الشوق إلى رمضان 4/8/1431هـ
الشيخ عصام بن عبدالمحسن الحميدان
بسم الله الرحمن الرحيم
الشوق إلى رمضان 4/8/1431هـ
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:
أيها المؤمنون: فإن ريح رمضان المبارك الطيبة بدأت تهب بنسائمها بدخول شهر شعبان المبارك، الشهر الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يهتم له أكثر من أي شهر آخر غير رمضان؛ لأنه مقدمة لرمضان، وكأنه الدورة الإيمانية التي تسبق شهر السباق والجوائز.
إن رمضان مليء بالريح الطيبة؛ فإن أبواب الجنة تفتح فيه فتطيب أجواء الكون برائحتها، والصيام وليلة القدر وكثرة الملائكة والتهجد والاعتكاف والقرآن كل ذلك له رائحته الزكية العطرة؛ لأنه عمل صالح، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
ولكن ريح رمضان لا يشمها إلا من قوي إيمانه وشوقه للقائه، كما شم يعقوب ريح يوسف شوقاً للقائه في حين أن من حوله لا يشعرون! (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ)، ولما اشتاق أنس بن النضر -رضي الله عنه- للجنة في غزوة أحد أصبح يشمّ رائحتها؛ فقال لسعد بن معاذ: "يا سعد بن معاذ، الجنة ورب الكعبة، إني أجد ريحها من دون أحد"(متفق عليه).
والمسلم يرقّ قلبه ويتعاظم شوقه وهو ينتظر قدوم شهر رمضان؛ لينال فيه بركات الكريم المنان، واشوقاه إلى رمضان، واشوقاه إلى شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران؛ قال ابن القيم: "الشوق أثر من آثار المحبة وحكم من أحكامها، وإنه سفر القلب إلى المحبوب في كل حال".
لولا التعلل بالرجاء لقطّعت*** نفس المحب صبابةً وتشوقا
ولقد يكاد يذوب منه قلبه*** مما يقاسي حسرةً وتحرقا
حتى إذا رَوح الرجاء أصابه*** سكن الحريق إذا تعلّل باللقا
الرجاء يخفف حرارة الشوق، ولذا قال الله -تعالى-: (مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)؛ فإلى من يرجو لقاء الله -تعالى- وهو مشتاق إليه، سيكون الوعد قريباً ويلتقي الحبيب بحبيبه، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرض موته: "بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى"؛ فقالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: فعلمت أنه لا يختارنا.
إذاً عظم الشوق للطاعات دليل على عظم الإيمان في النفس، وترقُّب المؤمن للحظات اللقاء بالضيف القادم هو في حد ذاته أجرٌ ومثوبة.
أيها المسلمون: ومن ثمرات الشوق لرمضان:
1. الإحساس بلذة العبادة وحلاوتها: لما يجد فيها من لقاء تطيب له روحه ويركن إليه شوقه؛ قال عليه الصلاة والسلام: "حبب إلي من الدنيا، النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة"(رواه الإمام أحمد)؛ قال الحافظ ابن حجر: "من كانت قرة عينه في شيء فإنه يود ألا يفارقه ولا يخرج منه لأن فيه نعيمه وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب".
فمن يترقب شهر رمضان يحس بلذة العبادة في شعبان؛ لأنه يتمرن على طاعاته، ويعيش في أمل إدراك الشهر، ورجاء الوصول، ويشم رائحته، ويعيش اللذة الإيمانية، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يترقب رمضان فيقول: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان"(رواه أحمد بسند فيه ضعف)، وهذا رجاءٌ منه -صلى الله عليه وسلم- لإدراك رمضان، وكذا كان السلف الصالح -رحمهم الله- يدعون الله -تعالى- أن يبلغهم رمضان.
2. تنوي العبادة وتنال أجرها ولو لم تنلها: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله حسنة كاملة"(متفق عليه)؛ فأنت تنتظر رمضان لتصومه وتقومه فلك أجر ذلك وإن لم تدركه، وتنتظره لتتصدق فيه وتعتكف وتقوم ليلة القدر فلك أجر ذلك وإن لم تدركه، وهذا من فضل الله -تعالى- يؤتيه من يشاء.
3. تهيئة النفس لاستقباله: كما أن من يتنظر عزيزاً يهيئ نفسه وبيته لاستقباله، ومن يشتاق لرمضان يحتاج لتهيئةٍ قلبية وجسدية ونفسية من الآن، سنذكر صورها بعد قليل.
4. الفرح بقدومه وإشاعة الفرح فيمن حوله.
قلت ما سمعتم ولي ولكم فاستغفروا الله ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
معاشر المؤمنين: وهذه بعض التوصيات في شهر شعبان:
1) المبادرة في قضاء ما عليك من صيام إن كنت أفطرت في رمضان الماضي لعذر شرعي، وقد ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقضي ما عليه من صيام نافلة في شعبان قبل رمضان، حتى يأتي رمضان وقد قضى حق السنة الماضية؛ لأن السنة تبدأ من رمضان؛ قال -صلى الله عليه وسلم- عن شهر شعبان: "وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم"(رواه أحمد والنسائي وحسَّنه الألباني).
2) في رمضان يقبل الناس على تلاوة القرآن وختمه، ولكن لتكن تلاوته سلسة وختمته عليك يسيرة فابدأ في شعبان أن تكثف من وقت التلاوة؛ فإن كانت عادتك أن تتلو جزءًا يومياً فلتجعلها جزئين أو ثلاثـــاً.
3) رمضان شهر تكثر فيه الصلوات من تراويح وقيام ونوافل؛ فلكي تعتاد على طول الوقوف فيه دون إرهاق أو تعب؛ فلتخصص للقيام وقتا أطول بدءًا من شعبان، وعود نفسك من الآن على طول الركوع والسجود.
4) بدءًا من الآن عود نفسك على طول الدعاء، واحفظ من أدعية القرآن الكريم والأدعية المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
5) عوّد نفسك على الصوم لكي لا تجد عند إقبال رمضان بإذن الله مشقة في صوم الأيام الأول؛ فاجعل شعبان أكثر أيامه صوماً؛ فقد ورد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرًا أكثر من شعبان، وكان يصوم شعبان كله»(رواه البخاري).
6) ابتعد عن السهر وجرب من الآن النوم مبكرا والاستيقاظ قبل الفجر؛ تدرباً على القيام ومناجاة السحر.
7) راجع حفظك أو ابدأ في حفظ بعض من السور في شعبان؛ لكي تصلي بها في نوافل رمضان؛ فكم هو سعيد من يصلي ويناجي ربه بآيات يحفظها في صدره!
8) تزدحم الأسواق ويكثر الناس فيها في رمضان فابدأ بنفسك، واقضِ جميع حوائجك من مواد غذائية وملابس للعيد وغيرها بدءًا من شعبان؛ لتتفرغ للعبادة والذكر والعلم في رمضان.
عباد الله: (إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي"، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل هذا البلد آمناً مباركاً وجميع بلاد المسلمين.
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل بلادنا آمنةً مطمئنة وسائر بلاد المسلمين.