الشَّمَاتَةُ خُلُقُ الأرْذَلين

عبدالمحسن بن محمد العامر
1444/11/20 - 2023/06/09 01:28AM

الحمدُ للهِ أمرَ بالقولِ الحسنِ السديدِ، ونهى عن الفُحْشِ والبَذَاءِ، و"مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الحميدُ المجيدُ، وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه؛ الشافعُ والشهيدُ، صلى اللهُ وسلّم عليه وعلى آلِه وأصحابِه أولي الإيمانِ والتّوحيدِ، وعلى مَنْ تبعهم بإحسانٍ وتسديدٍ؛ إلى يومِ البعثِ والوعيدِ...

أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، فتحقيقها غايةُ النّجاحِ، والفوزُ بها رأسُ الفلاحِ، "إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا" 

معاشرَ المؤمنين: سلوكٌ مشينٌ، وخلقٌ ذميمٌ، يمارسُه أهلُ القلوبِ المريضةِ، والنّفوسِ السقيمةِ، يتشفّى به الأعداءُ، وينتصرُ به المهزومونَ، وتأباه النّفوسُ الشريفةُ، والأرواحُ العفيفةُ، إنها الشّماتَةُ التي عرّفها العلماء (بالفرح ببليَّةِ مَن يعاديك أو تعاديه) وفي مطاوعةِ النّفس فيها؛ تأكيدٌ للعداوةِ، واتباعٌ لهوى النّفسِ الأمّارةِ بالسوءِ، وإنقاصٌ للإيمانِ الذي لا يكملُ إلا بمحبّةِ الخيرِ للأخِ المسلمِ كما يُحَبُّ للنفسِ.

الشماتة مؤذيةٌ للمشموتِ به؛ مُفرِّحةٌ به أعداءَه، فقد قالَ هارونُ عليه السلامُ لأخيه موسى " فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ" والشماتةٌ قرينةُ الحسدِ، قالَ بعَضُ الحُكَماءِ: (إنَّ الحسَدَ والشماتةَ مُتلازِمان، فالحاسِدُ إذا رأى نعمةً بُهِت، وإذا رأى عَثرةً شَمِتَ) وكانَ مِنْ دعائه عليه الصلاةُ والسلامُ: "اللهمَّ احْفَظْنِي بِالإسلامِ قائِمًا، و احْفَظْنِي بِالإسلامِ قاعِدًا، و احْفَظْنِي بِالإسلامِ رَاقِدًا، و لا تُشْمِتْ بي عَدُوًّا حاسِدًا، اللهمَّ إنِّي أسألُكَ من كلِّ خَيْر خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ، و أعوذُ بِكَ من كلِّ شَرٍّ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ" صححه الألبانيُّ.

الشماتَةُ ضدُّ المواساةِ، بل منافرةٌ لها، فالمواساةُ: مشاركةٌ في المشاعرِ والوجدانِ، وأنَّى لشامتٍ أنْ يواسي، وأنَّى لشامتٍ أنْ يُحِسَّ بمشاعرِ الآخرينِ، وأنَّى لشامتٍ أنْ يُدخلَ السرورَ على قلوبِ الآخرينَ ولو بكلمةٍ طيّبةٍ.

الشّامِتُ شخصٌ بغيضٌ شريرٌ؛ يتجنّبُه النّاسُ، ويُنفرونَ مِنْ مخالطتِه، ويتكلّفونَ العافيةَ والقوّةَ والبسمةَ والأنسَ في حضرتِه؛ اتقاءً لشماتتِه، حتى قالَ الشاعرُ العربيُّ معبّراً عن أَنَفَتِه ومحاذَرتِه مِنَ الشَّمَاتِةِ:

وَتَجَلُّدي لِلشامِتينَ أُريهِمُ**

أَنّي لَرَيبِ الدَهرِ لا أَتَضَعضَعُ

الشامِتُ مُعَيِّرٌ غيرَه بالذّنبِ، والتعييرُ بالذنبِ عَواقِبُه وخيمُةٌ أليمةٌ؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "وإنِ امرؤٌ شتمَكَ وعيَّرَكَ بما يَعْلَمُ فيكَ، فلا تعيِّرهُ بما تعلَمُ فيهِ، فإنَّما وبالُ ذلِكَ علَيهِ" رواه أبو داود، وغيرُه وصححه الألبانيُّ.

الشَّامتُ مُشِيْعٌ للفاحشةِ في المسلمينَ ناشرٌ لها، لأنّه مُعْلِنٌ لها في الملأِ واللهُ عزّ وجلَّ يقولُ: "إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"

على الشّامتِ تدورُ الدّوائرُ، وسيلقَى الشامِتون كما لقِيَ غيرُهم؛ قالَ ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه :(واللهِ لو أنَّ أحدًا عيَّرَ رجلاً رَضَعَ مِنْ كَلْبَةٍ، لَرَضَعَ هو مِنْ هذه الكَلْبَةِ) وقالَ الحسنُ البصريُّ رحمه الله) أدركتُ أقوامًا لم تكُنْ لهم عيوبٌ، فتكلَّموا في عيوبِ الناسِ فأحدثَ اللهُ لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانتْ لهم عيوبٌ، فسكَتوا عن عيوبِ الناسِ فسترَ اللهُ عيوبَهم) كيفَ وقد جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قولُه: "يا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يَدْخِلْ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تَتَّبعوا عوراتِهم، فإنّه من اتَّبعَ عوراتِهم يَتَّبِعُ اللهُ عورتَه، ومن يَتَّبِعِ اللهُ عورتَه يَفْضَحُه في بيتِه" رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داود وصححه الألبانيُّ.

باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنةِ، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ.

أقولُ قولي هذا واستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّه كانَ غفّاراً.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ المِفْضالِ، والشكرُ للهِ الكبيرِ المتعالِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له ذو الكمالِ والجلالِ، وأشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسولُه الشافعُ يومَ الفزعِ والأهوالِ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ وامتثالٍ، إلى يومِ المرجعِ والمآلِ...

أمّا بعدُ: فيا عبادَ الله اتقوا اللهَ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا"

معاشرَ المؤمنينَ: فَضَحَتْ وسائلُ التّواصلِ الاجتماعيِّ سلوكَ الرجالَ، وكشفتْ سوءاتِ السفهاءِ والجُهَّالِ، ووجدوا في حساباتِهم في تِلْكُمُ الوسائلِ مَجَالاً لِبَثِّ ضَغِينَةِ نفوسِهم، وميداناً تأخذُ فيه ألسنتهم راحتَها بالشماتَةِ والتّشفي، مُتَناسِيْنَ أنَّه "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ" وغافلين عن قولِه تعالى: "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ* يعلمون ما تفعلون" وقولِه جلّ في عُلاه: "وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ"

ويعظمُ أثرُ الشامِتِ؛ حينَ يَشْمِتُ بالجماهيرِ، وبالجمَّ الغفيرِ، وحينَ يَعُمُّ قبيلةً باسمها، أو بلدةً بأهلِها؛ حيثُ يظنُّ كلُّ سامعٍ لشّماتَتِهِ أنَّه المقصودُ والمعنيُّ بها، فتتوغَّرُ الصدورُ، وتنشأُ الضغينةُ والبغضاءُ، وتكونُ الكراهيةُ والعِداءُ.

وبعدُ عبادَ اللهِ: على المشموتِ به ألاّ يقابلَ الشماتَةَ بمثلِها، ولا السيئةَ بأسوءِ منها قالَ تعالى: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" فالعفوُ والصّفحُ سِمَةُ المؤمنِينَ، وخلُقُ أولي القلوبِ السّليمةِ والنفوسِ الرفيعَةِ، والأرواحِ الطاهرةِ، ولألْسُنِ الذاكرةِ الشاكرةِ.

هذا وصلوا وسلموا ..

المشاهدات 883 | التعليقات 0