السياحة والسفر

عبدالله اليابس
1440/11/15 - 2019/07/18 16:39PM

السياحة                                   الجمعة 15/11/1440هـ

الحمدلله أعزنا بالتوحيد والسنة, وأنعم علينا بالكتاب والحكمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله بالدعوة إلى التوحيد، والنِذارة عن الشرك فدعا إلى الله وحده، وجاهد المشركين بيده ولسانه؛ حتى أقام الله به الدين ، وقمع به المشركين ، فصلوات ربي وسلامه عليه صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم الدين.

أما بعد ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. فمنذ دخول الإجازة الصيفية وكثير من الناس يحزمون حقائبهم وأمتعتهم رغبة في السفر هنا أو هناك, سعيًا في طاعة, أو ترويحًا عن النفس, وتنفيسًا عن الأهل بعد عام دراسي حافل بالبذل والعطاء, ينتشر المسافرون شرقًا وغربًا في أرض الله الواسعة, ولكل مسافر قصة وحكاية.

كأي مهمة من مهام الحياة, وكأي مشروع من مشاريع البشر فإن السفر قد يوصم بالنجاح والفشل, ولا شك أن لكل مشروع ناجح رؤية سابقة, وتخطيط سليم, وتحضير وإعداد.

 يقول الله سبحانه وتعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} قال القرطبي رحمه الله تعالى: قوله تعالى{فامشوا في مناكبها} هو أمر إباحة, وفيه إظهار الامتنان, وقيل هو خبر بلفظ الأمر, أي: لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها, وآكامها وجبالها) قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا*** وَسافِر فَفي الأَسفار خَمسُ فَوائِدِ

تَفَرُّيجُ هَمٍ وَاِكتِسـابُ مَعيشَـةٍ ****وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِـدِ

نعم لا شك أن للأسفار فوائد .. كما أن لها معايب .. وقد عارض أبيات الشافعي السابقة القاضي الطرطوسي رحمه الله فقال:

تخلف عن الأسفار إن كنت طالبا *** نجاة ففي الأسفار سبع عوائق

تنكُّر إخوان وفقد أحبة *** وتشتيت أموال وخيفة سارق

وكثرة إيحاش ٍ وقلة مؤنس *** وأعظمها يا صاح سكنى الفنادق

السفر من متع الدنيا .. قال المأمون: لا شيء ألذ من السفر في كفاية وعافية, لأنك تحل كل يوم في محلة لم تحل فيها, وتعاشر قومًا لم تعرفهم.

وما هي إلا بلدة مثل بلدتي *** خيارهما ما كان عونًا على دهري

الحركة ولود, والسكون عاقر, وقال حكيم: إنما سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.

أيها الإخوة.. إذا كان للسفر هذه الأهمية التي رأيتم فبين يديكم بعض الوصايا في سفركم سائلاً الله للجميع الهداية والتوفيق:

الوصية الأولى: تذكر أخي أن ربك في بلدك هو ربك في سائر البلدان, وأن الله تعالى مطلع عليك لا تخفى عليه خافية, إن سافرت لبلد فتذكر أن الله مطلع عليك, عالم بسرك ونجواك, وأن من استهان بنظر الله تعالى إليه كان مستحقًا للعقوبة, حُكيَ أن معلمًا أعطى لكل واحد من طلابه الثلاثة دجاجة, وقال لهم ليذبحها كل منكم في مكان لا يطلع عليه أحد, فلما جاء من الغد سأل الأول فأجاب بأنه ذبحها في غابة ملتفة الأشجار, وقال الآخر وأنا ذبحتها في غار, أما الثالث فسكت قليلاً ثم قال: يا أستاذ كلما تخبأت مخبأً تذكرت أن الله تعالى مطلع عليَّ .. فأين المفر من الله؟

روى ابن ماجه وغيره بإسناد صحيح عن ثوبان رضي الله تعالى عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء ، فيجعلها الله هباء منثورا . قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا ، جلهم لنا ، أن لا نكون منهم و نحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم ، و من جلدتكم ، و يأخذون من الليل كما تأخذون، و لكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).

إن الإنسان إذا سافر ليعصي الله جل وعلا فإن الإثم لا يتوقف فقط على المعاصي التي يقارفها في سفره, لا .. بل إن سفره كله معصية يأثم عليها, حتى لقد قال بعض أهل العلم في المسافر سفر المعصية أنه لا يترخص برخص السفر من جمع وقصر وفطر عقوبة له على ذلك.

ألا فمن كان قد عزم على سفر ليعصي ربه جل وعلا فيه, فليتقي الله تبارك وتعالى, فإن الله تعالى يمهل ولا يهمل, وما يدريك لعل الله تعالى يقبض روحك في سفرك فتموتَ وأنت عاصٍ, وتبعثَ على ما مِتَّ عليه.

الوصية الثانية: احرص كل الحرص أن لا ينقضي عليك هذا الصيف إلا وقد زرت فيه تلك البقاع الطاهرة في مكة المكرمة, وأديت فريضة الحج أو العمرة لله عز وجل, فمن نعم الله تعالى علينا في هذه البلاد أن جعل بيته الحرام قريبًا منا, والوصول له سهل ميسور, فلا ركوب للبحر ولا انتظار تأشيرة أو قرعة, ولا خوفًا من وعورة الطريق أو أمنه, روى الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تابعوا بين الحج و العمرة ، فإنهما ينفيان الفقر و الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد) صححه الألباني.

الوصية الثالثة: إذا سافرت لخارج المملكة فتذكر أنك سفير لبلدك, وسفير لدينك.. خطؤك يوصم به كافة أهل هذه البلاد, وصوابك وإحسانك يوصفون به أيضًا, أنت عود من حزمة أفراد هذا الدين وهذه البلاد, فارسم الصورة الحسنة, واقتد بأخلاق الإسلام, ولا تغادر مكانًا إلا وقد وضعت فيه بذرة خير, ترجو أن تلقى بها الله تعالى يوم القيامة وقد أثمرت حسنات أمثال الجبال, ولا تحقرن من المعروف شيئًا.

الوصية الرابعة: تأكد من كافة تجهيزاتك قبل سفرك, تأكد من سلامة تجهيزات مركبتك من زيوت وإطارات ومكابح, تأكد من سلامة أوراقك الثبوتية وبطاقاتك البنكية وتواريخها ومدى صلاحيتها من عدمه, فإن الاستعداد المبكر يجنبك كثيرًا من المتاعب التي تواجهك أثناء رحلتك, ويختصر عليك كثيرًا من الأوقات التي قد تقضيها في إصلاح إطار, أو مراجعة الدوائر الحكومية والبنوك ومراكز الصيانة.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالقُرآَنِ العَظِيمِ, وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ, قَدْ قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تعظيما لشأنه وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخِلَّانه ومن سار على نهجه واقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. أما الوصية الخامسة للمسافرين: لتكن المسافر الداعية.. أَمَرَ الله تعالى عباده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} ووصف الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بأنهم يأمرون بالمعروف {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}, لا تَخلُ حقيبتُك من كتب ومواد دعوية, اجعلها زادك الإيماني في الرحلة, واجعلها من الطاعات التي تتقرب بها إلى الله تعالى في سفرتك هذه, واجعل هذه الرحلة مختلفة عن غيرها من الرحلات بِلَذَّة الدعوة التي تتخللها, لا يُشترط في الداعية أن يكون نقياً من المعاصي, ولا يشترط فيه أيضًا أن يلبس لبسًا معينًا أو يتزيا بزي معين.. لا.. بل يكفي أن يتعلم آية ليُعَلِّمَها, (بلغوا عني ولو آية), حتى لو كنتَ مقصرًا ومذنبًا وليس ظاهرُكَ الصلاحُ كما يقال فإن ذلك لا يمنع من أن تكون داعيًا إلى دين الله تبارك وتعالى, خير الناس أنفعهم للناس, ومن أعظم المنفعة الدلالة على دين الله, كن أنت وأبناؤك وزوجتُك دعاة في رحلتكم الأخيرة, وتذوق حلاوة الدعوة.

الوصية السادسة: لا تكن أنانيًا ..نعم.. لا تكن أنانيًا تسافر وتستمتع ولا تجعلُ لأهلك نصيبًا من ذلك, يقول النبي صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي), وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه ليأخذ إحداهن معه في سفره, قال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مظعون كما في الحديث الصحيح: (إن لأهلك عليك حقًا), أهلك لهم أحاسيس ومشاعر, ونفوسهم لا شك تنكسر إذا عدت من سفرك وبدأت بسرد القصص والحكايات التي قابلتها في سفرك أو أريتهم الصور والذكريات التي التقطتها في رحلتك, تنكسر نفوسهم ويتمنون أن يذهبوا وينفسوا عن أنفسهم فلا تبخل عليهم, واجعل لهم نصيبًا وجزءً, وتعبد الله تعالى بذلك, فإن الله أكرم الأكرمين.

أيها الإخوة .. يتمنى الإنسان السفر, فإذا سافر وانقطع أيامًا حنَّ إلى وطنه مع أن وطنه قد يكون أقل جمالاً من البلد التي سافر إليها, اعتَلَّ سابورُ ذو الأكتاف وكان أسيرًا ببلاد الروم, فقالت له بنت الملك: ما تشتهي؟ قال: شربةٌ من ماء دجلة, وشمة من تراب اصطخر, فأتته بعد أيام بشربة من ماء وقبضة من تراب, وقالت له: هذا من ماء دجلة وهذه من تربة أرضك, فشرب واشتم بالوهم فنفعه من علته:

بلاد ألفناها على كل حالة ***وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن

ونَستعذب الأرض التي لا هوا بها ***ولا ماؤها عذب ولكنها وطن

إذا كان هذا حال الإنسان مع وطنه, فإن لنا وطنًا قد فارقناه ولم نره, ونسأل الله العودة إليه, إنها الجنة: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة}.. نعم الجنة دارنا الأولى ..

وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ***ولم يك فيها منزل لك يُعلم

فحي على جنات عدن فإنها ***منازلنا الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى  *** وشطت به أوطانه فهو مغرم

وأيُّ اغتراب فوق غربتنا التي *** لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّمُ

 فاللهم إنا نسألك منازل الأبرار في أعالي الجنان, ونسألك الفردوس الأعلى من الجنة يا رب العالمين.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

15-11-1440

15-11-1440

المشاهدات 781 | التعليقات 0