الشيخ عبدالله القرعاوي رحمه الله
ناصر محمد الأحمد
1438/03/07 - 2016/12/06 03:16AM
الشيخ عبدالله القرعاوي
رحمه الله
10/3/1438ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: إن معظم الحركات الإصلاحية التي حصلت في العالم الإسلامي والتي كتب الله لها القبول والانتشار كانت على أيدي علماء، وإذا لم يبادر العلماء، ويتحرك العلماء، ويضحي العلماء، فمن الذي سيرشد الناس ويوجههم ويعلمهم؟. ومن هذه الحركات الإصلاحية المعاصرة المباركة والتي كتب الله لها القبول والانتشار، حركة الشيخ عبدالله القرعاوي رحمه الله في منطقة الجنوب. وهذه لها قصة رائدة فريدة ماتعة سأُسمعكم طرفاً منها في خطبة اليوم.
الشيخ عبد الله القرعاوي مجدد الدعوة في منطقة الجنوب من الجزيرة العربية، هو: عبد الله بن محمد بن حمد بن محمد بن عثمان القرعاوي. ولد في الحادي عشر من ذي الحجة عام 1315هـ وذلك بعد وفاة أبيه بشهرين، ولد القرعاوي في عنيزة في منطقة القصيم، ونشأ يتيم الأب فقام بتربيته ورعايته عمه عبدالعزيز بن حمد القرعاوي.
اشتغل القرعاوي بداية حياته بالتجارة مع عمه عبدالعزيز جرياً وراء لقمة العيش، ولم يتفرغ لطلب العلم إلا على كبر، حيث التحق بأول مدرسة في مسقط رأسه عنيزة وتعلم فيها القراءة والكتابة، ثم سافر بعد ذلك إلى الهند طلباً للتجارة. ويقول هو عن نفسه: أني لما رجعت من الهند في الثاني والعشرين من رمضان سنة 1357هـ وقدمت إلى الرياض وأقمت عند فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ أقرأ عليه للمرة الثالثة، وأما الرابعة فكنت مستمعاً، وأما الخامسة فلم أجده لأنه كان بمكة يومئذ، وقد ذهبتُ إلى الأحساء عند فضيلة الشيخ عبد العزيز بن بشر، وإلى قطر عند فضيلة الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع فقرأت عليهما كليهما في الحديث.
ثم رحل القرعاوي بعد رحلته إلى الأحساء وقطر إلى بريدة فتلقى علمه عن الشيخ عبد الله بن سُليم، وعمر بن سُليم، بعدها ترك التجارة وانصرف إلى طلب العلم، فرحل إلى الهند للتزود من العلم في عام 1334هـ، والتحق بالمدرسة الرحمانية بدلهي، وتلقى علم الحديث عن علماء السنة في الهند، واستمر يتلقى علمه فيها حتى جاءه خبر مرض والدته بعد سنة من وصوله للهند، فعاد إلى عنيزة، ولكن توفيت والدته قبل وصوله، ثم عاد إلى الهند لإكمال دراسته، فتلقى علم الحديث عن الشيخ عبد الله بن أمير القرشي الدهلوي، وأجازه إجازة مطولة في كتب الحديث وذلك عام 1355هـ، بعدها رحل لطلب العلم إلى مصر وفلسطين وسوريا والأردن والعراق والكويت، ثم رجع بعدها إلى بلدته عنيزة.
لازم الشيخ عبد الله القرعاوي الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية آنذاك وحج معه، وبعد أداء المناسك، طلبت الدولة من مفتي الديار أن يُوجَّه إلى الجنوب مرشداً ومعلماً لأمور الدين، فوجَّه محمد بن إبراهيم الشيخ عبدالله القرعاوي لجنوب المملكة وأوصاه بالإخلاص في دعوته والتوكل على الله، فتوجه القرعاوي لجازان وأخذ معه بضاعة ونزل في صامطة، وفتح دكاناً في صامطة، ووضع فيه البضاعة التي معه، وكان أول أمر بدأ به في الدكان تعليم القرآن الكريم، وثلاثة الأصول، والأربعين النووية، والتجويد والفرائض وآداب المشي إلى الصلاة، كان ذلك في الحادي والعشرين من ربيع الأول عام 1358هـ، فكان الدكان بمثابة أول مدرسة حكومية افتتحت في تهامة، وفي آخر جمادى الأولى من نفس السنة توجه الشيخ القرعاوي إلى فرسان وافتتح فيها مدرسة، ومنها توجه إلى مزهرة قرية الحكميين فافتتح فيها مدرسة وأصلح مسجدها، وفي شعبان من نفس السنة رجع إلى صامطة وافتتح بها المدرسة الثانية في بيت أحد طلابه.
ومع تزايد المدارس والمساجد التي أنشأها القرعاوي، فقد أحيطت الحكومة في الرياض بأن هناك شيئاً يحصل في جازان غير الذي يوصل إليها، وعليه أرسلت الحكومة لجاناً عديدة للوقوف على الحقيقة، فكتبت هذه اللجان تقارير تنبئ عن إعجابها بالمدارس وتدعو لتشجيعها ومساندة الشيخ القرعاوي في عمله لصدقه وإخلاصه وسلامة مقصده، فقرر الدولة بمكافأة تعيين للقرعاوي على مسيرة العمل الذي يقوم به وذلك عام 1367هـ، وجاء الأمر ببعث إعانة كبيرة للقرعاوي تكون عادة سنوية ويوصى به أمراء الجهات وقضاتها. ثم عين الشيخ عبد الله القرعاوي معتمداً للمعارف بمنطقة جازان عام 1373هـ ولكنه استقال في نفس السنة، واستمر مشرفاً على مدارسه، حيث أمضى القرعاوي إحدى وثلاثين سنة في نشر الدعوة في منطقة جازان والجنوب عموماً، وقد انتشرت مدارسه إلى عسير وتهامة والليث والقنفذة والباحة.
وعلى مدار أكثر من ثلاثين سنه قضاها الشيخ عبد الله القرعاوي في الدعوة والتدريس وافتتاح المدارس، يمكن إجمال المدارس التي فتحها الشيخ في تلك المناطق قرابة 2250 مدرسة. وكان يكافئ الطالب المبتدئ بريالين، وخاتم القرآن بعشرة ريالات شهرياً. ووصل عدد التلاميذ للأولاد والبنات خمسة وسبعون ألف طالب وطالبة.
ووصل بركة دعوة الشخ بلاد اليمن أيضاً، ففتح فيها ستة وثمانين مدرسة.
مرض الشيخ عبد الله القرعاوي في السابع والعشرين من شهر صفر عام 1389هـ وهو في منطقة جازان، وقد نقل على أثره إلى الرياض وأدخل المستشفى المركزي، ثم ما لبث أن وافاه الأجل يوم الثلاثاء الثامن من شهر جمادى الأولى عام 1389هـ عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاماً، وقد صُلي عليه بالجامع الكبير بالرياض، ودفن بمقبرة العود بالرياض. وكانت وفاته قبل وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم بحوالي خمسة أشهر.
وبالإضافة إلى اهتمامه بتعليم الناس وفتح المدارس، قام أيضاً ببناء المساجد في جهات متعددة في منطقة الجنوب، وحفر آباراً كثيرة للشرب، وقد بذل جهداً كبيراً بالشفاعة لتوظيف بعض الطلبة، فاجتمعت في هذه المنطقة بفضل الله ثم بأسبابه نعمة الدين والدنيا معاً، وكان محسناً كبيراً كريماً، ويحب أهل الكرم، وقد أوصى بثلث ماله عند موته في المشاريع الخيرية، في بناء المساجد، وحفر الآبار، وغيرها من أعمال الخير، والحمد لله قد نفذ من الثلث الشيء الكثير، وذلك من حسن نيته رحمه الله.
أيها المسلمون: ومن هذا العرض الموجز، ندرك أن الشيخ عبد الله القرعاوي يعتبر رائد التعليم والدعوة في جازان وما حولها في مناطق الجنوب، ويعترف كثير من طلبة العلم هناك بفضله وأعماله، وإيقاظه للمنطقة، وانتشال أهلها من براثن الجهل، ومهاوي البدع والمنكرات. كما يعتبر رحمه الله، رائداً في تعليم المرأة هناك، ورائداً في توفير المكتبات، والترغيب في المطالعة والتأليف، ورائداً في توفير السكن الداخلي للطلاب الغرباء، ليدخر جهدُهم للعلم، حيث أخذ الفكرة من مدارس الهند التي تعلّم فيها أو زارها كالمدرسة الرحمانية بدلهي. والشيخ نموذج للتواضع، فريد في البذل والحرص والمتابعة، كما يعتبر القرعاوي أستاذ جيل، وداعية مجدداً بالرفق واللين والحكمة والصبر، وهذه سمات العلماء وأخلاقهم، في حبهم للخير والمساعدة، وفي حرصهم على الدعوة إلى الله سبحانه، واهتمامهم بتعليم الناس أمور دينهم.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: أمضى الشيخ القرعاوي واحداً وثلاثين عاماً في منطقة الجنوب، كلها حركة دائبة: في التعليم والدعوة. ترك خلالها آثاراً جليلة، حيث أيقظ الله به خلقاً كثيراً من نومة الجهل، وغمامة الأهواء، فالمنطقة كانت تغط في سبات عميق، وتتخبط في ظلمات داكنة من الشرك والبدع، وبعض أبنائها إن لم يكن جُلّهم يتعلقون بأصحاب القبور والسحرة، وما يتبع هذا من المعاصي والآثام. وقد عانى الشيخ في هذا السبيل ما الله به عليم، فصبر وصابر، وهذّب نفوس وطباع من حوله، من طلاب وجلساء، حتى برزت الثمار، وظهرت النتائج في الغرس: طلاباً نجباء، ومدرسين وقضاة، ودعاة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وغير هذا من ثمار يانعة يُلمس أثرها في ذلك اليوم وحتى الآن.
ورغم وعورة المنطقة التي أسس دعوته فيها لم يقلّ عزمه وصبره، فكان يلقي دروساً أول النهار في قرية، ثم يذهب على حماره إلى قرية أخرى ليلقي الدروس هناك، وفي بعض المرات يذهب مشياً على الأقدام. ومما ذكر عنه أنه يقوم ببناء المساجد بيده بمساعدة طلابه وإذا مر بمسجد يحتاج إلى ترميم، قام بما يلزم إصلاحه بيديه.
أيها المسلمون: لا تُنال المعالي بالأماني، ولا تقوم الدعوات إلا على ألوان البذل والتضحية بشتى صنوفها.
وباستقراء الحقائق، ومعرفة الواقع يتبين للبصير ما يلي:
أولاً: كل دعوة لا تنتشر إلا بجهود أتباعها، ودين الإسلام لم ينتشر براحة الأبدان وسلامة النفوس.
ثانياً: تتسع الثغرات على الدعوة الإسلامية يوماً بعد يوم، وتكثر المجالات الشاغرة التي تفتقر إلى من يقوم بها.
ثالثاً: يتزامن مع هذا قلة الموارد، وجفاف المنابع، وضيق ذات الدعاة مما يُخشى أن يشكل خطراً على بعض الدعاة وكثيراً من البرامج.
رابعاً: وفي المقابل تزداد جهود أهل الباطل قوة، وتزداد مخططاتهم دقة، وتتعدد أنشطتهم لتشمل شتى الجوانب.
ونجد هنا شكوى عمر رضي الله عنه المرَّةَ ماثلةً: "اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة"، ولا يَرفَع هذا الواقع إلا الصدق مع الله، ودليل الصدق الاستعداد مع البذل والتضحية في كل جانب تحتاج إليه الدعوة في وقت كهذا، وهو الوقت الذي يعظم فيه الأجر ويزداد فيه الفضل، وشتان بين من يضحي وهو يرى ثمرة الجهد وتلوح له أمارات النصر، وبين من يضحي وقد غابت عن ناظريه أمارات النصر ودلائل التمكين، قال الله تعالى: (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَذِينَ أَنفَقُوا مِنْ بَعْدُ وقَاتَلُوا وكُلاًّ وعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير).
اللهم ..