الصدق مع الله

عبدالرحمن القحطاني
1444/05/25 - 2022/12/19 11:25AM
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾
﴿يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنها زَوجَها وَبَثَّ مِنهُما رِجالًا كَثيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي تَساءَلونَ بِهِ وَالأَرحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيكُم رَقيبًا﴾
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقولوا قَولًا سَديدًا ۝ يُصلِح لَكُم أَعمالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوزًا عَظيمًا﴾
أما بعد
:فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
 
أيها المؤمنون:
 
جاءَ رجلٌ مِنَ الأعرابِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فآمَنَ بِهِ واتَّبعَهُ وقالَ: أُهاجرُ معَكَ فأوصى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بعضَ أصحابِهِ فلمَّا كانَت غزوةٌ ، غنِمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فيها أشياءَ ، فقَسمَ وقسمَ لَهُ فأعطَى أصحابَهُ ما قَسَمَ لَهُ وَكانَ يرعى ظَهْرَهُم . فلمَّا جاءَ دفَعوا إليهِ فقالَ: ما هذا ؟ قالوا: قَسْمٌ قَسمَهُ لَكَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ . فأخذَهُ فجاءَ بِهِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: يا مُحمَّدُ ، ما هذا ؟ قالَ: قَسمتُهُ لَكَ . قالَ: ما على هذا اتَّبعتُكَ ، ولَكِنِّي اتَّبعتُكَ على أن أُرمَى هاهُنا وأشارَ إلى حلقِهِ بسَهْمٍ فأموتَ وأدخلَ الجنَّةَ . فقالَ: إن تَصدُقِ اللَّهَ يَصدُقْكَ فلبثوا قليلًا ، ثمَّ نَهَضوا إلى العدوِّ ، فأتى بِهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُحمَلُ ، قد أصابَهُ سَهْمٌ حيثُ أشارَ . فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أَهوَ هوَ ؟ قالوا: نعَم قالَ: صدقَ اللَّهَ فصدقَهُ وَكَفَّنَهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في جُبَّةٍ ، ثمَّ قدَّمَهُ فصلَّى عليهِ . فَكانَ مِمَّا ظَهَرَ مِن صلاتِهِ عليهِ: اللَّهمَّ إنَّ هذا عَبدُكَ ، خرجَ مُهاجرًا في سبيلِكَ ، فقُتلَ شَهيدًا ، أَنا شَهيدٌ علَيهِ
 
إنه الصدق مع الله
الطريق الأقوم الذي من لم يسر فيه فهو من المنقطعين الهالكين ، وبه تميز من أهلِ النفاق أهلُ الإيمان ، وسكان الجنان من أهل النيران ، وهو السيف الذي ما وضع على زيفٍ إلا قطعه ، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه ، من صال به لم تردَّ صولتُه ، ومن نطق به علت على الخصوم كلمتُه . فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال ، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال،
 
هو قرين الإيمان ورفيقه ورديفه كما أن الكذب قرين النفاق ورفيقه ورديفه، يقول الله تبارك وتعالى في مطلع سورة العنكبوت ﴿الم ۝ أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُترَكوا أَن يَقولوا آمَنّا وَهُم لا يُفتَنونَ ۝ وَلَقَد فَتَنَّا الَّذينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقوا وَلَيَعلَمَنَّ الكاذِبينَ﴾  ثم قال في سياق هذه الآيات ﴿وَلَيَعلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا وَلَيَعلَمَنَّ المُنافِقينَ﴾
 
وبين تعالى في سورة محمد أن المنافقين لو تعاملوا معه بالصدق لكان خيراً لهم من التحايل عليه وهو الذي يعلم ماتكن صدورهم ﴿فَإِذا عَزَمَ الأَمرُ فَلَو صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيرًا لَهُم﴾
 
ولذلك فإنّ أكبر واعظٍ للعبد وأعظمَ زاجر: أن يعلم أن ربَّه مطلعٌ عليه، وأنه جلّ وعلا يعلم السِّر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور،
 
عباد الله: الصّدق مع الله -تبارك وتعالى- ليست كلمةً يدَّعيها المرء بلسانه، أو أمراً يدّعي لنفسه التزين والتّحلي به، ولكنه حقيقةٌ تقوم بقلب المؤمن تظهر على أعماله وأقواله، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقته الأعمال".
 
والصدق مع الله أحد الأسرار التي بها علا قدر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فكانت منهم الأعاجيب ، فهذا سعد بن خيثمة الأنصاري رضي الله عنه لما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى غزوة بدر قال له أبوه خيثمة : إنه لابد لأحدنا أن يقيم فآثرني بالخروج وأقم مع نسائك فأبى سعد وقال : لو كان غير الجنة آثرتك به إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا ، فاستهما فخرج سهم سعد فخرج فقتل ببدر ،
وهذا سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه لما كان يوم اليمامة وانكشف صف المسلمين حفر سالم لنفسه حفرة وتحنط بحنوطه وأمسك براية المهاجرين ، فقالوا له:يا سالم إنا نخشى أن نؤتى من قبلك فقال : بئس حامل القرآن إذا أنا ، فأخذ اللواء بيمينه فقطعت فرفعه بشماله فقطعت فاعتنق اللواء وجعل يقرأ ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) إلى أن قتل ، وهكذا يموت سيد القراء في الميدان ومن أولى بهذا منه وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله )
وفي صحيح السيرة: أن عمير بن أبي وقاص رُدَّ يوم بدر لصغره، فبكى؛ فأجازه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال سعد أخوه: "رأيت أخي عميراً قبل أن يعرضنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر يتوارى حتى لا يراه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: مالك يا أخي؟ فقال: إني أخاف أن يراني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، فصدق وصدقه الله وأعلى درجاته بالشهادة في سبيله".
وفي صحيح السيرة -أيضاً-: "أن أنس بن النضر -رضي الله عنه- كان يأسف أسفاً شديداً لعدم شهوده بدرا، فقال: والله لَئِنْ أراني الله مشهداً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرينَّ الله ما أصنع؛ وصدق في وعده مع الله. فلما كان يوم أُحُد مرَّ على قوم أذهلتهم شائعة موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وألقوا بسلاحهم، فقال: "ما يجلسكم؟ قالوا: قُتِلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ياقوم إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قُتل؛ فإن رب محمد حيٌّ لا يموت، فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله"، وقال: "اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء".
ثم لقي سعد بن معاذ فقال: "ياسعد، إني لَأجِد ريح الجنة دون أُحُد"، ثم ألقى بنفسه في صف المشركين وما زال يقاتل حتى استشهد؛ فوجد فيه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، فلم تعرفه إلا أخته ببنانه".
 
﴿مِنَ المُؤمِنينَ رِجالٌ صَدَقوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَما بَدَّلوا تَبديلًا﴾ [الأحزاب: ٢٣]
فما أحوجنا -معاشر المسلمين- إلى أن نصدق مع الله قولاً وفعلاً، ظاهراً وباطناً، قصداً وإرادة، وأن نسيِّر حياتنا على هذا المنهج المرتضى؛ لنبوء بالمغفرة والرضوان في الآخرة، وبالسعادة والحياة الطيبة في هذه الدار.
 
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
 
—————
 
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً مزيداً إلى يوم الدين.
 
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ﴾ [التوبة: ١١٩]
 
 
عباد الله:
 
قال النبي ﷺ :"من سأل الله الشهادة بصدق، بَلَّغه الله منازل الشهداء،وإن مات على فراشه".رواه مسلم
 
فلا يُظن أن الصدق مع الله لا يكون إلا في ميدان القتال، بل هو ملازم للمؤمن في كل حالاته وأوقاته، يغذيه الإيمان بالله وتثبته محبة الله
 
قال يوسف بن أسباط: لأن أبيت ليلة أعاملُ الله بالصدق أحب إلى من أن أضرب بسيفي في سبيل الله،
 
وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله،
 
ومن كان منا عباد الله مشتغلاً بإصلاح قلبه ومراجعة نيته، فإنه سيرى الخير ينساق إليه في كل شؤون حياته وذلك لأن الله تعالى يرى الصدق منه فيصلح له دنياه وأخراه
﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِمَن في أَيديكُم مِنَ الأَسرى إِن يَعلَمِ اللَّهُ في قُلوبِكُم خَيرًا يُؤتِكُم خَيرًا مِمّا أُخِذَ مِنكُم وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [الأنفال: ٧٠]
 
 
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وأنعم على صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين، أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين ، وعن التابعين، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر عبادك الموحِّدين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل تدميره في تدبيره.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لهداك واجعل عمله في رضاك وارزُقه وولي عهده البطانةَ الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم أره الحق حقاً وارزقه اتباعه، وأره الباطل باطلاً وارزقه اجتنابه.
اللهم ادفَع عنَّا الغَلاء والوباء، والربا والزنا والزلازل والمِحَن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصَّة، وعن سائر بلاد المسلمين عامَّة يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله:
أنَّ الله يأمُر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغْي، يعظُكم لعلَّكم تذكَّرون.
فاذكُروا الله العظيم الجليل يذكُركم، واشكُروه على نِعَمِه يزدْكم، ولَذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنَعون.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المرفقات

1671438282_الصدق مع الله.pdf

1671438316_الصدق مع الله.docx

المشاهدات 429 | التعليقات 0