الصبر عند الشدائد

وليد الشهري
1443/05/25 - 2021/12/29 17:40PM

الصبر عند الشدائد

 

     الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين .

     ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )

     ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً )

     ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويفغر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )

أمــا بعــــــد ،،

      فقصة الابتلاء بدأت منذ أن أخرج آدم من الجنة، ومنذ أن نزلت لا إله إلا الله في الأرض، الابتلاء يميّز الصادقين من الكاذبين، والمؤمنين من المنافقين، والصابرين من المتسخطين ( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) [آل عمران:141] فلا بُدّ للمؤمن من ابتلاء، ولا بُدّ له من تمحيص ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) [العنكبوت:2-3] هكذا قدر الله الابتلاء، وهكذا قضى الله مصائب الدنيا .

طبعت على كدر وأنت تريدهـا     صفوا من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيــام ضد طباعــــها     متطلب في الماء جذوة نـار

     هكذا الدنيا ...يموت لك قريب، يمرض ابنك، تصاب في بدنك، تخسر في تجارة، يعاديك قريبك، تجد في عملك ما يسؤوك، تجد جفوة من أقاربك، سئل النبي – صلى الله عليه وسلم – أي الناس أشد بلاء؟ قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان دينه صُلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ، [الترمذي وابن حبان، وحسنه ابن حجر وصححه أحمد شاكر] فلك أسوة في الأنبياء، ولك سنة متبعة في الصبر على البلاء .

     إبراهيم – عليه السلام – يلقى في النار، ويبتلى بذبح ابنه ويسلم لأمر الله ويفديه ربه بذِبح عظيم، يونس – عليه السلام - يُبتلى ببطن الحوت فتجتمع عليه ثلاث ظلمات : ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، نبي الله يوسف - عليه السلام - تجتمع عليه عدة محن وبلايا، محنة إخوته، ومحنة فراقه لأبيه ووطنه، ومحنة الجُبّ، ومحنة الرق، ومحنة امرأة العزيز، ومحنة النسوة، ومحنة السجن، ثم الابتلاء بالملك بعد هذا التشريد، وبعض الأنبياء قُتِلوا لأجل دعوتهم، رسولنا – عليه الصلاة والسلام – يقال عنه ساحر وكاهن ومجنون وكذاب، يُوضع عليه سلا الجزور وهو ساجد، يُدمى كعبيه في الطائف من رمي الحجارة عليه، يُحاصر في الشعب هو وقومه حتى أكلوا أوراق الشجر، يُطرد من مكة، يتعرض لمحاولات اغتيال، يُشج رأسه، وتدخل حلقتين من المغفر في وجنته، وتُكسر رباعيته، يُقتل عمه حمزة، يُقتل أصحابه، تجتمع الأحزاب لتستأصله هو ومن آمن معه، تغدره اليهود، يبتلى بالقذف في عرضه، يُشتم ويُسب ويتهم بالظلم في قسمة الغنائم، يموت أبناؤه الذكور كلهم في حياته، وثلاث من بناته، تموت زوجته خديجة وعمّه أبو طالب في عام واحد، يربط الحجر على بطنه من الجوع، فهو إمام الصابرين، وقدوة الناس أجمعين - صلى الله عليه وسلم .

يقول ابن مسعود – رضي الله عنه - : أول من أظهر إسلامه سبعة : رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر – رضي لله عنه – وعمار وأمه سمية وبلال وصهيب والمقداد – رضي الله عنهم - فأما النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبو بكر فمنعهما الله بقومهما، وأما البقية فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس فما منهم أحد إلا وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فضربوه وحبسوه وعذبوه كل ذلك وهو يقول : أحدٌ أحدٌ، فكانت العاقبة شرف في الدنيا وجنة في الآخرة، سئل الشافعي – رحمه الله – أيهما أفضل يمكّن أم يبتلى ؟ فقال : إنه لا يمكن حتى يُبتلى !

     قال الإمام أحمد : ذَكَرَ اللهُ تعالى الصبرَ في تسعين موضعاً من كتابه، قال سليمان بن القاسم : كلُّ عمل يعرف ثوابه إلا الصبر قال الله  : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) [الزمر:10] قال : كالماء المنهمر, ويهنّأُ الصابر بمعية الله له :  ( إن الله مع الصابرين ) [البقرة:153] وبمحبة الله له : ( والله يحب الصابرين) [آل عمران:146] والصبر طريقه إلى الجنة : ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) [الرعد:24]، يقول – عليه الصلاة والسلام - : ( ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) [البخاري] .

     ثم إن الصبر إذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة، واستحالت البلية عطية، وصار المكروه محبوباً، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله عبودية في الضراء كما له عبودية في السراء، وله عبودية فيما يكره كما له عبودية فيما يحب، وفي الحديث : ( من يرد الله به خيراً يصب منه ) [البخاري] ويقول تعالى في الحديث القدسي : ( ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة ) [البخاري]، وقال الله - جل وعلا –  في الحديث القدسي : ( إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة ) يريد عينيه [البخاري]، وقال بعض السلف : لولا مصائب الدنيا لوَرَدْنا القيامة مفاليس، ويكفي أن الجنة جزاء الصابرين، وأي جزاء أعظم من ذلك؟ وهل لك مقصد غير الجنة؟ وهل لك مطلب غير الجنة؟ وهل لك أمنية غير الجنة؟

     في الحديث الحسن : ( ليودُّنّ أهل العافية يوم القيامة أن جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب أهل البلاء ) [السلسلة الصحيحية] .

والصبر مثل اسمه مرٌ مذاقته         لكن عواقبه أحلى من العسل

     يقول المولى – جل وعلا - : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) [الملك:2]، الله تعالى يبتلي العبد ليسمع صوته، يبتلي عبده ليسمع شكواه ودعاءه وتضرعه، ( ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ) [الأنعام:42]، وقد ذم سبحانه من لم يتضرع إليه ويستكن إليه وقت البلاء فقال : ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) [المؤمنون:76] قيل لبعضهم كيف تشتكي إليه ما ليس يخفى عليه؟ فقال : ربي يرضى ذلّ العبد إليه .. نعم ... ارفع شكواك إلى الله وبث همومك إليه، قال الله تعالى عن يعقوب – عليه السلام - : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) [يوسف:86] .

وإذا عَــرَتك بليةٌ فاصبر لها          صبر الكـــريم فـإنه بـك أعـــلمُ

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما          تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يرحمُ

     تذكر ما أسداه الله إليك من النعم لا يقارن بما عندك من البلاء، نعمة الإسلام أولها وأعظمها، سمعُك وبصرُك، جوارحك وفؤادك، مالك وأبناؤك، وظيفتك ومركبك، صحة في أبدان، أمن في أوطان, وعدّد وتذكّر فلن تسطيع أن تحصيَ وتَحْصُر.

يـا أيـها الظـالم في فعـله        والظلم مـردودٌ عـلى من ظـلم

إلى متى أنت وحتى متى        تشكو المصيبات وتنسى النعم

     عروة بن الزبير تقطع رجله من نصف الساق بعد أن شئِفت، وأصيب بابنه محمد في ذلك السفر، فلما كان بوادي القرى قال : ( اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة فأخذت طرفاً وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت فقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت ) .

     يقول النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته : قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون : نعم، فيقول قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون : نعم، فيقول : ماذا قال عبدي؟ فيقولون : حمدك واسترجعك، فيقول : ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد ) [الترمذي، وقال الأباني:حسن لغيره] .

     عبدَ الله .. هل لك زادٌ غير الصبر؟ يقول عمر – رضي الله عنه – : وجدنا خيرَ عيشنا بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً، وقال علي – رضي الله عنه - : ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له، وقال الرازي : إذا لم نصبر فماذا نفعل؟ كان ابن عباس في سفر فنُعي إليه أخوه, فاسترجع ثم تنحى عن الطريق، فأناخ فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) [البقرة:45] .

     قال علي – رضي الله عنه - :إنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإذا جزعت جرى عليك القدر وأنت مأزور، وقد مرَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – بامرأة تبكي عند قبر فقال : ( اتق الله واصبري ) فقالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها : إنه النبي – صلى الله عليه وسلم – فأتت بابه فلم تجد عنده بوابين فقالت : لم أعرفك، فقال : ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) [البخاري ومسلم]،  ولا بد أيضاً من حبس القلب عن التسخط على المقدور، فمن تجلد وقلبه ساخط على القدر فليس بصابر .

 

    

     عبدَ الله .. تذكر أن الذي ابتلاك هو الله، والذي قدر عليك هو خالقك وهو أرحم بالعبد من الأم بولدها، واعلم أنك في قبضة أرحم الراحمين، وأنَّ المُلْكَ مُلْكُه، والأمرَ أمرُه، ولا يسأله مخلوقٌ عن علة فعله، قال تعالى : ( لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون ) [الأنبياء:23]، ولذلك كانت دعوة المصاب ( إنا لله ) فالجميع ملك لله وتحت تصرفه – جل وعلا – ( وإنا إليه راجعون ) [البقرة156]، فيتذكر يوم المعاد وأنه صائر إلى ربه فلماذا السخط وعدم الرضا بالمقدور؟ فإنك لن تجد طعماً للحياة حتى تؤمن بقضاء الله وتسلّم لقَدَره تعالى (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ) [الأنعام:17] فمن اطمأنت نفسه لقضاء الله سيعيش هادئ البال ساكن النفس .

دع المقادير تجري في أعنتها       ولا تبيتنَّ إلا خــاليَ البـال

مابين غمضة عين وانتباهتها       يغيّر الله من حال إلى حال

     الأقدار مكتوبة، والأقضية ماضية ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ) [الحديد:22]، في صحيح مسلم مرفوعاً  : ( قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال : وعرشه على الماء )، فلا حيلة للعبد ولا قوة له، وما عليه إلا أن يسلم لأمر الله مع حسن الظن به والتوكل عليه ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) [التوبة:51]

يجري القضاء وفيه الخير نافلة       لمؤمن واثق بالله لا لاهي

إن جــاءه فـــرح أو نابه تـــرحٌ       في الحالتين يقول الحمد لله

     قال شريح القاضي : إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله – عز وجل – عليها لأربع، أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني .

     ذكر التنوخي في كتابه الفَرَج بعد الشدة أن صاحب خبر المسجونين رأى رجلاً في المُطْبق – وهو سجن تحت الأرض – مغلولاً على ظهره لبنة من حديد فسألته عن قصته فقال : أنا والله مظلوم كنت في ليلة من الليالي في دعوة صديق لي، فخرجت من عنده مغلساً، فلما صرت في قطعة من الشارع، فإذا بالعُسس فرُهِبْت ولم أدر ما أعمل، ففتحت دكاناً فدخلته ليجوزَ ويذهبَ عني، لكنه بلغ الموضع الذي أنا فيه وأمر رجاله بتفتيش المكان، فدخلوا بمِشْعَلٍ رأيت في ضوئه رجلا مذبوحاً على صدره سكين ففزعت، فلمّا رأوه ورأوني قائماً لم يشكوا في أني القاتل، فأخذوني فحبسوني فضُربت ضرباً شديدا، وعوقبت أصنافاً من العقوبات، وأنا أنكر وعندهم أني أتجلّد وهم يزيدونني، فاجتمع أهلي بأسباب السلطان واستشهدوا خلقاً كثيراً على حسن سيرتي فأعفيت من القتل، ونقلت إلى هذا المُطْبق وثُقِّلتُ بهذا الحديد، وتُركت على هذه الصورة مُذْ ست عشرة سنة، قال الرجل : فاستعظمت محنته، وبُهِتّ من حديثه، فقال : مالك؟ والله ما آيسُ مع هذا من فضل الله – عز وجل – فإن من ساعة إلى ساعة فرجا، قال : فوالله ما خرج كلامُه من فيه حتى ارتفعت ضجةٌ عظيمة، وكُسِر الحبس فإذا هي الفتنة قد ثارت في أيام المقتدر بالله .

     ويروي لبيب العابد فيقول : رأيت يوماً حيةً داخلة في جحرها فأمسكت ذنبها فانثنت عليّ فنهشت يدي فشُلّت، ومضى على ذلك زمان طويل فشُلّت يدي الأخرى، ثم جَفَّت رجلاي ،ثم عَميت ثم خُرِست، وكنت على ذلك الحال ملقى سنةً كاملة لم تبقَ لي جارحة صحيحة إلا سمعي أسمع به ما أكره، وأنا طريح على ظهري، لا أقدر على الكلام ولا على الحركة, وكنت أسقى وأنا رياَّن، وأترك وأنا عطشان، وأهمل وأنا جائع، وأطعم وأنا شبعان .

     فلما كان بعد سنة دخلت امرأةٌ إلى زوجتي، فقالت : كيف أبو علي لبيب؟ فقالت : لا حي فيُرجى , ولا ميت فيُسلى، فأقلقني ذلك وآلمني ألماً شديداً وبكيت ورغبت إلى الله – عز وجل – في سري بالدعاء، فلما كان في بقية ذلك اليوم ضرب على جسمي شيئاً عظيماً كاد يُتلفني، ولم أزل على ذلك الحال إلى أن دخل الليل وانتصف فسكن الألم قليلاً فنمت فما أحسست إلا وقد انتبهت وقت السحر وإحدى يدي على صدري، ثم وقع في قلبي أن أحركها فتحركت، فقبضت رجليّ فانقبضت، فرددتها فرجعت ففعلت ذلك مراراً، ثم رمت الانقلاب من غير أن يقلبني أحد، ورمت القيام فأمكنني وقمت، وسرت في الظلمة وأنا لا أطمع في بصري، فخرجت من البيت إلى صحن الدار فرأيت السماء والكواكب تزهر قلت : يا قديم الإحسان لك الحمد .

ثم صحت بزوجتي فقالت : أبو عليّ؟ فقلت الساعة صرت أبو عليّ!! أسرجي السراج فأسْرَجَت فانقطعت بعد ذلك إلى الله – عز وجل – ولزمت عبادته، وصارت عادته أن يقول يا قديم الإحسان لك الحمد يقولها في حَشْوِ كلامِه

فالزم يديك بحبل الله معتصماً          فإنه الركن إن خانتك أركان

     قال بعض الصالحين : استعمل في كل بليةٍ تَطْرُقُك حسن الظن بالله – عز وجل  - في كشفها فإن ذلك أقرب بك إلى الفرج، وصدق الحق إذ يقول : ( فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا ) [الشرح:5-6]

     بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطـبة الثانية

     الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ..

أما بعد ،،

      فيقول الله تعالى: ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) [يوسف:110]، كلما اشتد الكرب اعلم أن الفَرَج قد اقترب، فآخر الهم هو أول الفرج، فلن يَغلب عسرٌ يسرين، فلا بد للظلام أن ينقشع، ولا بُدّ لليل البهيم أن ينجلي، كان ابن شبرمة إذا نزلت به شدة يقول : سحابة ثم تنقشع .

هــي الأيـــام والـغـِيَــرُ              وأمــــر الله منتــظرُ

أتيأس أن تـرى فــرجاُ               فأيــن الله والقـــــدرُ؟

     يقول تعالى عن يعقوب – عيه السلام - حين فقد أحب ولده ومع ذلك لم يقنط : ( ولا تايئسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) [يوسف:87] هو – جل وعلا – لم يُغلق بابَه، لم يُسدل حجابَه، لم تنفد خزائنُه، لم ينته فضلُه، كلُّ الحبال تنقطع إلا حبلُه، كلُّ الآمال تخيب إلا فيه، كل الأبواب تُغلق إلا بابه .

لا يأس يسكننا فإن كبـر الأسى        وطغى فإن يقين قلبي أكبرُ

في منهج الرحمن أمن مخاوف        وإليه في ليل الشدائد نجأرُ

     عبدَ الله .. توِّج همومَك بدعاء الكرب، ودعاء الهم، ودعوة ذي النون، فأما الكرب فقد كان يقول عليه الصلاة والسلام عند الكرب : ( لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم ) [البخاري ومسلم]، وكان يقول ( دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسك طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت ) [صحيح أبي داود] .

     وأما دعاء الهم فحديث ابن مسعود مرفوعاً : ( ما أصاب أحداً قطّ همٌّ ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً، فقيل يا رسول الله : ألا نتعلمها؟ فقال : بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها) [المسند، وصححه أحمد شاكر] .

     وأما دعوة ذي النون يونس بن متَّى - عليه السلام – فحديث ( دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له ) [الترمذي وصححه الألباني]

     حسبنا الله ونعم الوكيل ... قالها إبراهيم – عليه السلام – لما ألقي في النار، فنجّاه الله منها ومن كيد أعدائه، وقالها محمد – صلى الله عليه وسلم – بعد غزوة أحد فقال الله تعالى : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم ) [آل عمران:173-174]

وإني لأدعو الله والأمـــر ضيّق       عليّ فــــما ينفــك أن يتفــرجـــا

ورُبّ فتى ضاقت عليه وجوهه        أصاب له في دعوة الله مخرجا

عباد الله صلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه ..

 

المرفقات

1640799607_خطبة ( 5 ) الصبر عند الشدائد.docx

المشاهدات 2127 | التعليقات 0