الصبر على أذى الأقارب

وائل عبدالله باجروان
1446/06/17 - 2024/12/19 20:22PM

الصبر على أذية الأقارب

الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعدُ:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).

عباد الله،،،

لن أحدثكم عن عقوبة قطع الأرحام مع عظم ما في ذلك من الإثم وحسبهم حديث: ((الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ تَقُولُ مَن وصَلَنِي وصَلَهُ اللَّهُ، ومَن قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ)) رواه مسلم.

ولكني سأوجه حديثي اليوم إلى أولئك الصابرين، المحتسبين، الواصلين لأرحامهم؛ مع ما يجدون من جفاء وقسوة وأحيانا ظلما من أقاربهم وأرحامهم.

في حين أن المرء يتوقع من قريبه حسن المعاملة، والنصرة والتأييد والمؤازرة والمساندة، فإذا به يفجأ بالمعاملة السيئة، والنكران وسوء الخلق، بل قد يصل إلى الأذى والظلم والتجني.

وصدق الشاعر حين قال:

وظلم ذوي القربى أشدة مضاضة         على المرء من وقع الحسام المهند

ولهؤلاء الصابرين المحتسبين قدوة حسنة في نبي الله يوسف عليه السلام، حيث تأمر إخوته على قتله، ثم عدلوا إلى إلقائه في البئر، ولم يرحموا صغر سنه، ولا ضعف حيلته، ومع ذلك عفا عنهم وصفح عندما تمكن منهم.

وهذا الصديق أبو بكر رضي الله عنه، يعفوا عن ابن خالته مسطح ابن أُثاثة رضي الله عنه، بعد أن وقع مع من وقع في عرض ابنته عائشة رضي الله عنهم أجمعين، وأعاد الصلة والصدقة له بعد أن قطعها منه، وفيه نزل قول الله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ {سورة النور 22}.

عباد الله، جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رَسُولَ اللهِ، إنَّ لي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إليهِم وَيُسِيؤُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عنْهمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقالَ: ((لَئِنْ كُنْتَ كما قُلْتَ، فَكَأنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ وَلَا يَزَالُ معكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عليهم ما دُمْتَ علَى ذلكَ)). رواه مسلم.

وكأنَّ الرَّجلَ يَسأَلُ عن حُكمِ وَصلِ تلك الرَّحمِ بعْدَ ما بيَّنه مِن أسبابٍ تُوجِبُ مُقاطعتَهم، فأخبَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه إنْ كان الأمرُ مِثلَ ما قُلتَ مِنَ حِرصِكَ على وَصلِهم والإحسانِ إليه مع ما فِيهم مِن جَفاءٍ وجَهالةٍ؛ «فكأنَّما تُسِفُّهُم»، أي: تُطعِمُهم في أفواهِهِم «المَلَّ» وهو: الرَّمادُ الحارُّ، وهو تَشبيهٌ لِما يَلحَقُهم مِن الإثمِ بما يَلحَقُ آكِلَ الرَّمادِ الحارِّ مِن الألَمِ، وقيل: معناه: إنَّك بالإحسانِ إليهم تُخزِيهم وتُحَقِّرُهم في أنفُسِهم لِكثرةِ إحسانِكَ وقَبيحِ فِعلِهم، ولا يَزالُ معكَ مِنَ عندِ اللهِ «ظَهيرٌ عَليهم»، أي: مُعِينٌ لكَ عليهم ودَافِعٌ عنكَ أَذاهم مَا دُمْتَ على ما ذَكرْتَ مِن إحسانِكَ إليهم وظَلُّوا هُم على إساءتِهم إليكَ، فوافَقَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على وَصلِه لهم، وكلِّ ما ذَكَره مِن مَظاهرِ إحسانِه فيهم.

ففي الحديث الصَّبرُ على الإيذاءِ، خصوصًا مِنَ الأقاربِ، وأنَّ مَن كان كذلك أعانَه المولى سبحانَه وتَعالَى.

ولا شك أن مخالطة الناس والصبر عليهم فيها ثواب عظيم، قال حبيبكم ﷺ: ((المؤمنُ الَّذي يخالطُ النَّاسَ ويصبِرُ علَى أذاهُم خيرٌ منَ الَّذي لا يخالِطُ النَّاسَ ولا يصبرُ علَى أذاهم)) حسنه ابن حجر، فإذا كان الصبر على أذى عموم الناس مأجور فلا شك أن الأجر أعظم في الصبر على مخالطة الأقارب والصبر عليهم.

إلى هؤلاء الصابرون على أذية أقاربهم نبشرهم بحديث رسول الله ﷺ حيث قال: ((ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ، ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها)) رواه البخاري.

وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه ليس الواصلُ بالمُكافئ، أي: ليس الإنسانُ الكاملُ في صِلةِ الرَّحِمِ والإحسانِ إلى الأقاربِ، هو الشَّخصَ الَّذي يُقابِلُ الإحسانَ بالإحسانِ، ولكنِ الإنسانُ الكاملُ في صِلةِ الرَّحِمِ هو الَّذي إذا قُطِعَتْ رحِمُه وصَلَها، أي: إذا أساء إليه أقاربُه أحسَن إليهم ووصَلهم.

وفي الحَديثِ: أنَّ الصِّلةَ إذا كانتْ نَظيرَ مُكافأةٍ مِن الطَّرَفِ الآخَرِ لا تكونُ صِلةً كاملةً؛ لأنَّها مِن بابِ تبادُلِ المنافعِ، وهذا ممَّا يَسْتوي فيه الأقاربُ والأباعدُ. وفيه: عدَمُ المعاملةِ بالمِثلِ، بل بالإحسانِ إلى المسيءِ والمُقصِّرِ.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الآيَاتِ وَالْحِكْمَةِ. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.


 

الخطبة الثانية

الحَمدُ للهِ عَلى إحسَانِه، والشُّكرُ لَهُ عَلى تَوفيقِهِ وامتِنَانِه، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له تَعظِيمًا لِشَأنِه، وَأَشهدُ أَنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُه وَرَسولُه، صلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِه وَأَصحابِه وسلَّمَ تَسليمًا مَزيدًا، أَمَّا بَعدُ:

بعض الناس يعاني من مشكلات مع أقاربهم، ويعاني من أذى مباشر أو غير مباشر نتيجة التعامل مع الأهل والأقارب.

فيفكر البعض في القطيعة، والبعض الآخر يصبر ويحتسب، ولا شك أن الذي يصبر ويحتسب له أجر عظيم من الله، وليس من العباد، فالله تعالى يجازي الصابرين، ويمنحهم أجورهم، حيث إن أجر الصبر عظيم على أي بلاء، وأذى الأقارب من أشكال البلاء.

والصبر على الأذى لعدم قطيعة الرحم، سبب للبركة في الحياة والرزق والعز، وربما يتوب المؤذي من كثرة عطاء وود الصابر، فيضاعف الله الأجر للصابرين.

ومن يصل رحمه يصل ربه، وكلما كانت الصلة بها مزيد من الشقاء كان الأجر أعظم.

وعند التعرض للأذى من الأقارب على المرء أن يحتسب ما تأذى به عند الله عز وجل فالله تعالى لا يضيع شيء، ويجزي كل نفس على ما صبرت وعلى ما احتسبت.

وإن حصل له ظلم من الأقارب فإنه يدفع الظلم عن نفسه، ويكظم الغيط، مع حرصه على عدم قطع الصلة، يقول الله تعالى ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ {آل عمران 134}، وفي هذا دلالة على قيمة كظم الغيظ والعفو عن الظالم والمسيء.

وإذا كان في أذية الأقارب ما ينقص دينه، أو يترتب عليها مفسدة أكبر من مفسدة قطيعتهم، فعند ذلك لا بأس من قطيعتهم، وهذه قضايا استثنائية ينظر إليها بخصوص، أما الأصل فكما قال النبي ﷺ: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها»، فالواصل ليس هو الذي يكافئ على ما يكون من إحسان قرابته، إنما الذي يصلهم إذا قاطعوه، ويحسن إليهم إذا أساؤوا إليه، ويصبر على أذاهم إذا جهلوا، هذا هو الواصل في أعلى مراتبه وأعلى درجاته؛ لأن مقابلة الإحسان بالإحسان هنا أشبه ما يكون بالمكافأة، والواصل الحقيقي الذي يكون في أعلى درجات الوصل هو الذي يصل قرابته مع قطيعتهم له، فإن حقهم ثابت، والله تعالى قد ذكر صورةً هي أعلى ما يكون من صور إيصال السوء للقريب من قريبه، فقال جل وعلا: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا}، هذا بيان أنه لا يجوز الطاعة في معصية الله، ولكن يبقى حقهم والإحسان إليهم، قال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، فأمر الله تعالى بصحبة الوالدين بالمعروف، وكذلك غيرهم من القرابات، ما لم تكن صلتهم تفضي إلى نقص في الدين، فعند ذلك لا بأس من ترك صلتهم، وأما ما يكون من نقص في أمور الدنيا، من بخس حق في مال، أو إيصال أذية ببدنه، أو شعوره، أو عرضه، وما أشبه ذلك، فعليه بالصبر عليهم، قال ربنا تبارك وتعالى: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}

ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

عباد الله،، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

المشاهدات 694 | التعليقات 0