الشتاء آداب وأحكام-20-2-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف

محمد بن سامر
1436/02/20 - 2014/12/12 03:49AM

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله-صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا-أما بعد:
فيا أيها الإخوة، أُوصيكم-أيها الناس-ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله-رحمكم الله-؛ فربُّكم يزيدُ من شكرَه، ويذكُرُ من ذكرَه، ولا يَخيبُ من قصدَه يجزِي بالإحسانِ إحسانًا، وبالسيِّئات عفوًا وغُفرانًا، أصلِحوا ما مضَى بالنَّدم، وأصلِحوا ما حضرَ بحُسن العمل، وأصلِحوا ما أمامَكم بصادقِ الرَّجاء وعظيم الأمل، فرحِمَ الله عبدًا إذا نظرَ اعتبَر، وإذا سكَتَ تفكَّر، وإذا ابتُلِيَ استرجَعَ وصبَرَ، وإذا علِمَ تواضَع، وإذا عمِلَ أحكَمَ، وإذا سُئِل بذَل، يعملُ بالتنزيل، ويحذَرُ التسويفَ والتعليل، [يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا*وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا*إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا*إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا].
إخواني الكرام: الليالي والأيام والفصولُ والأعوام أيامُ اللهِ وسُنَنُه، تتعاقبُ على أهل الدنيا، فسُبحان مُصرِّفِ الشُّهورِ، ومُقلِّبِ الدُّهورِ، له المشيئةُ النافِذَة، والحكمةُ البالِغة، والعِبرةُ الغالِبة، القلبُ الحيُّ والمُؤمنُ اليَقِظ يعتبِرُ بما يراه من أيامِ الله وآياتِه في كونِه وخلقِه: [يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ]، [وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا].
أيها الأحباب: لقد كان من تعاليم دينِنا وحِكَمه، ومما حُفِظَ من نَهج السَّلَف الصالحِ: الرَّبطُ بين أحوال الدنيا وتقلُّباتِها وتصرُّف أيامِها، وبين أحوال الآخرة وعواقِب الأعمال؛ تذكِرةً وعِبرةً واستِعدادًا، ومن ميادين التفكُّر ومواطِن الاعتبار: اختِلافُ الفصول وتعاقُبُها من صيفٍ وشتاءٍ، وربيعٍ وخريفٍ، وحرٍّ وقرٍّ، وغيثٍ ودهرٍ، وهذه وقَفَاتُ اعتِبارٍ وتذاكُرٍ مع فصلِ الشتاء في ليلِه ونهارِه، وبردِه وأمطارِه؛ فقد كان للسَّلَف معه تأمّلاتٌ واستِفاداتٌ، يقول ابن مسعود-رضي الله عنه-: "مرحبًا بالشتاء؛ تنزِلُ فيه البركة، ويطولُ فيه الليلُ للقيام، ويقصُرُ فيه النهارُ للصيام"، وعن الحسن-رحمه الله-قال: "نِعمَ زمانُ المُؤمنِ الشتاءُ؛ ليلُه طويلٌ يقومُه، ونهارُه قصيرٌ يصومُه"، بل لقد أخرجَ الإمام أحمد-رحمه الله تعالى-عن أبي سعيد الخُدري-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-أنه قال: "الشِّتاءُ ربيعُ المُؤمن"، زاد البيهقيُّ-رحمه الله تعالى-: "طالَ ليلُه فقامَه، وقصُرَ نهارُه فصامَه"، وأخرج الإمام الترمذي-رحمه الله تعالى-في سننه بسنده عن عامر بن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "الغنيمةُ البارِدةُ الصومُ في الشِّتاء"، ويقول عمر-رضي الله عنه-: "الشتاءُ غنيمةُ العابِدين"، ثم يُوضِّح ذلك الحافظُ ابن رجبٍ-رحمه الله-فيقول: "إنما كان الشتاءُ ربيعَ المؤمن؛ لأنه يرتَعُ فيه في بساتين الطاعات، ويسرَحُ في ميادين العبادات، ويُنزِّهُ قلبَه في رياضِ الأعمال"، غنيمةٌ بارِدةٌ حصلَت من غير قتالٍ، ولا تعبٍ ولا مشقَّةٍ، يحوزُها صاحبُها عفوًا بغير كُلفة، وصفوًا من غير عناءٍ، في ليل الشِّتاء الطويلِ ينالُ المُؤمنُ حظَّه من النوم والراحَة، كما ينالُ حظَّه من القيام والعبادة. يُقطِّعُ الصالِحون القانِتون ليلَهم بالذِّكر والصلاة، ويتلذَّذُ العابِدون القائِمون بطُول المُناجاة، يعرِضون حوائِجَهم عند ربِّهم، ويُبدُون فقرَهم بين يدَي مولاهم، ويذكُرون مساوِئَهم أمام البرِّ الرَّحيم -عزَّ شأنُه وجلَّ جلالُه-فيستغفرونه، كان عُبيدُ بن عُمَير-رحمه الله تعالى-إذا دخل الشتاءُ يقول: "يا أهل القرآن: طالَ ليلُكم لقراءَتكم فاقرؤوا، وقصُرَ النهارُ لصيامِكم فصُوموا"
أيها الأحِبَّة: شتَّان بين من يتلذَّذُون بالتلاوةِ والذِّكرِ، والدعاءِ والمُناجاةِ، والصيامِ والقيامِ، وبين من يَبيتُ غافلا لاهِيًا، ساهِرًا ساهِيًا، كأنَّه قد نسِيَ يوم الحِساب، شتَّان ثم شتَّان بين أقوامٍ يَبيتُون لربِّهم سُجَّدًا وقِيامًا، قليلا من الليل ما يهجَعُون، وبالأسحار هم يستغفِرون، [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ]، يتذاكَرون بالشتاء زمهَريرَ جهنَّم: [رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا*إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا]، شتَّان بينهم، وبين أقوامٍ آخَرين غافِلين، وفي السَّهَر القاتِل غارِقين، يُقطِّعون الليلَ الطويلَ في سمَرٍ مُهلِكٍ، مُشتغلِين بما لا يحِلُّ من مسموعٍ ومقروءٍ ومُشاهَد، فيا لَحسرةِ الغافِلين! ويا لَندامة المُقصِّرين!.
إخواني في الله: ومن مواطِن العِبَر، وفُرص الأمل: ما أوصَى به الفارُوقُ عمرُ-رضي الله عنه-ابنَه قائلا: "وإسباغُ الوضوءِ في اليوم الشَّاتِي"، ذلك أن إسباغَ الوضوء على المكارِه مما تُحطُّ به الخطايا، وتُرفعُ به الدرجات؛ فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- عن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "ألا أدُلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايا، ويرفعُ به الدرجات؟!". قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إسباغُ الوضوء على المكارِه، وكثرةُ الخُطا إلى المساجِد، وانتِظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكمُ الرِّباط، فذلكمُ الرِّباط". رواه الإمام مسلم-رحمه الله تعالى-، والمكارِهُ: شِدَّةُ البردِ وآلامُ الجسمِ، وقال رسولُ الله-صلى الله عليه وآله وسلم-: "ثلاثٌ كفَّارات"، وذكرَ منها: "وإسباغُ الوضوء في السَّبِرات"، والسَّبِرات: شدَّةُ البرد، وإسباغُ الوضوء: تكميلُه مع شدَّةِ البردِ وألمِ الجسمِ، وما يلحَقُ ذلك من مشقَّةٍ، على أن تعلَموا-رحمكم الله-أنه لا حرج من الوضوء بالماء الدَّافِئ، وتسخينِ الماءِ، وتنشيفِ الأعضاءِ بعد الفراغِ من الوضوءِ؛ بل يُباحُ التيمُّمُ إذا خافَ على نفسِه شدَّةَ البرد، فضلا من الله ورحمةً، وتيسيرًا ونعمة، وفي مثل هذا جاءَت مُكاتبَةُ عُمرَ-رضي الله عنه-ووصاياه لعُمَّاله ووُلاتِه إذا حضر الشتاء، يقول لهم: "إن الشَّتاءَ قد حضَرَ وهو عدوٌّ لكم، فتأهَّبُوا له أُهبتَه من الصُّوفِ والخِفافِ والجوارِب، واتَّخِذوا الصُّوفَ شِعارًا". أي: مما يلِي الأجساد، "ودِثارًا" أي: فوق الملابِس، "فإنَّ البردَ عدوٌّ سريعٌ دخولُه، بعيدٌ خروجُه"، بل لقد امتنَّ الله على عبادِه بما يسَّر من وسائل استِدفاءٍ باللباس وغيرِه، فقال-عزَّ شأنُه-: [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ]، فتأمَّل كيف أفردَ الله-سبحانه-الدِّفءَ بالذِّكر وخصَّه بالتنويه، مع أنه من جُملة المنافِع! وقال-عزَّ شأنُه-: [وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ]، ومما تقتَضِيه المُناسَبَةُ: التنبيهُ إلى أن بعضَ الناسِ يُوقِدُ النارَ للتدفِئَة، كما يستخدِمُ بعضَ أجهزةِ التدفِئَة، وهذا من فضلِ الله ونعمته، وتيسيره وتسخِيره، ولكن قد أرشدَ نبيُّنا محمدٌ-صلى الله عليه وآله وسلم-إلى إطفاءِ النار قبل النوم؛ فقد قال-صلى الله عليه وآله وسلم-: "إنَّ هذه النارَ إنما هي عدوٌّ لكم، فإذا نِمتُم فأطفِئُوها عنكم"، وما ذلك إلا لما تُسبِّبُه من الاحتِراق أو الاختِناق.
عباد الله: ومن مواطِن الاعتِبار والادِّكار: ما كان يُذكِّرُ به نبيُّنا-صلى الله عليه وآله وسلم-أصحابَه حين يشتدُّ الحرُّ أو يشتدُّ البردُ؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-أن النبي-صلى الله عليه وآله وسلم-قال: "قالتِ النارُ: ربِّ: أكلَ بعضِي بعضًا فائذَن لي أتنفَّس، فأذِنَ لها بنفَسَيْن: نفسٍ في الشتاء، ونفسٍ في الصيف"، قال-صلى الله عليه وآله وسلم: "فما وجدتُم من بردٍ أو زمهَريرٍ من نفَس جهنَّم، وما وجدتُم من حرٍّ أو حرورٍ من نفَس جهنَّم"، فشدَّةُ بردِ الدنيا-رحمكم الله-يُذكِّرُ بزمهَرير جهنَّم، مما يُوجِبُ الخوفَ والحذرَ والاستِعدادَ، يقول-عزَّ شأنُه-في نعيمِ أهلِ الجنةِ: [مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا]، قال قتادةُ: "علِمَ اللهُ أنَّ شدَّةَ الحرِّ تُؤذِي، وشدَّة البردِ تُؤذِي، فوقاهُم الله أذاهُما جميعًا، فيدفعُهم هذا إلى النَّصَب والتهجُّد؛ فكلُّ ما في الدنيا يُذكِّرُهم بالآخرة"، وقال في أهل النار: [هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ]، وقال -عزَّ شأنُه-: [لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا*إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا]، والحميمُ: شدَّةُ الحرِّ، والغسَّاقُ: شدَّةُ البَردِ، أعاذَنا الله وإياكم من ذلك كلِّه، وبعدُ-رحمكم الله-: فقد جعلَ الله لكم من دُنياكم عِبَرًا، ومن تقلُّباتِ دهرِكم عِظاتٍ وفِكَرًا، فلا يكادُ يمرُّ بالعبد آيةٌ أو يُقابِلُه موقِفٌ إلا وفيه مناسبةٌ لمُحاسَبَة النفسِ، وفرصةٌ للمُبادَرةِ للطاعةِ، واستِعدادٌ ليومِ الحِساب.
يا عبد الله: الليلُ في الشِّتاءِ طويلٌ، فلا تُقصِّرُه بمنامِك. وأبوابُ الخير واسِعةٌ، فخفِّف من آثامِك، بكَى مُعاذٌ-رضي الله عنه- عند موتِه، وقال: "إنما أبكِي على ظمأِ الهواجِرِ، وقيامِ ليلِ الشِّتاءِ، ومُزاحَمَةِ العُلماءِ بالرُّكَبِ عند حِلَقِ الذِّكرِ"، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: [لإِيلافِ قُرَيْشٍ*إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ*فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ].
أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين...

الخطبة الثانية

أما بعد: فيا أيها المسلمون: اذكُروا ما أنعمَ الله به على أهل هذا الزمان من ألوانِ النَّعيمِ، وصُنُوفِ المُسخَّراتِ، من المُخترَعاتِ والمُكتشَفَاتِ، من وَثيرِ اللِّباسِ واللِّحافِ، ووسائلِ التدفِئَةِ في المساكِن والمراكِب والأسواقِ، وأصنافِ المآكِلِ والمشارِبِ؛ ففي شتائِكم من مظاهِر نِعَم الله وفضلِه وتيسيرِه وتسخِيرِه ما ليس فيمن سبقَكم، وإن من التفكُّرِ والتذكُّرِ ومواطِنِ الاعتِبار، والمُسابَقَةِ إلى الخيرات: ما تستذكِرونَه من الشِّدائدِ على إخوانٍ لكم قريبين وبَعيدين، تزدادُ عليهم الكُلفَة بسببِ الحاجة: أكلاً وشُربًا، ولِباسًا، ومسكنًا، وتدفِئَة، إذا جلستُم جلساتٍ أُسريَّة، ومُسامَراتٍ أَخويَّة، من مطاعِمِكم ودِفئِكم وحُسن مجالِسِكم-أدامَ الله عليكم نِعَمَه وأمنَه-، فتذكَّروا أُسرًا ترتعِدُ فرائِصُهم، هنا وهناك، مزَّقَ البردُ أوصالَهم، وأسالَت الرِّياحُ دموعَهم، وجمَّد الصَّقيعُ جلودَهم، شيوخًا وأطفالا ونساءً، ذاقُوا الحُزنَ الأليم، كيف وقد اجتمَعَ عليهم فقدُ الأهلِ والوطنِ، وعدمُ المأوَى والكِساء؟! ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-؛ فالمُسلمون جسدٌ واحدٌ في تكافُلِهم وسدِّ حاجاتهم، فأمِدُّوهم بما أفاءَ الله به عليكم وأفاضَ من فُضولِ أموالِكم ومتاعِكم وأثاثِكم، تفقَّدُوا الأرامِلَ والمساكِين والمحتاجين من حولِكم؛ فمن كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجَته، ومن فرَّج عن مُسلمٍ كُربةً فرَّج الله عنه كُربةً من كُرَب يوم القيامة.

[/align]

المرفقات

الشتاء آداب وأحكام-20-2-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc

الشتاء آداب وأحكام-20-2-1436هـ-صالح بن حميد-الملتقى-بتصرف.doc

المشاهدات 2884 | التعليقات 0