الشــــــتاء
فهد عبدالله الصالح
عباد الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل فلا نجاة إلا بها ولا كرامة إلا لأهلها فهي خير زاد وأحسن لباس (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) (يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم و أهليكم نارا وقدودها الناس والحجارة ). .
أيها المؤمنون :
يقول الله عز وجل (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) , ففي اختلاف الأزمان وفي تعاقب الفصول عبر وآيات فيها دلائل على قدرة الله ورحمته انظروا كيف يجئ الليل وكيف ينفلق الصباح ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) . وإن من آيات الله العظيمة أن تتعاقب الفصول فينقشع صيف ويجئ خريف ويرتحل شتاء ويأتي ربيع , وفي كل فصل يكون للحياة شكل أخر ومذاق مختلف , انظروا كيف حل الشتاء ببرده ورطوبته بنهاره القصير وليله البارد الطويل , بأمطاره ورعده وبرقه .
أيها المؤمنون :
إن عباد الله ينظرون إلى فصول السنة بعين المستثمر الذي يغتنم كل لحظه فيها في السير إلى الله . فالشتاء في نظر الإسلام وفي ثقافة الأمة الصالحة ليس هو شتاؤنا العابث لكنه مغتنم وصيد يترقبونه , أخرج الإمام أحمد رحمنا الله وإياه من حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الشتاء ربيع المؤمن ) وزاد البيهقي (طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه ), ولقد كان السلف يستبشرون في الشتاء ويحبونه لا للنزهة أو الخروج للبوادي بل لأنهم يجدون فيه بغيتهم , واستمعوا إلي أبى مسعود رضي الله عنه يرحب بالشتاء كما يرحب الصاحب بخليله فيقول ( مرحبا بالشتاء ينزل فيه البرد فيطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام ) فلما حضرته الوفاة بكى فقيل له في ذلك فقال ما بكيت بجري الأنهار ولا لغرس الأشجار وإنما أبكي على ظمئ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر .
اجل أيها المصلون :ما كان بكاؤه لأن الموت سيمنعه من الترحال والتفسح بل إن الموت سيقطعه عن مكابدة الصوم في أيام الصيف , وعن القيام في ليالي الشتاء .
أيها المؤمنون : الشتاء هو الغنيمة الباردة يقصر نهاره فلا يحس صائمه فيفوز بصيام يوم يباعده عن عذاب جهنم سبعين خريفا , فمن كان يشق عليه قيام الليل في الصيف لقصره , ففي ليل الشتاء مغنم فهو طويل ينام فيه المرء ما شاء أن ينام ثم يبقى من الليل , والشتاء هو موسم القران عن عبيد الله بن عمير – رحمه الله – أنه كان إذا جاء الشتاء قال يا أهل القران طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا . هكذا كانوا يتنادون بالطاعات إذا قامت مواسمها فحياتهم كلها سير إلى الله عز وجل , فالله تعالى يقول ( اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا وفى الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ).
فليس بمقبول من أمة مخلوقة للعبادة ومكلفة للدعوة ومرشحة للشهادة على الناس أنه إذا جاء شتاؤها خرج كما دخل دون أدنى تقدم أو رصيد عمل صالح , لقد فضح الله طبيعة الحياة الدنيا وذكر في الآية السابقة أنها محضن عبث وتكاثر ثم أعقب بقوله ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين امنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ), فإلى الجنة فقط يشرع السباق وفيها يكون التفاخر وعلى أبوابها يكون التغابن .
والشتاء – يا أمة الإسلام – كما أنه سانحة من سوانح العمر لإيلاف الطاعات من صوم وصلوات فإنه فيه مرحمة بالجياع والعراة , وما أكثرهم في بلاد الإسلام فكم مسلم يلسع البرد جنبيه لا يجد ما يتق به زمهريره , أو من يحمل روحه على راحته يخوض الماء ويواجه الثلج , وقد قال صلى الله عليه وسلم (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ) وقال أيضا من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ) متفق عليه . وما أكثر مآسي المسلمين في عالمنا الإسلامي , وما أكثر الحاجة في كل مكان ، وجدير بالمسلم أن يكون له صدقة من لباس أو مدفئة على أسرة محتاجة أو رعاة الإبل والغنم في الصحراء .
و الشتاء - أيها المسلمون - ممحاة للخطايا ومغسلة للذنوب قال صلى الله عليه وسلم ( ألا أدلكم على ما يمحو به الله الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا : بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط ), وقد أوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنه في ساعة احتضاره وقال ( عليك بخصال الإيمان فقال وما هي قال : الصوم في شدة الحر أيام الصيف , وقتل الأعداء بالسيف , والصبر على المصيبة , وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي , وتعجيل الصلاة في يوم الغيم , وترك روعة الخبال , فقال وما روعة الخبال قال شرب الخمر ) بارك الله لي ولكم ................
الخطبة الثانية :
واعلموا يا عباد الله : أن في لفح البرد ذكرا لليوم الأخر قال صلى الله عليه وسلم ( اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فجعل لها نفسين نفساً في الشتاء ونفساً في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون من الحر من سمومها ) .
فتذكر يا عبد الله عذاب ربك وشدته فإن ذلك يوقظ قلبك ويقصر أملك قال أحد الزهاد ( ما رأيت الثلج يتساقط إلا تذكرت تطاير الصحف يوم الحشر والنشر )
وعلى المسلم أن يتفقه فيما يخص الشتاء من أحكام فيشرع المسح على الخفين يوما وليلة أي أربعا وعشرين ساعة من زمن أول استعمال له وليس من أول صلاة أو حدث كما يعتقد البعض , ولا يجوز للمصلى أن يتلثم في صلاته ويكره أن يصلى إلى جهة النار كما يفعل المجوس .
والماء البارد جدا يحتاج إلى فرك حتى يبل العضو , ومن خشي وقت فوات الصلاة كالفجر إن هو قام بتسخين الماء كالذين ينامون في الصحراء وأصابتهم جنابة وخاف ضرر البارد فيتيمم ويصلى ولا يعيد تلك الصلاة ، وعليه الاغتسال متى وجد الماء المناسب .