الشهرة
صالح عبد الرحمن
1443/06/22 - 2022/01/25 08:39AM
خطبة عن الشهرة
الخطبة الأولى :
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
أَمَّا بَعْدُ ...
فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى ، وخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، وشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ .. "بينما الحجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم، إذ قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان منهم إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد أن يموت، فخلصه حراس الحرم منهم وجاؤوا به إلى أمير مكة فقال له: قبحك الله، لم فعلت هذا؟ فقال: حتى يعرفني الناس فيقولون هذا الذي بال في بئر زمزم". وفي رواية أخرى أن الأعرابي أجاب بقوله: "أردت أن أذكر ولو باللعنات".
حُبُّ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ وَالتَّمَيُّزِ عَلَى النَّاسِ دَاءٌ قَدِيمٌ فِي الْبَشَرِ، وَهُوَ أَهَمُّ سَبَبٍ لِسَعْيِهِمْ خَلْفَ الْجَاهِ وَالْمَالِ ، وَمَنْ سَعَى لِلشُّهْرَةِ وَالذِّكْرِ بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ وَقَعَ فِي الرِّيَاءِ ، وَالرِّيَاءُ شِرْكٌ . وَمَنْ سَعَى لِلشُّهْرَةِ وَالذِّكْرِ بِدُنْيَاهُ خَبَا ذِكْرُهُ ، وَلَمْ يُفْلِحْ سَعْيُهُ . وَأَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُجَاهِدٌ وَمُنْفِقٌ وَقَارِئٌ عَالِمٌ ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِأَعْمَالِهِمُ الشُّهْرَةَ وَالذِّكْرَ فِي النَّاسِ ، وَلَمْ يُرِيدُوا بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى . وَمَنْ قَاتَلَ لِلذِّكْرِ أَوْ لِيُرَى مَكَانُهُ فَلَيْسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَقَدْ يَقْصِدُ الْعَبْدُ الشُّهْرَةَ فِي هَيْئَةٍ أَوْ لُبْسٍ أَوْ نَحْوِهِ ، فَيُجْزَى بِقَصْدِهِ ذُلًّا ؛ فعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسِيرَةِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَخْبَارِ سَلَفِ الْأُمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَجَدَ أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الشُّهْرَةَ ، وَيَبْتَعِدُونَ عَنِ الْأَضْوَاءِ ، وَلَا يُحِبُّونَ أَنْ يُذْكَرُوا ، وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْرَفُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ ، فَيَأْتِي الْغَرِيبُ فيدخل على محمد وأصحابه فيقول أيكم محمد ؟؟ الله أكبر لَمْ يَتَمَيَّزْ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ بِلِبَاسٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ هَيْئَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَحِينَ ثَارَتِ الْفِتْنَةُ اعْتَزَلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ حِينَهَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ : « أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ ، فَقَالَ : اسْكُتْ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ » . مَا أَعْظَمَهُ مِنْ جَوَابٍ ! يَتَضَمَّنُ فَضْلَ التَّخَفِّي ؛ وَلِذَا تَخَفَّى سَعْدٌ فِي إِبِلِهِ وَغَنَمِهِ عَنِ الْفِتْنَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالْأَضْوَاءِ ، فَلَمْ يَنْدَمْ على ذلك .
وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي الْمُبَاعَدَةِ عَنِ الشُّهْرَةِ وَالْأَضْوَاءِ ؛ لِمَا تَجُرُّهُ مِنَ الْفِتْنَةِ عَلَى صَاحِبِهَا ، فيَخَافُونَ عَاقِبَتَهَا ، وَيَعْلَمُونَ تَبِعَتَهَا ، وَيَفِرُّونَ مِنْهَا ، وَيُحِبُّونَ خُمُولَ الذِّكْرِ , قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : «كَفَى فِتْنَةً لِلْمَرْءِ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى » ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : « إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تُعْرَفَ فَافْعَلْ ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا تُعْرَفَ ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يُثْنَى عَلَيْكَ ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ إِذَا كُنْتَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : «مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ »
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْإِخْلَاصَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَالسَّلَامَةَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالشُّهْرَةِ , إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ . أقول قولي هذا ...
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه , والشكر له على توفيقه وامتنانه , وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده : أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِذَا سَعَى الْإِنْسَانُ لِلشُّهْرَةِ فَنَالَهَا شَقِيَ هُوَ بِهَا ، وَشَقِيَ بِهِ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ ، فَلَا يُخْطِئُ فِي كَلِمَةٍ إِلَّا حُفِظَتْ عَنْهُ ، وَلَا يَزِلُّ زَلَّةً إِلَّا بَلَغَتِ الْآفَاقَ ، حَتَّى يُعَيِّرُهُ بِهَا أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ ، وَالْإِنْسَانُ يَسْتُرُ نَقْصَ عَقْلِهِ بِصَمْتِهِ ، وَيُدَارِي عَوْرَةَ أَخْلَاقِهِ بِتَخَفِّيهِ . وَأَمَّا أَهْلُ الشُّهْرَةِ فَإِنَّهُمْ يَعْرِضُونَ نَقْصَ عُقُولِهِمْ عَلَى الْمَلَايِينِ ، وَيَكْشِفُونَ عَوْرَاتِ تَصَرُّفَاتِهِمْ أَمَامَ الْعَالَمِ أَجْمَعِينَ , فيَأْتُونَ بِالْعَجَائِبِ لِنَيْلِهَا ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا بَابُ شَقَائِهِمْ .
وَفِي زَمَنِنَا صَارَتِ الشُّهْرَةُ تَدِرُّ أَمْوَالًا عَلَى أَصْحَابِهَا بِدَعَايَاتٍ لِمُنْتَجَاتٍ فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الْجَمَاعِيِّ ، وَأَصْبَحَ التَّهَافُتُ عَلَى الشُّهْرَةِ ظَاهِرَةً اجْتِمَاعِيَّةً ، يَسْعَى إِلَيْهَا الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِيتُ فِي طَلَبِ الشُّهْرَةِ بِاسْتِجْدَاءِ الْمَشَاهِيرِ أَنْ يُعْلِنُوا لِحِسَابِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُهَا بِخِفَّةِ عَقْلِهِ وَسُخْفِ قَوْلِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُهَا بِحِكَايَاتٍ وَقِصَصٍ يَرْوِيهَا أَوْ يَخْتَرِعُهَا ، وَنِسَاءٌ يَطْلُبْنَ الشُّهْرَةَ بِكَشْفِ مَفَاتِنِهِنَّ ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَطْلُبُهَا بِعَرْضِ حَيَاةِ أُسْرَتِهَا وَأَطْفَالِهَا عَلَى النَّاسِ ، وَلَا يَزَالُ طُلَّابُ الشُّهْرَةِ يَسْعَوْنَ إِلَيْهَا بِكُلِّ سَبِيلٍ ، وَيَبْذُلُ بَعْضُهُمْ فِي نَيْلِهَا دِينَهُ وَمُرُوءَتَهُ وَشَرَفَهُ وَأَخْلَاقَهُ وَرَاحَةَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ ، وَلِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ جُمْلَةٌ مَتِينَةٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ طَالِبِ شُهْرَةٍ أَنْ يَعِيَهَا ، يَقُوْلُ : « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُذْكَرَ لَمْ يُذْكَرْ ، وَمَنْ كَرِهَ أَنْ يُذْكَرَ ذُكِرَ » . وَصَدَقَ الْفُضَيْلُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَمَنِ اجْتَهَدَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالشَّأْنِ فِي التَّخَفِّي أَعْلَى اللَّهُ تَعَالَى مَقَامَهُ ، وَرَفَعَ فِي الْأَنَامِ ذِكْرَهُ . وَمَنْ بَذَلَ فِي سَبِيلِ الشُّهْرَةِ دِينَهُ وَمُرُوءَتَهُ لَمْ يُذْكَرْ بِخَيْرٍ ، وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ خُسْرًا .
فَأَخْلِصُوا - عباد الله - لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَعْمَالِكُمْ ، وَاطْلُبُوا ذِكْرَهُ عَنْ ذِكْرِ النَّاسِ ، وَاذْكُرُوهُ يَذْكُرْكُمْ ؛ ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾
الخطبة الأولى :
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
أَمَّا بَعْدُ ...
فَإِنَّ خَيْرَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى ، وخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، وشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ .. "بينما الحجاج يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم، إذ قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر والناس ينظرون، فما كان منهم إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد أن يموت، فخلصه حراس الحرم منهم وجاؤوا به إلى أمير مكة فقال له: قبحك الله، لم فعلت هذا؟ فقال: حتى يعرفني الناس فيقولون هذا الذي بال في بئر زمزم". وفي رواية أخرى أن الأعرابي أجاب بقوله: "أردت أن أذكر ولو باللعنات".
حُبُّ الظُّهُورِ وَالشُّهْرَةِ وَالتَّمَيُّزِ عَلَى النَّاسِ دَاءٌ قَدِيمٌ فِي الْبَشَرِ، وَهُوَ أَهَمُّ سَبَبٍ لِسَعْيِهِمْ خَلْفَ الْجَاهِ وَالْمَالِ ، وَمَنْ سَعَى لِلشُّهْرَةِ وَالذِّكْرِ بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ وَقَعَ فِي الرِّيَاءِ ، وَالرِّيَاءُ شِرْكٌ . وَمَنْ سَعَى لِلشُّهْرَةِ وَالذِّكْرِ بِدُنْيَاهُ خَبَا ذِكْرُهُ ، وَلَمْ يُفْلِحْ سَعْيُهُ . وَأَوَّلُ مَنْ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُجَاهِدٌ وَمُنْفِقٌ وَقَارِئٌ عَالِمٌ ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا بِأَعْمَالِهِمُ الشُّهْرَةَ وَالذِّكْرَ فِي النَّاسِ ، وَلَمْ يُرِيدُوا بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى . وَمَنْ قَاتَلَ لِلذِّكْرِ أَوْ لِيُرَى مَكَانُهُ فَلَيْسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَقَدْ يَقْصِدُ الْعَبْدُ الشُّهْرَةَ فِي هَيْئَةٍ أَوْ لُبْسٍ أَوْ نَحْوِهِ ، فَيُجْزَى بِقَصْدِهِ ذُلًّا ؛ فعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ فِي الدُّنْيَا أَلْبَسَهُ اللَّهُ ثَوْبَ مَذَلَّةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » .
وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسِيرَةِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَخْبَارِ سَلَفِ الْأُمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَجَدَ أَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الشُّهْرَةَ ، وَيَبْتَعِدُونَ عَنِ الْأَضْوَاءِ ، وَلَا يُحِبُّونَ أَنْ يُذْكَرُوا ، وَكَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْرَفُ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ ، فَيَأْتِي الْغَرِيبُ فيدخل على محمد وأصحابه فيقول أيكم محمد ؟؟ الله أكبر لَمْ يَتَمَيَّزْ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ بِلِبَاسٍ أَوْ مَكَانٍ أَوْ هَيْئَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَحِينَ ثَارَتِ الْفِتْنَةُ اعْتَزَلَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ حِينَهَا مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ بِالْخِلَافَةِ ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَقَالَ لَهُ : « أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ ، فَقَالَ : اسْكُتْ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ » . مَا أَعْظَمَهُ مِنْ جَوَابٍ ! يَتَضَمَّنُ فَضْلَ التَّخَفِّي ؛ وَلِذَا تَخَفَّى سَعْدٌ فِي إِبِلِهِ وَغَنَمِهِ عَنِ الْفِتْنَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالْأَضْوَاءِ ، فَلَمْ يَنْدَمْ على ذلك .
وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَلَامٌ كَثِيرٌ فِي الْمُبَاعَدَةِ عَنِ الشُّهْرَةِ وَالْأَضْوَاءِ ؛ لِمَا تَجُرُّهُ مِنَ الْفِتْنَةِ عَلَى صَاحِبِهَا ، فيَخَافُونَ عَاقِبَتَهَا ، وَيَعْلَمُونَ تَبِعَتَهَا ، وَيَفِرُّونَ مِنْهَا ، وَيُحِبُّونَ خُمُولَ الذِّكْرِ , قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : «كَفَى فِتْنَةً لِلْمَرْءِ أَنْ يُشَارَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى » ، وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : « إِنْ قَدَرْتَ أَنْ لَا تُعْرَفَ فَافْعَلْ ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا تُعْرَفَ ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يُثْنَى عَلَيْكَ ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ إِذَا كُنْتَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : «مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدٌ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ »
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْإِخْلَاصَ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ ، وَالسَّلَامَةَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالشُّهْرَةِ , إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ . أقول قولي هذا ...
الخطبة الثانية :
الحمد لله على إحسانه , والشكر له على توفيقه وامتنانه , وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده : أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : إِذَا سَعَى الْإِنْسَانُ لِلشُّهْرَةِ فَنَالَهَا شَقِيَ هُوَ بِهَا ، وَشَقِيَ بِهِ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ ، فَلَا يُخْطِئُ فِي كَلِمَةٍ إِلَّا حُفِظَتْ عَنْهُ ، وَلَا يَزِلُّ زَلَّةً إِلَّا بَلَغَتِ الْآفَاقَ ، حَتَّى يُعَيِّرُهُ بِهَا أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ ، وَالْإِنْسَانُ يَسْتُرُ نَقْصَ عَقْلِهِ بِصَمْتِهِ ، وَيُدَارِي عَوْرَةَ أَخْلَاقِهِ بِتَخَفِّيهِ . وَأَمَّا أَهْلُ الشُّهْرَةِ فَإِنَّهُمْ يَعْرِضُونَ نَقْصَ عُقُولِهِمْ عَلَى الْمَلَايِينِ ، وَيَكْشِفُونَ عَوْرَاتِ تَصَرُّفَاتِهِمْ أَمَامَ الْعَالَمِ أَجْمَعِينَ , فيَأْتُونَ بِالْعَجَائِبِ لِنَيْلِهَا ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا بَابُ شَقَائِهِمْ .
وَفِي زَمَنِنَا صَارَتِ الشُّهْرَةُ تَدِرُّ أَمْوَالًا عَلَى أَصْحَابِهَا بِدَعَايَاتٍ لِمُنْتَجَاتٍ فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الْجَمَاعِيِّ ، وَأَصْبَحَ التَّهَافُتُ عَلَى الشُّهْرَةِ ظَاهِرَةً اجْتِمَاعِيَّةً ، يَسْعَى إِلَيْهَا الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِيتُ فِي طَلَبِ الشُّهْرَةِ بِاسْتِجْدَاءِ الْمَشَاهِيرِ أَنْ يُعْلِنُوا لِحِسَابِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُهَا بِخِفَّةِ عَقْلِهِ وَسُخْفِ قَوْلِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُهَا بِحِكَايَاتٍ وَقِصَصٍ يَرْوِيهَا أَوْ يَخْتَرِعُهَا ، وَنِسَاءٌ يَطْلُبْنَ الشُّهْرَةَ بِكَشْفِ مَفَاتِنِهِنَّ ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَطْلُبُهَا بِعَرْضِ حَيَاةِ أُسْرَتِهَا وَأَطْفَالِهَا عَلَى النَّاسِ ، وَلَا يَزَالُ طُلَّابُ الشُّهْرَةِ يَسْعَوْنَ إِلَيْهَا بِكُلِّ سَبِيلٍ ، وَيَبْذُلُ بَعْضُهُمْ فِي نَيْلِهَا دِينَهُ وَمُرُوءَتَهُ وَشَرَفَهُ وَأَخْلَاقَهُ وَرَاحَةَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ ، وَلِلْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ جُمْلَةٌ مَتِينَةٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ طَالِبِ شُهْرَةٍ أَنْ يَعِيَهَا ، يَقُوْلُ : « مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُذْكَرَ لَمْ يُذْكَرْ ، وَمَنْ كَرِهَ أَنْ يُذْكَرَ ذُكِرَ » . وَصَدَقَ الْفُضَيْلُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ فَمَنِ اجْتَهَدَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالشَّأْنِ فِي التَّخَفِّي أَعْلَى اللَّهُ تَعَالَى مَقَامَهُ ، وَرَفَعَ فِي الْأَنَامِ ذِكْرَهُ . وَمَنْ بَذَلَ فِي سَبِيلِ الشُّهْرَةِ دِينَهُ وَمُرُوءَتَهُ لَمْ يُذْكَرْ بِخَيْرٍ ، وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ خُسْرًا .
فَأَخْلِصُوا - عباد الله - لِلَّهِ تَعَالَى فِي أَعْمَالِكُمْ ، وَاطْلُبُوا ذِكْرَهُ عَنْ ذِكْرِ النَّاسِ ، وَاذْكُرُوهُ يَذْكُرْكُمْ ؛ ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾