الشتاءُ موعظةٌ وعبرة
أنشر تؤجر
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ، وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ، جَعَلَ لِكُلِّ زَمَانٍ مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الطَّاعَاتِ ، وَشَرَعَ لِعِبَادِهِ مَا يُنَاسِبُ أَحْوَالَهُمْ وَطَاقَاتِهِمْ زَمَانًا وَمَكَانًا وَقُوَّةً وَضَعْفًا مِنَ الْقُرُبَاتِ ؛ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنا محمدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا ، أَمَّا بَعْدُ :
فاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ ، وَقُومُوا بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْكُمْ وَانْتَهُوا عَمَّا نَهَاكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَهُ الْحِكَمُ الْبَالِغَةُ ، وَالْقُدْرَةُ النَّافِذَةُ ، يُقَلِّبُ الدَّهْرَ كَيْفَ يَشَاءُ ، وَيُقَدِّرُهُ كَمَا يُرِيدُ .
عِبَادَ اللَّهِ: لَا يَكَادُ يَنْقَضِي فَصْلٌ حَتَّى يَعْقُبَهُ آخَرُ ، وَلَا يَنْتَهِي مَوْسِمٌ حَتَّى يَخْلُفَهُ ثَانٍ ، كُلُّ ذَلِكَ لُطْفًا مِنَ اللَّهِ بِعِبَادِهِ وَرَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ ؛ وتَجْدِيدًا لِحَيَاتِهِمْ وَاسْتِقَامَةً لِأَحْوَالِهِمْ وَصَلَاحًا لِمَعَايِشِهِمْ ؛ فَسُبْحَانَ الْلهِ الْعَلِيمِ ، وَتَبَارَكَ الْحكيمُ الْخَبِيرُ ، وَجَلَّ الْخَلَّاقُ الْعَظِيمُ!؛( يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ))[النُّورِ: 44].
وإِنَّ فِي تَصْرِيفِ الْفُصُولِ آيَاتٍ وَمَوَاعِظَ لِكُلِّ مُعْتَبِرٍ ، وَفِي اخْتِلَافِهَا مَنَافِعُ وَحِكَمٌ لِكُلِّ مُدَّكِرٍ ؛ وَفَصْلُ الشِّتَاءِ مِنْ تِلْكَ الْفُصُولِ الَّتِي أَوْدَعَ اللَّهُ فِيهَا حِكَمًا جَلِيلَةً وَحَفَّهَا أَسْرَارًا عَظِيمَةً فمِنْ ذلك :
مَا يَسْتَفِيدُهُ الْعَبْدُ فِي تَغَيُّرِ الْفُصُولِ وَتَبَدُّلِهَا مِنْ عِبْرَةٍ وَعِظَةٍ فِي نَفْسِهِ ، وَأَنَّ دُنْيَاهُ الَّتِي يَعِيشُ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ زَائِلَةٌ ؛ وَمِثْلَمَا طَالَهَا التَّغَيُّرُ ؛ حَرٌّ فَبَرْدٌ وَمَطَرٌ فَقَحْطٌ وَلَيْلٌ فَنَهَارٌ وَغَيْرَهَاْ ، فَيَوْمًا تَتَغَيَّرُ دُنْيَانَا إِلَى آخِرَةٍ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يَتَنَقَّلُ بَيْنَ أَطْوَارِ حَيَاتِهِ طِفْلًا ، فَشَبَابًا ، ثُمَّ شَيْخًا هَرِمًا إِذْ بِهِ يَوْمًا لَا مَحَالَةَ يَرْحَلُ ، وَسَيَنْتَقِلُ مِنْ حَيَاةٍ لِمَوْتٍ ؛( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[غَافِرٍ: 67]
فَصْلُ الشِّتَاءِ دَعْوَةٌ لِلْعِبَادِ إِلَى شُكْرِ الْمُنْعِمِ بِمَا مَنَحَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ وَسَائِلِ وِقَايَةٍ ، وَسَخَّرَ لَهُمْ مِنْ سُبُلِ حِمَايَةٍ مِنْ بَرْدِهِ الْقَارِسِ وَتَبِعَاتِهِ الْمُؤْلِمَةِ ؛ فَالْمُنْعِمُ – سُبْحَانَهُ - فِي كُلِّ فَصْلٍ يُهَيِّئُ لَبِعَادِهِ مِنَ الْوَسَائِلِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مَعَهُ ، وَيُعْطِيهِمْ مَا يَتَنَاسَبُ فِيهِ مِنْ حَاجَاتِهِمْ فِيهِ ؛( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)[إِبْرَاهِيمَ: 34].
فاشكروا الله الذي امتن عليكم بتلك النعم ، فإن الشكر سبب في المزيد ، قال جل وعلا :( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد .(
أيها المؤمنون : الشِّتَاءُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ الْقَارِسِ يُذَكِّرُنَا بالآخرة وما فيها من الجزاء ، فأما أهل الجنة فإنهم لا يجدون البرد الشديد الذي يكدر عليهم صفو حياتهم ؛ فإن الله عز وجل لما ذكر نعيم أهل الجنة ، قَالَ سبحانه): مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ) )[الْإِنْسَانِ: 13] والزمهرير : هو أشد البرد .
وأما أهل النار – نعوذ بالله منها – فمن عذابهم البرد الشديد ، قال الله تعالى :( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ )[ص:57]، قال ابن عباس - رضي الله عنه-: الغساقُ : الزمهرير البارد الذي يحرق من شدة برده .
وفي الحديث قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا ، فَقَالَتْ : يَا رَبِّ ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ، فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
عِبَادَ اللَّهِ: مَعَ فَصْلِ الشِّتَاءِ تَعْتَرِضُ الْمُسْلِمَ أُمُورٌ وَأَحْكَامٌ يَنْبَغِي عَلَيْهِ فِقْهُهَا وَمَعْرِفَةُ حِكَمِ الشَّارِعِ فِيهَا ؛ فمن ذلك:
أنه قد تسْتَدْعِي شدة الْبَرْدُ – غَالِبًا - أَنْ يَلْبَسَ الشَّخْصُ عَلَى قَدَمَيْهِ جَوَارِبَ أَوْ شَرَابًا ، ويَكُونُ مِنَ الْمَشَقَّةِ نَزْعُهَا فِي كُلِّ وَقْتِ صَلَاةٍ ، وَغَسْلُ رِجْلَيْهِ ؛ فَرَخَّصَ الْإِسْلَامُ الْمَسْحَ عَلَيْهَا إِذَا كَانَ أَدْخَلَهُمَا عَلَى طِهَارَةٍ ، وأن يكون الممسوح عليه ساتر لمحل الفرض ، ومحل الفرض إلى الكعبين ، وأن يكون المسح في الحدث الأصغر ، وأن يكون المسح في المدة المحددة شرعا ، وهي يَوْمُ وَلَيْلَةُ لِلْمُقِيمِ ، وَلِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ ، وتحسب المدة من أول مسحة بعد الحدث ؛ فَعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، تَمْسَحُ عَلَى خُفَّيْكَ ؟ قَالَ : إِنِّي أَدْخَلْتُ رِجْلَيَّ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ ".
قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَعِصْيَانٍ ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخطبة الثانية :
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ : فَصْلُ الشِّتَاءِ يُبَرْهِنُ عَلَى مَدَى إِيمَانِ الْعَبْدِ وَتَقْوَاهُ ؛ فعندما يَشْتَدُّ الْبَرْدُ لَيْلًا ؛ قدُ تكون الصَّلَاةَ ثَقِيلَةً ، وَشُهُودُهَا فِيْ الْمَسَاجِدِ أَثْقَلَ ، وَلكن الْمُؤْمِنُ يَجْعَلُ مِنْ هَذِهِ الْمَكَارِهِ فُرْصَةً لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ ، فيقوم بما أوجب الله سبحانه وتعالى عليه من ذلك المحافظة على الصلوات الخمس – خاصة صلاة الفجر- ، ويحرص المؤمن على إسباغ الوضوء ، فإن الله يرفعه بهذا درجات ، ويحط عنه به الخطايا ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا ، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ).
عباد الله : إن أكثرنا قد غير ملابسه فصارت لها ألوان ملابس الشتاء ، ليتقي برد الشتاء في هذه الدنيا ، وجدير بنا أن نغير أعمالنا إلى الأفضل لنتقي بها برد جهنم في الآخرة ، نسأل الله أن يعيذنا منها أجمعين ، وإن أعظم ما يقينا منها : التوبة إلى الله سبحانه وتعالى ، قال الله تعالى :( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون )
والتوبة مأمور بها في كل حين وآن ، وتتأكد إذا أظهر الله من آياته ما يوقظ النائمين ، وينبه الغافلين ، فالله الله بالأعمال الصالحة ، فإننا سائرون إلى دار الجزاء ، فالناجي من تاب إلى ربه ، وأنس بلقياه ، ولزم شرعه ، وتابع رسوله صلى الله عليه وسلم .
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ ، وأذل الشرك والمشركين ، وَدمر أعداءَ الدِّينَ ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا ، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ .
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا ، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلاَةَ أُمُورِنَا ، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا ، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى ، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ وَالنَّارِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبِّ الْمَسَاكِينِ .
اللَّهُمَّ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيِنَ .
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
عباد الله: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )( النحل :90.(
فاذكروا الله العلي العظيم يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون .
المرفقات
1766054518_الشتاء موعظة وعبرة.docx