاجتماع البشري ليعرفوا أسباب النجاح والهلكة فيأخذوا بالأولى ويتخلصوا من الثانية.
السبل لمعرفة السنن:
1 - الرجوع إلى كتاب الله العظيم وسنة نبيه الكريم، ففيهما القول الفصل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}.
قال الألوسي في تفسير 14/214 في تفسير هذه الآية: (والمراد من كل شيء ما يتعلق بالناس أي بياناً بليغاً لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملة ذلك أحوال الأمم مع أنبيائهم).
2 - معرفة قصص الأمم السالفة وماذا حدث منها مع أنبيائها وماذا حدث لهم من فوز أو عذاب ولذلك أتى القرآن العظيم بقصص السالفين.
قال شيخ الإسلام في الفتاوى: (وإنَّما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم، لتكون عبرة لنا، فنشبه حالنا بحالهم، ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين، ثُمَّ قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة، كنحو ما يذكر في الحروب من السيرة المكذوبة).
3 - النظر في التاريخ ودراسته في حصة متأنية واستخراج العبر، وقياس النظير بنظيرة.
قال د/ يوسف القرضاوي في الصحوة الإسلاميَّة بين الجحود والتطرف ص 100 - 104: (ومن غرائب ما قرأت وسمعت، موقف قيادة الجماعة التي سموها ((جماعة التكفير والهجرة)) من التاريخ كما شهد بذلك شاهد من أهلها، فقد سجل الأستاذ عبدالرحمن أبو الخير في ذكرياته عن ((جماعة المسلمين)) - وهذا اسمها عند أصحابها وأتباعها - هذا الموقف باعتباره أحد أوجه الخلاف بينه وبين الشيخ شكري مؤسس الجماعة ؛ إذ كان الوجه الرابع منها هو ((عدم الاعتداد بالتاريخ الإسلامي، فقد كان شكري يعتبره وقائع غير ثابتة الصحة، وإن التاريخ عنده هو أحسن القصص في القرآن الكريم، ولذا يحرم دراسة عصور الخلافة الإسلاميَّة، أو الاهتمام بها)) ص 35.
فانظر يا رعاك الله إلى هذه النظرة السطحية الضيقة الأفق، التي تجعل دراسة تاريخ المسلمين حراماً دينياً ! مع أن التاريخ هو مخزن العبر، ومعلم الأمم، فكما أن الفرد يتعلم من أحداث أمسه لغده، فإن الأمة أيضاً تأخذ من ماضيها لحاضرها، وتستفيد من صوابها وخطئها معاً، ومن انتصاراتها وهزائمها جميعاً.
والتاريخ إنَّما هو في الواقع ذاكرة الأمة الحافظة الواعية، والأمة التي تهمل تاريخها أشبه بالفرد يفقد ذاكرته، ويعيش ليومه وحده، بلا ماض يعرفه ويبني عليه، إنه إنسان مبتلى مقطوع الجذور، يرثى لحاله، وهو أحوج ما يكون إلى العلاج، فكيف ترضى جماعة أن تجعل هذا الوضع المرضيّ الشاذ أساساً لحياتها؟.
والتاريخ هو المرآة التي تتجلى فيها سنن الله تعالى في الكون عامة، وفي الاجتماع البشري خاصة، ولهذا عني القرآن عناية بالغة بلفت الأنظار، وتنبيه العقول إلى هذه السنن للانتفاع بها، وتلقي الدروس العملية منها.
اقرأ معي هذه الآيات الكريمة: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، وهذه السنن تتميز بالثبات، فلا تتبدل ولا تتحول، كما قال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُورًا. اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَل يَنْظُرُونَ إلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
كما تتميز هذه السنن بالعموم، فهي تنطبق على الناس جميعاً، بغض النظر عن أديانهم، وجنسياتهم، فأي مجتمع أخطأ أو انحرف لقي جزاء خطئه أو انحرافه، ولو كان هو مجتمع الصحابة أو مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسبنا في هذا ما دفعه الصحابة ثمناً لخطئهم في غزوة أُحُد، وهو ما سجله القرآن عليهم بوضوح في قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، وبين في آية أخرى هذا الذي عند أنفسهم بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ}.
وأمَّا القول بأن التاريخ وقائع غير ثابتة الصحة، فقد يصدق هذا على بعض الوقائع الجزئية، أمَّا الاتجاهات العامة، والأحداث الأساسية معروفة وثابتة بيقين بأكثر من دليل، على أن تلك الوقائع التي يحيط بها بعض الريب لا يصعب على أهل الذكر تمحيصها، وتمييز الخطأ من الصواب فيها، والثابت من المختلق أو المبالغ فيه منها.
على أننا لا نعني بالتاريخ تاريخ المسلمين فحسب، بل تاريخ البشرية حيثما عرف، وتاريخ الأمم في أي أرض كانت، وفي أي عصر كانت، وعلى أي ملة كانت، مسلمة أو غير مسلمة، فالعبرة لا تؤخذ من سير المؤمنين وحدهم، بل تؤخذ من المؤمن والكافر، ومن البر والفاجر ؛ لأن الفريقين تجري عليهما سنن الله بالتساوي، ولا تحابي هذه السنن أحداً شأنها شأن السنن والقوانين الطبيعية، فقوانين الحرارة والبرودة، والغليان والانصهار، والضغط والانفجار، قوانين كونية عامة، تتعامل مع الموحدين تعاملها مع الوثنيين.
بل نحن لا نفهم القرآن كما ينبغي، ولا نعرف فضل الإسلام تماماً، ما لم نعرف ماذا كانت عليه الجاهليَّة من ضلال، أشار إليه القرآن بمثل قوله: {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}، وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا}.
وهذا سر ما ورد عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حين قال: إنَّما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهليَّة.
وإذا كان الاعتراف بالحق فضيلة، فإني أعترف أن كثيراً من المشتغلين بأمر الإسلام والدعوة إليه، لم يقرأوا التاريخ، وإن لم يحرّموا دراسته على أنفسهم وأتباعهم كما حرمها بعض الغلاة، أعني: لم يقرأوه ببصيرة نفاذة، ووعي حاضر، فليس المهم قراءة الأحداث مسرودة متتابعة، بل المهم النفاذ إلى لبها ومعرفة العبرة منها، والوصول إلى سنن الله فيها.
كما أنه ليس المهم لمن يسير في الأرض وينظر في آثار الأمم أن يراها بعين رأسه، ويسمع أخبارها بأذنه، إنَّما المهم هنا هو عين القلب وأذنه، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
إن أحداث التاريخ تتكرر وتتشابه إلى حد كبير ؛ لأن وراءها سنناً ثابتة تحركها وتكيفها، ولهذا قال الغربيون: (التاريخ يعيد نفسه)، وعبر العرب عن هذا المعنى بقولهم: (ما أشبه الليلة بالبارحة !).
والقرآن الكريم أشار إلى تشابه المواقف والأقوال والأعمال، نتيجة لتشابه الأفكار والتصورات التي تصدر عنها، وفي هذا جاء قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
وقال تعالى عن مشركي قريش: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِّنَ رَسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.
أي: إن هذا الاشتراك والتشابه في الموقف من الرسل، بين الأولين والآخرين، والمسارعة إلى الاتهام بالسحر أو الجنون، لم ينشأ نتيجة تواص بين هؤلاء وأولئك، بل السبب أنهم جميعاً طغاة ظالمون، فلما تشابهوا في السبب، وهو الطغيان، تشابهوا في النتيجة.
ومن عرف التاريخ وسنن الله فيه، وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، تعلّم من أخطاء الآخرين، وكان له بهم عظة، فالسعيد من وعظ بغيره، واقتبس مِمَّا عندهم من خير، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها.
المصدر: الألوكة
[/align]