السودان وجزاء الإحسان
هلال الهاجري
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمْنْ يَضْلُلُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدُهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) .. أَمَّا بَعْدُ:
لَمَّا اشتدَّ الأَذى عَلى أَصحَابِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَمَ فِي مَكةَ، وبَلَغوا غَايةَ البَلاءِ، خُصوصاً الفُقراءُ والضُّعفَاءُ، أَشفَقَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسلَّمَ عَليهِم، فَقَالَ لَهم: (لَو خَرَجتُم إلى أَرضِ الحَبشةِ؛ فَإنِّ بهم مَلِكًا لا يُظلُمُ عِندَه أحدٌ، وَهيِ أَرضُ صِدقٍ، حَتَى يَجعلَ اللهُ لَكم فَرَجًا مِمَا أَنتُم فِيهِ)، فَخَرجَ المُسلمونَ إلى أَرضِ الحَبَشةِ مَخافةَ الفِتنةِ، وفِرارًا إلى اللهِ بِدينِهم، فَكَانَتْ أَولَ هِجرةٍ في الإسلامِ، فَأَرسلَتْ قُريشٌ وَفدَاً إلى النَّجاشي بِالهَدايا لأجلِ أن يُسَلِّمَ لَهم هَؤلاءِ الذينَ لَجأوا إلى بِلادِهِ، فأرسل النَّجاشيُّ إلى المُسلمينَ، فَحَضروا، وَكَانوا قَدْ أَجمعوا عَلى الصِّدقِ، فَقَرأَ عَليهِ جَعفرُ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ صَدراً مِن سُورةِ مَريمَ، فَبَكَى النَّجاشيُّ حتَّى اخْضَلَّتْ لِحيتُه، وبَكَتْ أَساقِفتُه حتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُم حِينَ سَمِعوا الآياتِ، وقَالَ النَّجاشيُّ: إنَّ هَذا والذي جَاءَ بِهِ عِيسى لَيَخرجُ مِنْ مِشكاةٍ وَاحدةٍ، انطَلِقَا، فَلا واللهِ لا أُسلِمُهُم إليكُما، وَقَالَ للمُسلمينَ: اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بِأَرضي -أَي: آمِنونَ بِلسَانِ الحَبشةِ- مَنْ سَبَّكم غَرِم، مَنْ سَبَّكم غَرِم، مَنْ سَبَّكم غَرِم، فَمَكَثوا فِي بِلادِهِ بِأمنٍ وأَمانٍ بِضعَ عَشرةَ سَنةٍ، ولم يَرجِعوا إلى المَدينةِ إلا بَعدَ غَزوةِ خَيبرَ.
فَسَجَّلَ التَّاريخُ هَذا الجَميلَ الذي قَدَّمَتهُ أفريقيا لأهلِ الجَزيرةِ العربيةِ وللإسلامِ والمُسلمينَ، ولا يَزالُ دَيْنٌ في أعناقِنا على مَرِّ الدُّهورِ والسِّنينَ، نَتَذكَّرُه في كَلِّ حَاجةٍ تَمرُّ بإخوانِنا في البِلادِ الإفريقيةِ، فَتَمتدُّ اليَدُ طَاعةً وقُربةً ونَجدةً وحَميَّةً، فَأهلُ الوفاءِ لا يَنسَونَ مَعَ تَعاقبِ النَّهارِ واللَّيلِ، وَلا خَيرَ فيمنْ أنكرَ المَعروفَ والجَميلَ.
ومن يُسدِ مَعروفاً إليكَ فَكُنْ لَهُ *** شَكُورًا يَكُنْ مَعروفُهُ غَيرَ ضَائعِ
وَلا تَبخَلَنَّ بِالشُّكرِ وَالقَرْضَ فَاجزِهِ *** تَكُنْ خَيرَ مَصنُوعٍ إِليهِ وَصَانعِ
أيُّها الأحبَّةُ، إنَّ مَا نراهُ اليَومَ في بِلادِ السُّودانِ، مِن تَقَاتلِ الأهلِ والأصحَابِ والإخوانِ، لَشيءٌ يَجعلُ الحَليمَ حَيراناً، ولا يَجدْ لَهُ العَاقلُ سَبَباً ولا بُرهاناً، فَكَيفَ يَكونُ هذا في بِلادِ الطِّيبةِ والسَّماحَةِ؟، وَمن هَذا الذي يُريدُ أنْ يُفسِدَ عَلى أهلِهِ أفَراحَه؟، فَبَعدَ سِنينٍ مِن الحَصارِ والعُزلةِ الاقتصاديَّةِ، مَرَّتْ البِلادُ بِمُظاهراتٍ وَأَزماتٍ سِياسيةٍ، وهَا هيَ اليومَ في فوضى واضطراباتٍ أمنيَّةٍ، فَمنْ هو الرَّابحُ والخَاسرُ في هَذهِ الحُروبِ الأهليَّةِ؟.
الخَاسرُ في هَذهِ الحَربُ هو المُواطنُ السُّودانيُّ مِن رِجالٍ وأطفالٍ ونِساءٍ، والخَاسرُ فِيها كُلُّ حَبيبٍ لِهَذهِ البِلادِ مِن أقَاربَ وأصدِقاءٍ، والخَاسرُ فِيها هِيَ الأمَّةُ الإسلاميةُ التي كَانتْ تَنتظرُ للسُّودانِ السَّلامَ والصَّفاءَ، والخَاسرُ فيها هو المُنتَصرُ مِنْ كِلا الفَريقينِ على الأحِبَّةِ والأشقاءِ، والرَّابحُ فيها هُم الأعداءُ والأعداءُ والأعداءُ.
فَلو دَرى القَـومُ بِالسُّودانِ أَينَ هُمُ ** مِنَ الشُّعوبِ قَضَوْا حُزنًا وإشفَاقا
جَهلٌ وفَقـرٌ وأَحـزابٌ تَعـيثُ بِهِ ** هَدَّتْ قُوى الصَّبرِ إرعَادًا وإبراقَا
إنًّ الـَّتحـزُّبَ سُمٌّ فَـاجعـلوا أَبدًا ** يَـا قَـومُ مِـنكُـم لِهـذا السُّمِّ تِرْيـاقا
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من جميعِ الذنوبِ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنَّ ربي لغفورٌ رَحيمٌ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ له وَليُ الصالحينَ، وأَشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه إمامُ المتقينَ، صَلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه ومن اهتدى بهديه إلى يومِ الدينِ، أَما بعدُ:
فَيَنبَغي أن نَسألَ أنفُسَنا: مَاذا يُرادُ اليَومَ بِالإسلامِ والمُسلمينَ؟، ولِماذا هَذِه الغَفلةُ عَنْ مَكرِ الكَائدينَ؟، فَكُلما أوشَكَ السَّلامُ والصَّفاءُ أن يَسودَ فِي بِلادٍ، جَاءَ مَن يَزرعَ الفِتنَةَ والتَّحريشَ بينَ العِبادِ، فَاينَ العُقلاءُ؟.
لِي فِيكَ يَا لَيْلُ آهَاتٍ أُرَدِّدُهَا *** أَوَّاهُ لَوْ أَجْدَتِ الْمَحْزُونَ أَوَّاهُ
إِنِّي تَذَكَّرْتُ وَالذِّكْرَى مُؤَرِّقَةٌ *** مَجْدًا تَلِيدًا بِأَيْدِينَا أَضَعْنَاهُ
أَنَّى اتَّجَهْتَ إِلَى الإِسْلاَمِ في بَلَدٍ *** تَجِدْهُ كَالطَّيْرِ مَقْصُوصًا جَنَاحَاهُ
كَمْ صَرَّفَتْنَا يَدٌ كُنَّا نُصَرِّفُهَا *** وَبَاتَ يَحْكُمُنَا شَعْبٌ مَلَكْنَاهُ
اِسْتَرْشَدَ الْغَرْبُ بِالْمَاضِي فَأَرْشَدَهُ *** وَنَحْنُ كَانَ لَنَا مَاضٍ نَسِينَاهُ
أيُّها الأحبَّةُ، لا زَالتْ هَذهِ البِلادُ هي اليَدُ الحانيةُ على إخوانِها، تُعينُهم في الأزَماتِ، وتُواسيهم في النَّكباتِ، وتُغيثُهم في الكُرُباتِ، وتَمسحُ الدَّمعاتِ، تَفعلُ ذلكَ بِواجبِ الدِّينِ والعُروبةِ والإنسانِ، وتَتمنى أن تَرى العَالمَ في سَلامٍ وَمَودةٍ وأمانٍ، واليَومَ إخوانُكم يَحتَاجونَ المُساعدةَ في السُّودانِ، فَهلْ جَزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانُ.
اللهمَّ إنَّا نستَودعُكَ السُّودانَ وأَهلَهُ، اللهمَّ احفظْ بِلادَهم مِنْ شَرِّ الأَشرارِ، وكَيدِ الفُّجَّارِ، وَشَرِّ طَوارقِ اللَّيلِ والنَّهارِ، اللهمَّ احفظ بِلادَهم مِنْ عَبَثِ العَابثينَ، وكَيدِ الكَائدينَ، وعُدوانِ المُعتدينَ، اللهمَّ احقِنْ دِماءَهم، وألِّفْ بينَ قُلوبِهم، وأصلحْ ذَاتَ بينِهم، واهدِهم سُبلَ السَّلامِ، اللهمَّ مَنْ أَرادَ بِلادَهم وبِلادَنا وبِلادَ المُسلمينَ بِسوءٍ فَأشغلهُ فِي نَفسِهِ، وَرُدَّ كَيدَهُ في نَحرِهِ، واجعلْ تَدبيرَه تَدميراً عَليهِ، يَا سَميعَ الدُّعاءِ، اللهمَّ آمنَ المُسلمينَ في أَوطَانِهم، وأَصلحْ أئمَتَهم ووُلاةَ أُمورِهم، اللهمَّ اجعلْ لَهُم ولَنا وللمُسلمينَ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخرجَاً، ومِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجَاً، ومِنْ كُلِّ بَلاءٍ عَافيةً، ومِنْ كُلِّ عُسرٍ يُسراً، ومِنْ كُل دَاءٍ شَفاءً يَا رَبَّ العَالمينَ، يَا مُجيبَ الدُّعاءِ.
المرفقات
1683775611_السودان وجزاء الإحسان.docx
1683775620_السودان وجزاء الإحسان.pdf