الشوق العميق لبيت الله العتيق ..

عبدالله محمد الطوالة
1435/11/24 - 2014/09/19 07:10AM
أيّها المسلمون، احفَظوا على أنفسِكم الأوقات .. فإنّه لا قيمةَ لها، وطيِّبوا لأنفسِكم الأقوات .. ولا تنالوا إلاّ أحلَّها، وزِنوا الأعمالَ بميزان الشّرع وصحِّحوا المقاصدَ والنيات .. ومحصوا الإخلاص فيها، وراقِبوا في السّرّ والجهرِ عالمَ الخفيات .. فما أحسنَ المراقبةَ وأجلّها، واغتنِموا أيامَكم الفاضلة قبل الفوات .. أيامًا شرَّفها الله وفضّلها.
أيها المسلم، إليك قصة مثيرة دونها التاريخ كرحلة من أعظم الرحلات، إنها قصة الحاج عثمان دابو .. فما هي قصة هذا الحاج .
يقول الداعية: عبد الرحمن الصويّان .. زرت الحاج عثمان دابو رحمه الله تعالى من جمهورية جامبا المطلة على المحيط الأطلسي في أقصى المغرب الإفريقي جنوب موريتانيا .. وقد تجاوز الثمانين من عمره .. زرته في منزله المتواضع بقريته الصغيرة قرب العاصمة بانجول، وحدثني عن رحلته الطويلة قبل خمسين عامًا إلى بيت الله الحرام .. حيث حجّ ماشيًا على قدميه برفقة أربعة من صحبه، حجّوا من بانجول إلى مكّة قاطعين قارّة إفريقيا كلها من غربها إلى شرقها، لم يركبوا في تلك الرحلة إلا فتراتٍ يسيرة متقطّعة على بعض الدواب .. رحلة مليئة بالعجائب والعبر والمواقف الغريبة ، استمرّت الرحلة أكثر من سنَتين ، ينزلون أحيانًا في بعض المدن للتكسّب والراحة والتزوّد لنفقات الرحلة ثم يواصلون المسير. يقول الداعية: سألته كيف بدأت الفكرة للرحلة ؟ .. فقال : كنا خمسة أصدقاء .. تذاكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عندما ذهب بأهله إلى وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله الحرام فقال أحدنا: نحن الآن شباب أقوياء أصحاء فما عذرنا عند الله تعالى إن نحن قصّرنا في المسير إلى بيته الحرام ؟! خاصة أننا نظن أن الأيام لا تزيدنا إلا ضعفًا، فلماذا التأخير؟! .. فخرجنا من دورنا وليس معنا من القوت إلاّ ما يكفينا لأسبوع واحد ، فأصابنا في طريقنا من المشّاق والكروب ما الله تعالى به عليم، فكم من الليالي بتنا في العراء .. بلا طعامًا ولا غطاءً .. حتى كدنا أن نهلك من الجوع عدة مرات , وكم من ليلة طاردتنا السباع وكادت أن تقضي علينا لولا لطف الله .. وكم من يومٍ تسمرنا نرقب الطرقات نبحث عمّن يتصدّق علينا بغداء أو عشاء ، وكم من ليلة عرض لنا قطّاع الطريق فنهبوا كل ما معنا . يقول الحاج عثمان دابو: ومن المواقف التي لا تنسى أنني لُدِغت ذات ليلة فأصابتني حمى شديدة وألم عظيم أقعدني وأسهرني ، وشممت رائحة الموت تسري في عروقي . فكان أصحابي يذهبون للعمل، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار، فكان الشيطان يوسوس لي : أما كان الأولى أن تبقى في ديارك ؟! لماذا تكلّف نفسك ما لا تطيق؟! أليس الحج على المستطيع فقط ؟! لكن الأشواق إلى رؤية بيت الله تعالى ومواطئ الأنبياء كانت أشد في قلبي من تلك الوساوس كلها. .. ظللنا نسير على تلك الحال .. أياماً وليال طوال .. تجاوزت السنتين .. وفي أثناء الطريق مات منا ثلاثة .. كان آخرهم في عرض البحر، واللطيف في أمره أنه قال لنا في وصيته : إذا وصلتما إلى المسجد الحرام فأخبرا الله تعالى بشوقي للقائِه، واسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي ، يقول الحاج عثمان : فلما مات هذا الثالث نزلني همٌ شديد وغم عظيم، وكان ذلك أشدّ ما لقيت في رحلتي ، فقد كان أكثرنا صبرًا وقوة وتحمساً ، فخشيتُ أن أموت مثله قبل أن أنعم بالوصول إلى تلك المشاعر، فكنت أحسب الأيام والساعات ، وأرقب الطريق متى عساي أن أصل ... فلما وصلنا إلى جدّة مرضت مرضًا شديدًا .. حتى ظننت أني سأموت قبل أن أصلَ ، فأوصيت صاحبي .. إذا أنا متّ أن يكفنني في إحرامي ويقربني قدر طاقته إلى مكة لعل الله تعالى أن يضاعف لي الأجر ويتقبلني في الصالحين ... مكثت في جدة أيامًا حتى منّ الله علي بالشفاء .. ثم واصلنا طريقنا إلى مكة محرمين .. كانت أنفاسي تتسارع والبشر يملأ جوانحي .. والشوق يهزني ويشدني .. يقول الداعية : وسكت الشيخ قليلاً .. وأخذ يكفكف عبراته ، ثم أقسم بالله تعالى .. أنه لم ير ولم يشعر بلذّة في حياته كتلك اللذة التي غمرته حين رأى الكعبة المشرفة .. يقول فما إن رأيتها حتى خررت ساجداً .. شكرًا لله تعالى على أن أوصلني ، وأخذت أبكي من شدّة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال .. يقول الحاج : ثم تذكرت أصحابي الثلاثة الذين تساقطوا في الطريق ولم يتيسّر لهم ما تيسر لي ولصاحبي الرابع ، فبكيت أكثر وأكثر .. وحمدت الله تعالى على نعمته وفضله .. هذه –أحبتي في الله - رحلة الحاج عثمان دابو من أقصى إفريقيا إلى مكة المكرمة .. عبر عامين وأكثر من الزمن، قطع فيها آلاف الأميال .. وتعرّض فيها لأنواع الأهوال .. تساقط صحبه في الطريق، يحدوهم الشوق العميق إلى بيت الله العتيق ..
ولما لا .. إنها مكّةُ المكرَّمة .. تاريخٌ وذكريات .. سيرةٌ ومسيرة، مهبط الوحي ومهوى الأفئده .. أَوَّل بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ {مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} .. إليه حجَّ الأنبياء وصلّى إمامُ الحنفاء، مِن مكّة شعّ نورُ الهدى، وانطلَقَت رسالة التوحيدِ .. حتى عمَّت أرجاءَ الدنيا، وغيّرتِ العالم، وأرسَت أجملَ وأعدلَ وأفضل حضارة عرَفها التاريخ، فهي مركَز العالم ورَمز وحدةِ المسلمين ومَصدَر النور للعالمين، أفضلُ البِقاع عند الله، وأحبُّ البلاد إلى رسول الله صلّى وسلّم عليه الله ..
مكّةُ المكرّمة أمّ القرى ، البلد الحرام ، ميلادُ أشرف الورى، على رُباها نشأ وترعرع ونما ، وفي بقاعها نزل جبريل عليه السلام بالوحي والهدى ، ومن على جبلِ الصّفا صدَع المصطفى .. ليسمع الدنيا رسالة السماء ..
مكة المكرمة .. حيث وقف النبيّ صلى الله عليه وسلم أمامَ الكعبةِ المشرفة ليقرّرَ مبادئ الدّين العظمى، ويرسُم نهجَ الإنسانية الأرقى، ويعطي الإنسان حقوقاً عجزَت عن تحقيقِها كلُّ حضارات الدنا ..
مكة المكرمة .. كم اشتاقت لبَطحاها النفوس وهفت لرُباها القلوب، وتاقت للقياها الأرواح ، كم من متأوه متحسِّرٍ يتمنَّى رؤيةَ وادي محسِّر، كم من حالم بالمنى يهوى الوقوف بعرفة والمبيتَ بمِنى ..
فهنيئًا لكل من نوى زيارة البيت المعظّم والمشعر الحرام، هنيئًا له هذه الشّعائر والمشاعر، هنيئًا له شرفُ الزمان وشرف المكان وشرف الأعمالِ، ضيفُ الله ووفدُه، يسّر الله مسيره .. وسهل سبيله وجعل حجه حجّاً مبرورًا وسعيَه مشكورًا وذنبه مغفوراً ، وحفِظه من كلِّ مكروه، ، ورده إلى أهله سالماً مسرورا ..
أيّها المؤمنون، إنَّ زكاءَ النفس وزيادةَ الإيمان وحصولَ التقوى يكون حينَ يُقبِل المسلم على عبادَتِه بأدبٍ وخشوع، ويتفرّغ لما جاءَ له وما قصَدَه، حافظًا وقتَه مخلِصًا لربه. مقبلاً بقلبه وكليته .. عالماً أن الأصلَ الأصيل الذي بُنِيَ عليه بيتُ الله الجليل ، هو ما أمر الله به الخليل ، كما جاء في محكم التنزيل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} . وفي ثنايا آياتِ الحج قال الله حل وعلا : {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ..
فطهِّروا أعمالَكم ، وأخلصوها لربكم .. والزَموا سنةَ نبيكم في كل أعمالكم وجميعِ حياتكم، وأكثروا من ذكرَ الله .. فهو سِمَة الحجّ البارزَة ، وهو إعلانٌ للتوحيدِ الذي هو شِعَارُ الحجّ: "لبّيكَ اللّهمّ لبيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، "، وقد قال سبحانه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} ، وقال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وقال تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} وقال سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} وجاء في الحديث ((إنما جُعل الطواف بالبيت والسعيُ بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)).
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم ..

الحمد لله وكفى ..
أيّها المسلمون : مناسكَ الحجّ ليسَت مجرّدَ رسومٍ تُؤدَّى وأماكنَ تُؤتَى، بل الحجُّ مدرسةٌ وتربية وتاريخٌ وذكريات .. ومن أسرار الحج الظاهرة أنه يصل حاضر الأمة الإسلامية بماضيها ويربط الجيل الحاضر بالجيل الأول، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} فحين يسعى الحاجّ بين الصفا والمروة ويشتدّ سَعيًا في بطنِ الوادي يستحضِر الذُلَّ والفاقةَ لربّ العالمين، يشعر ويتذكر أنّ حاجتَه وفقرَه إلى خالقِه كحاجةِ وفقر أمِّ إسماعيل حين سعَت لاهثةً .. مشفِقة خائفة .. تطلبُ الغوثَ من الله... يشعر ويتذكَّر أنّ مَن كانَ يطيع اللهَ كإبراهيمَ عليه السلام فإنّ الله لا يضيعُه ولا يضيعُ ذرّيّتَه وأهله ولا يخيب أمله ورجاه .. ولا يردّ دعاءَه.
في الحجّ ـ يا عبادَ الله ـ تربيةُ النّفوس على جُملٍ من معاني الخير ومكارم الأخلاق، كالصّبر والتحمّل والعَفو والصّفح والنفَقة والبذل والإحسان وتعليمِ الجاهل والدعوة إلى الخير ونفع المسلمين، وتهذيبُ النّفس وتزكيتُها وترويضُها على الفضائِل وتطهيرها من النقائص وتحريرُها من رقِّ الشّهوات والرقيُّ بها لأعلى المقامات والكرامات.
في الحجّ منافع وعبر وأسرار ؛ فالتجرُّد من المخيط يذكُّرٌ بلباس الأكفَان بعد الرحيل، وفيه تواضع ومساواة ونبذ للكبرياء والتعالي ، الجمع كلُّه إزارٌ ورداء، والجميع يقفون في مكان واحد .. ويلبون بلسان واحد .. ينادون رباً واحداً .
وفي الحج تعلم أنّ تفاخرَ الناس وتعاليَ بعضهم على بعض هي مظاهرُ زائفة لأنّك ترى الناسَ سواسية .. وفي الحجّ تعلمُ أنّ ما كنتَ تراه ضروريًّا من زخارف الدّنيا وزينتها أنّه ليس بضروريّ كما كنت تظن ، وأنه يُمكِن الاستغناء عنها بسهولة ..
وفي تقبيلِ الحجر الأسودِ والحَلق و التقصير استسلامٌ لهيمَنة الله وخضوعٌ لعظمتِه وتذلّلٌ لعزّته ..
ومن دروس الحج وأسراره : سهولة اجتماع كلمة المسلين .. فكما اجتمعَوا اليومَ في مقصدِهم ومسيرهم إلى بيت الله ، وتجمعهم من كل فج عميق .. فإنّ هذا دليلٌ على إمكان اجتماع كلمتهم واتِّحاد صفّهم ووحدتهم، وهو المأمول بإذن الله عزّ وجلّ. وهذا من أكبر مقاصدِ الإسلام العظيمة .. وبنظرةٍ واحدة إلى جموع الحجيج تتجلى حقيقة كبرى ، حقيقةُ أنَّ هذه الأمةَ مهما بلغَ الكيد لها والمكر بها .. فإنها أمةٌ خالدة بخلودِ رسالتها وكتابِها، باقيةٌ ما بقي الليل والنهار... وفي اجتماعُ الناس في عرفة والمشعر وعند الجمرات تذكيرٌ بالموقف الأكبرِ يومَ يحشر الله الأولين والآخرين لفصل القضاء .. فشقي وسعيد ..
أيّها المسلمون، يومُ عرفةَ يومٌ أغرّ، هو ملتَقى المسلمين المشهود، يومُ رجاءٍ وخشوع وذلٍّ وخضوع، يومٌ كريم على المسلمين، يقول شيخ الإسلام: "الحجيجُ عشيةَ عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمانِ والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعْبير [عنه]"
أفضلُ الدعاء دعاء ذلك اليوم، يقول ابن عبد البر: "دعاءُ يوم عرفة مُجابٌ كلُّه في الأغلب" ، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة)) رواه الترمذي وفي الحديث الأخر يقول صلى الله عليه وسلم : ((ما مِن يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)) فمن فاته الوقوف بعرفة فلا يفوتنه صيامه .. فصيامه كما صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم يكفر السنة الماضية والحاضرة .. وصلوا أحبتي في الله
المشاهدات 2127 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا