الصدقة فضائل وسبل..   موافقة للتعميم 

عبد الله بن علي الطريف
1445/09/05 - 2024/03/15 01:08AM

الصدقة فضائل وسبل..   موافقة للتعميم  1445/9/5هـ

أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.. واعلموا أنَّ جودَ رسولِ الله ﷺ يزداد في رمضان، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» رواه البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وفي رواية «وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ القُرْآنَ» ومعنى قوله: «أَجْوَدَ النَّاس» أي: أكثر الناس جودا، والجودُ الكرم وهو من الصفات المحمودة، ومعنى «أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» الْمُرَادُ كَالرِّيحِ فِي إِسْرَاعِهَا وَعُمُومِهَا.. قال شيخنا محمد العثيمين: «أَجْوَدَ النَّاسِ» بماله وبدنه وعلمه ودعوته ونصيحته وكلِ ما ينفع الخلق، وكان أجود ما يكون في رمضان لأن رمضان شهر الجود يجود الله فيه على العباد، والعباد الموفقون يجودون على إخوانهم، والله تعالى جواد يحب الجود.. قال الزين بن المنير: وجه التشبيه بين أجوديته ﷺ بالخير وبين أجودية الريح المرسلة أن المراد بالريح ريح الرحمة التي يرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العام الذي يكون سببًا لإصابة الأرض الميتة وغير الميتة، أي فيعم خيرُه وبرُه من هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثرَ مما يعم الغيثُ الناشئة عن الريح المرسلة ﷺ.. وقال النووي رحمه الله: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ فَوَائِدُ مِنْهَا بَيَانُ عِظَمِ جُودِهِ ﷺ، وَمِنْهَا اسْتِحْبَابُ إِكْثَارِ الْجُودِ فِي رَمَضَانَ..

رمضانُ أيها الإخوة: فرصةٌ لتربية النفوس، على الجود اقتداءً برسولنا ﷺ، فالصوم حرمانٌ مشروع... وتأديبٌ بالجوع... فلكلِ فريضةٍ حكمة، ومن حكمِ الصيام ما ظاهره العذاب وباطنه الرحمة، لأن حكمته تستثيرُ الشفقة، وتحضُ على الصدقة، حتى إذا جاعَ من أَلفَ الشبع، وعرفَ المترفُ أسبابَ الـمُتعِ، وعَلِمَ الحرمانَ كيف يقع، وألمَ الجوعِ إذا لذع.! تصدقَ وبذل وأعطى بلا تردد وكلل..

ولقد حث الله تعالى على الصدقة في كتابه وأمر بها نبيه ﷺ في كل حينٍ وآن، وجعل الإنفاق ابتغاء مرضاة الله من أعظم الأعمال، وخصه برمضان بمزيد مزية لشرف الزمان، وقد ضرب الله تعالى لنا مثلاً عظيماً رائعاً للصدقة فقال: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة:265]. والمعنى، أن الله تعالى ضرب مثلاً للمنفق ابتغاء مرضاة الله، بأن نفقته مضاعفة وعملَه لا يبور أبداً، بل يتقبله الله ويكثره وينميه، ويضاعفه سبحانه إلى سبعمائة ضعف، فقد قال عز من قائل: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261]. قال سعيد بن جبير رحمه الله: في سبيل الله يعني في طاعة الله. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» رواه البخاري ولمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. أي إن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي ‌أحدكم ‌فلوه أي مهره: وهو الحصان الصغير حتى تكون مثل الجبل، وهي تمرة أو ما يعادلها.. فما أعظمه من أجر وما أجزله من عطاء.. وحث ﷺ على الصدقة وإن كانت نصف تمرة مع قلتها، وأنها قد تكون سببًا واقيًا من النار فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اتَّقُوا النَّارَ ‌وَلَوْ ‌بِشِقِّ ‌تَمْرَةٍ.» رواه البخاري عن عَدِيِّ بْنَ حَاتِمٍ رضي الله عنه. بل احتسب اللهُ عز وجل أقل القليل فقال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ).. [الزلزلة:7/8] وهو سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين.. والقليل إلى القليل يصبح كثيراً.. واستصحبوا رعاكم الله النية الصالحة فيما انفقتم حتى يبارك الله فيه، والقبول لله الواحد الأحد.. الذي يجزي على القليل وينميه.. وربما سبق القليل الكثير، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» قَالُوا: وَكَيْفَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ.؟ قَالَ: «كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ فَتَصَدَّقَ بِأَجْوَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا» رواه أحمد والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وهو حديث حسن، وفي رواية للنسائي: «وَرَجُلٌ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَأَخَذَ مِنْ عُرْضِ مَالِهِ مِائَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ».

وَاحرصوا على الظفر بدعوة الـمَلَكِ الداعي للمنفق بالخلف، فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا». رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قال العلماء هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك؛ بحيث لا يذم ولا يسمى سرفا، والإمساك المذموم هو الإمساك عن هذا.. وسيحرز المنفق الوعد بالبركة قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا نَقَصَتْ ‌صَدَقَةٌ ‌مِنْ ‌مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ.» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. بارك الله لي ولكم ....

الخطبة الثانية:

 أيها الأخوة: يقول الله تعالى حاثاً على التقوى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]..  وتلمسوا وفقكم الله لصدقاتكم أشد المسلمين حاجة وضرورة، وأظهرهم تعففاً، فقد حث الله على تلمس المتعففين فقال: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة:273] والعفة هي: الكف عن الحرام وعن سؤال الناس.. وحث رسول الله ﷺ على التعفف فقال: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ». رواه البخاري عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَسَألَ نَاسٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» رواه البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

أيها الإخوة: وفطروا الصائمين وقد وعد رَسُولُ اللهِ ﷺ من فطر صائمًا بمثل أجره فَقَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ، أَوْ فَطَّرَ صَائِمًا ‌فَلَهُ ‌مِثْلُ ‌أَجْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا» رواه البيهقي عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ وصححه الألباني. واحذروا المبالغة في موائد الإفطار في المساجد، واقتصروا على كفاية الحاضرين، واعلموا أن سبل الخير كثيرة ومتنوعة، وأن بعض الأسر المتعففة بحاجة للصدقة فبادروهم بها، ومن سبل الصدقة عليهم السلال الرمضانية التي تتبناها الجمعيات الخيرية، أو يتولاها المتصدق نفسه، وابدأوا بمن تعرفون من المحتاجين من أقاربكم وجيرانكم ومعارفكم، واسعوا بسداد ديون الغارمين..

وهنا سؤال: هل الأفضل الإسرار بالصدقة أم إظهارها.؟ جوابه قولَ الله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة:271] قال الشيخ السعدي ما ملخصه: الأفضل في الصدقات أن تُظهر إذا كانت المصلحة في إظهارها؛ إظهاراً لشعائر الدين وحصول الاقتداء ونحوه، بدليل مفهوم الآية، أما الصدقة على الفقير المعين فالأفضل فيها صدقة السر لما فيها من جبرٍ لخاطره. أهـ

والتبرع عن طريق المنصات الرسمية والجهات الخيرية يحقق إخفاء الصدقة، منها منصة إحسان، ومن أبواب الصدقة فيها بناء المساجد وطباعة المصحف الشريف، ومنصة جود للإسكان، ومنصة وقفي، ومنصة فرجت التي تساهم في إطلاق صراح الموقوفين والمسجونين، ممن تراكمت عليهم الديون وعجزوا عن سدادها فسجنوا.. ومنصة زكاتي وكل هذه المنصات ميسرة وتحت إشراف الدولة..

 

 

المشاهدات 3427 | التعليقات 0