السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع
Sheikh Sayed2019
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ...الحمد لله العزيز الغفار مكور الليل والنهار تبصرة لذوي العقول وتذكرة لأولي البصار، فقال تعالي {يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار(44)} (النور).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير ...قص علينا قصص السابقين للعبرة والعظة، فقال تعالي {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} (يوسف:111).
وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله عليه وسلم كان صمته فكرا ونطقه ذكرا ونظره عبرة .
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..
فإن الناظر إلى الأحداث الجسيمة والنوازل العظيمة التي أحاطت اليوم بالعالم عامة وبالأمة الإسلامية خاصة لا يستغرب حدوثها ولا يفاجأ بها حينما يرجع إلى كتاب ربه وينطلق من توجيهاته في ضوء سنن الله تعالي التي لا تتبدل ولا تتغير ولا تحابي فردا على حساب فرد، ولا مجتمعا على حساب مجتمع آخر .
وما أصاب الأمة الإسلامية اليوم من غثائية فأصبحت كالقصعة المستباحة إلا بسبب جهل أبنائها بالسنن الإلهية التي تحكم حياة الأفراد والأمم والشعوب، وفق المنهج الذي قرره العليم الخبير: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك]. فالذي يطلب الأسباب ليخرج من ظلمات هذا التيه على غير بصيرة لا يزيد إلا بعدا، ولن يفهم التاريخ، فيعرف عوامل البناء والأمن والاستقرار والبقاء
والتمكين، وعوامل الهدم والخوف والتدمير و الاستبدال إلا بمعرفة سنن الله عز وجل.
وما أحوجنا في أزمنة الأحداث الجسام إلى أن نذكر أنفسنا ونذكر الناس بسنن الله تعالي ؛ فالأحداث الكبرى قد تطيش فيها عقول، وتذهل فيها أفئدة، وقد تزل فيها أقدام أقوام، وتضل أفهام آخرين، والهداية من عند الله، قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[البقرة].
فهي بمثابة طوق النجاة من ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج العبد يده لم يكد يراها.
لأنه إذا أصيبت الأمة في فهمها للإسلام فلا بد من الإنحراف في تطبيقه علي أرض الواقع فكان لابد من دراسة السنن الإلهية دراسة تأصيلية ، وذلك للتعرف علي هذه الأهداف التالية ....
1ـ أن يعرف الدارس ما المقصود بالسنن الإلهية.
2ـ أن يتعرف علي طبيعة السنن الإلهية.
3ـ أن يتعرف الدارس علي الآيات القرانية التي ذكرت السنن الإلهية.
4ـ أن يعرف السنن الربانية في السنة المطهرة .
5ـ أن يتعرف علي أسباب جهل الناس بالسنن الإلهية .
6ـ أن يتعرف الدارس علي بعض مظاهر السنن الإلهية.
7ـ أن يتعرف الدارس علي أهمية معرفة السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع.
8ـ أن يتعرف الدارس علي فقه المسلم في التعامل مع السنن الإلهية.
9ـ الخاتمة .
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يفهمنا ويعلمنا ويرزقنا الصدق في القول والإخلاص في العمل لإنه ولي ذلك والقادر عليه .
الهدف الأول : أن يعرف الدارس ما المقصود بالسنن الإلهية :ـ
المقصود بالسنن الإلهية :ـ
فهي عبارة عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها الحق سبحانه لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ، وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط وعوامل النهوض الحضاري. فلله في الأفراد سنن، وفي الأمم سنن، وفي المسلمين سنن، وفي الكافرين سنن.
فينبغي إذنْ معرفتها وتدبرها واستيعابها والاستفادة منها، لقوله تعالى:{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}[النساء[ .
وقال تعالي }سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53){ ]فصلت[
الهدف الثاني : أن يتعرف علي طبيعة السنن الإلهية:ـ
للسنن الإلهية طبيعة لا تنفك عنها وهي:ـ
أ ـ الثبات:
السنن الإلهية تعمل مجتمعه ولا تتخلف أو تتبدل، يخضع لها البشر في تصرفاتهم وأفعالهم وسلوكهم في الحياة، ويترتب على ذلك من نتائج كالنصر أو الهزيمة، والسعادة أو الشقاوة، والعز أو الذل، والرقي أو التخلف، والقوة أو الضعف، وفق مقادير ثابتة لا تقبل التخلف ولا تتعرض للتبديل:}فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43){فاطر.
ب ـ العموم:ـ
أي أنها تشمل كل البشر والخلائق دون استثناء وبلا محاباة} لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا(124){ النساء.
فالسنن الإلهية في الحياة البشرية دقيقة كل الدقة، صارمة منتظمة أشد الانتظام، لا تحيد ولا تميل، ولا تحابي ولا تجامل، ولا تتأثر بالأماني وإنما بالأعمال، وهي في دقتها وانتظامها وجديتها كالسنن الكونية سواء بسواء.
فهي حاكمة على جميع الأفراد، والأمم والمجتمعات، فإذا وقفنا عند قانون من قوانين الله تعالى كقانون النصر نعلم أن له ضوابط ومعالم تنسحب على الجميع دون مجاملة ولا محاباة.
والناظر في حياة الرسول وسيرته يجد هذا المعنى واضحًا، فعندما أخذ الصحابة سنة الله في النصر مثلا آتى النصر لهم أُكُله وأعطى ثمره، وعندما خالفوا أمر الرسول صلي الله عليه وسلم في غزوة أحد ، لم تنخرم لهم السنة ولم تتبدل ؛ بل حكمت عليهم وفيهم أعظم خَلْق الله صلى الله عليه وسلم . قال تعالي } أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165){ آل عمران.
فإن السنن لا تحيد ولا تميل مع الأماني، وإنما تتأثر بالأعمال الجيدة والجهود المنظمة والمخططات المحكمة؛ للوصول إلى النتائج المحددة المطلوبة.
ج ـ التكرار:ـ
تتكرر السنن الإلهية أينما وجدت الظروف المناسبة مكانا وزمانا وأشخاصا وأفكاراَ قال تعالي } قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138){آل عمران.
"جاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سنته في الحرب مثلا ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا، ومن تنكبها خسر وإن كان مسلما.
إن سنن الله تعالى أو القوانين التي يخضع لها الكون ثابتة وشاملة لا تتغير مهما تغيّر الزمان والمكان:} فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) 43){[فاطر].
ولقد نجم هذا الثبات وذلك الشمول عن أمرين:
الأول: استبعاد عنصر المصادفة تماماً، إذ لا يمكن للمصادفة أن تثبت نظاماً أو تجعله شاملاً.
الثاني: أن الثبات والاطِّراد والشمول جعل قيام العلم أمراً ممكناً، إذ لو تغيّر نظام الوجود وخصائص الأشياء من مكان إلى آخر أو من زمان إلى آخر لما قامت حقائق علمية، ولما كان هناك تقدّم وحضارة.
ولـمّا كــان دور العلــم أن يبصّرنا بآيات الخـالق جلّ عُلاه في الكون وبنظامه الرائع البديع، كان اطِّراد هذا النظام وسيلة إلى اكتشاف السنن الاجتماعية والتاريخية وقوانين المادة التابعة الصارمة التي لا تعرف التغيير والتبديل، مما يساعد الإنسان على معرفتها ثم التكيّف معها وتوظيفها في عمارة الأرض وبناء الحضارة.
الهدف الثالث : أن يتعرف الدارس علي الآيات القرانية التي ذكرت السنن الإلهية:ـ
وردت لفظة سنة الله أوسنتنا في القرآن الكريم في مواضع، قال تعالى:
1ـ } لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا(60) مَلْعُونِينَ ۖ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) {[الأحزاب]
2- ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ۖ سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ۖ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85) ﴾[غافر].
3- ﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا(23) ﴾[الفتح].
4- ﴿ مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ ۖ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ۚ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) ﴾[الأحزاب].
5- ﴿ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) ﴾[فاطر[
6- ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) ﴾ [الإسراء].
كما وردت لفظة سنت الأولين التي هي سنة الله فيهم في مواضع أخرى..
لقد أضافها الله عز وجل إلى نفسه تارة ( سُنَّةَ اللهِ ) وأضافها إلى القوم تارة أخرى(سُنَّةُ الأوَّلِينَ ) لتعلق الأمر بالجانبين، وهو كلفظ الأجل، تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى القوم، قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾. وقال: ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ﴾.
1- ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) ﴾[الأنفال]
2- ﴿ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ(12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) ﴾ [الحجر].
3- ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) ﴾ [الكهف]
كما وردت لفظة سنن مفردة غير مضافة في موضع واحد:
1- ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) ﴾ [آل عمران]
والآيات من كتاب الله عز وجل في ذكر مثل هذه السنن كثيرة جداً غير محصورة فيما ذكرنا بلفظ السنن بل ورود المعنى متضافر الذكر في القرآن وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء مع أقوامهم ومن ذلك ما ورد في القرآن من ذكر (أَيَّام اللّهِ).
قال تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) ﴾إبراهيم.
وأيام الله: "وقائع الله في الأمم السالفة، والأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية".
• (أَيَّام اللّهِ) التي تفسر سنن الله ليست ماضية فقط، بل هي حاضرة أيضا ومستقبلة؛ فكما جرت بشأن السنن أيام ووقائع في الماضي الغائب عنا؛ فهي تجري في الحاضر المحيط بنا والمستقبل البعيد منا..
ومما ورد في معنى الاعتبار بالسنن أمر الله بالسير في الأرض للاعتبار بمن سبق.
والأمر بالسير في الأرض والدعوة إليه ورد في القرآن الكريم في مواضع عدة منها: قوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) ﴾ الحج.
وقوله تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)﴾ الروم.
وقول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) ﴾[النحل]
تطابق الواقع مع ما قرره القرآن من سنن إلهية:
ولما كان الكفار لا يؤمنون بكتاب ربنا بل لا يؤمنون بكثير من الغيب جعل الله لسننه شواهد مادية باقية، فنحن نشاهد آثار قرى عاد و ثمود، وكيف أهلكهم الله تعالى، وبقيت معالمهم ومصانعهم عبرة حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه غشيانها وإتيانها، إلا أن يكونوا باكين معتبرين، يعرفون ما هذه السنة التي جرت على هؤلاء فيتجنبونها.
وكذلك جثة فرعون مصر التي تطوف العالم اليوم ليحق فيه قوله تعالى ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾[يونس].
والتاريخ يصدق هذه السنن التي جاءت في النصوص الشرعية، ولم تكن السنن لتجري على الكفار دون المؤمنين فانظر على سبيل المثال ما حل بالمسلمين في أواخر الدولة الإسلامية في الأندلس؟!
كيف غير المسلمون حالهم فغير الله عز وجل حالهم؟! ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾.وهذه سنة الله في الأمم.
الهدف الرابع : أن يعرف السنن الربانية في السنة المطهرة:ـ
الناظر في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قولا وعملا وهي الجانب التفصيلي للقرآن الكريم يجد كيف كان صلوات الله وسلامه عليه يحسن التعامل مع سنن الله في كونه وقوانينه في عباده، فما من معركة إلا والرسول يتعامل مع الأسباب؛ يجعل مقدمة ومؤخرة وميمنة وميسرة وقائدا، ثم يقبل على الله تعالى ملحًّا في دعائه مبتهلا في رجائه، فهذا نوع من إدراك سنن النصر التي تعتمد على أسباب مادية وأسباب معنوية، وهذا الأخذ بالأسباب في حد ذاته سنة من سنن الله تعالى في الكون.
وفي مجال التربية: حين يربي الرسول أصحابه على قيمة من القيم تلمح استصحاب هذا الإدراك القوي للسنن التي بثها الله تعالى في خلقه، فحديثه عن اتباع سنن مَنْ قبلنا من الوضوح بمكان، وإرشاده لمن يستجديه من الناس إلى سنة الله في الرزق واضحة عندما يأمره بأن يذهب فيشتري قدوما ويحتطب.
فعن أنس رضي الله عنه ( أنَّ رجلاً من الأنصار أتى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم - يسأله فقال صلَّى الله عليه وسلَّم (أَمَا في بيتك شيء؟)، قال الرَّجل: بلى، حِلْسٌ[كساء يلبس، ويفرش على الأرض، ويجلس عليه.] نلبس بعضَه، ونبسط بعضه، وقَعْبٌ[الإناء] نشربُ فيه من الماء، قال صلَّى الله عليه وسلَّم (ائتني بهما) ، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بيده، وقال: (مَن يشتري هذين؟)، فقال رجل: أنا آخذهما بدِرهم، قال صلَّى الله عليه وسلَّم (مَن يَزيد على درهم؟) مرَّتين أو ثلاثًا، قال رجل: أنا آخذهما بدِرهمين، فأعطاهما إيَّاه وأخذ الدِّرهمين، وأعطاهما الأنصاريَّ، وقال: (اشترِ بأحدهما طعامًا، فانبذه إلى أهلك، واشترِ بالآخرِ قَدُومًا فأتِني به) فأتاه به، فشدَّ فيه رسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم عودًا بيده، ثم قال له: (اذهبْ فاحتطب وبِعْ، ولا أرينَّك خمسةَ عشرَ يومًا) ،
فذهَبَ الرجل يحتطبُ ويبيع، فجاء وقد أصاب عَشرةَ دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا، وببعضها طعامًا، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (هذا خيرٌ لك مِن أن تجيءَ
المسألةُ نُكتةً في وجهك يومَ القيامة؛ إنَّ المسألة لا تصلح إلاَّ لثلاثة: لذي فَقر مُدقِع، أو لذي غُرْم مُفظِع، أو لذي دمٍ مُوجِع) رواه أبو داود برقم ، واللفظ له، ، وابن ماجه ، والنسائي ، وأحمد
وتصويره للمجتمع الذي يتعاون على البر والتقوى، والذي يتعاون على الإثم والعدوان بمجتمع في سفينة في حديثه الشريف ،عن النعمان بن بشيررضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم(مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا ) رواه البخاري.
تصوير دقيق لسنن الله تعالى في الأجسام والمجتمعات، فإذا كانت السفينة يحكمها قانون الطفو فإن المجتمع يحكمه قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن أروع ما يدل على حرص الرسول على تعلم أصحابه وأمته إدراك السنن الإلهية قوله لزياد بن لبيد: بعد أن ذكر شيئا وقال وذلك عند ذهاب العلم، قلنا: يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرؤه أبناءنا، وأبناؤنا يقرءونه أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: ثكلتك أمك يا ابن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء﴾ (رواه احمد ).
وهذا الحديث الشريف يوضح إرشاد الرسول لأصحابه إلى أمر السنن التي تعم الجميع وتمضي بلا استثناء، وفي هذا إجابة عن السؤال الحائر على شفاه المسلمين كيف يكونون مسلمين وتظل أحوالهم بهذا التخلف والتأخر والجمود؟ وقد صاغ شوقي ذلك في قوله:
وقل يا رسول الله يا خير مرسل أبثك ما تدري من الحسرات
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات؟!!
فليس المراد من قوله صلي الله عليه وسلم: «وذلك عند ذهاب العلم» ارتفاع المعارف والثقافة من الكتب والرؤوس؛ بل ارتفاع الارتباط بينها وبين السنن الكونية وإحسان التعامل بهذا العلم مع تلك السنن.
والصحابة الكرام بدورهم كانوا على علم ووعي بهذه السنن، ومن أبرز الذين ظهرت في حياتهم وأقوالهم هذه السنن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال
عنه ابن مسعود عندما مات: «مات تسعة أعشار العلم، فقيل له: أتقول ذلك وفينا جلة الصحابة؟! فقال: لم أرد علم الفتيا والأحكام، إنما أريد العلم بالله تعالى﴾ .
وفي علم الصحابة بعلم السنن الإلهية يقول صاحب المنار: (وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها.
يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب الغربية منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب و غيرها بما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى، ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسبب سبقهم للأمم التي استولوا عليها.
الهدف الخامس: أن يتعرف علي أسباب جهل الناس بالسنن الإلهية:ـ
1- الغفلة عن تدبر سنن الله:
الغفلة التي وقع فيها كثير من الناس بسبب هجر القرآن تلاوة وفهما وتدبرا وعملا يجعل الإنسان يغفل عن هذه السنن، بل إن من الناس من يعتبر الحديث عن السنن نوعاً من التهويل والمبالغة، ولقد وجهنا القرآن الكريم إلي تدبر معانية بأخذ العبرة من السابقين فقال تعالي أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44){.فاطر.
"والتوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين، وآثار الذاهبين، وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها فلا تقف، وإذا وقفت لا تحس، وإذا أحست لا تعتبر، وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة، وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية.
وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم، الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات لا رابط لها، ولا قاعدة تحكمها.
وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم وكانوا أشد منهم قوة فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم، أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى ؛ القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ﴾..
ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض أسانيدها: ﴿إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً﴾ ..
يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض وتقوم قدرته إلى جانب علمه، فلا
يند عن علمه شيء، ولا يقف لقدرته شيء. ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض. ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه".
2- قصر النظر واستعجال النتائج:ـ
"والسبب الثاني الذي يجعل كثيراً من الناس يجهلون هذه السنن، هو أن السنة أثرها بعيد، والفارق والفاصل بين السبب والنتيجة طويل قد لا يدركه الإنسان في عمره
المحدود، إنما يدركه الذين ينظرون إلى مساحة واسعة، وربما امتدت المسافة بين السبب وبين النتيجة مثلاً بين الظلم الذي يقع وبين عقوبته، وربما امتدت المسافة إلى عمر جيل بأكمله، فربما حصد جيل ثمرة لم يكن هو الذي غرسها، وربما غرس جيل آخر شجرة، يقطف ثمرتها غيره.
الهدف السادس : أن يتعرف الدارس علي بعض مظاهر السنن الإلهية:ـ
معنى التدافع :
جاء في لسان العرب : الدفع الإزالة بقوة . يقال دفعه يدفعه دفعاً ودفاعاً ، ودافع عنه بمعنى دفع . ونقول : دفع الله عنك المكروه دفعاً ودفاعاً ، ودافع الله عنك السوء دفاعاً . وتدافع القوم : دفع بعضهم بعضاً .
والمدافعة : المزاحمة . والاندفاع المضي في الأمر .
وفي القرآن الكريم : (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)) البقرة .
وقال تعالي } وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40){ الحج.
المقصود بالحق والباطل والتدافع بينهما :
نريد بالحق ما هو ثابت وصحيح وواجب فعله أو بقاؤه من اعتقاد أو قول أو فعل بحكم الشرع . ونريد بالباطل نقيض الحق أي ما لا ثبات له ولا اعتبار ولا يوصف بالصحة ويستوجب الترك ولا يستحق البقاء ، بل يستوجب القلع والإزالة وكل ذلك بحكم الشرع .
وعلى هذا فالحق يشمل كل ما أمر الله به ، والباطل يشمل كل ما نهى عنه .
ونريد (بالتدافع بين الحق والباطل) تنحية أحدهما للآخر أو إزالته ومحوه بالقوة عند الاقتضاء .
التدافع بين الحق والباطل تدافع بين أصحابهما :
والتدافع بين الحق والباطل في حقيقته تدافع بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل أي بين المؤمنين وبين غيرهم ، لأنهم هم الذين يحملون معاني الحق أو معاني الباطل ويسعون إلى إظهار هذه المعاني في الخارج وإقامة شؤون الحياة على أساسها فيحصل التعارض والتزاحم والتدافع بين الفريقين بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل أي بين المؤمنين وبين غيرهم .
حتمية التدافع بين الحق والباطل :
والتدافع بين الحق والباطل أي بين أصحابهما أمرٌ لا بدَّ منه وحتمي لأنهما ضدان ، والضدان لا يجتمعان ، ولأن تطبيق أحدهما يستلزم مزاحمة الآخر وطرده ودفعه وإزالته ، أو في الأقل إضعافه ومنعه من أن يكون له تأثير في واقع الحياة .
فلا يُتصوَّر إذن أن يعيش الحق والباطل في سلم من دون غلبة أحدهما على الآخر إلا لعلة كضعف أصحابهما أو جهلهم بمعاني الحق والباطل ومقتضيات ولوازم هذه المعاني أو ضعف تأثير هذه المعاني فيهم .
ـ للباطل قوة تطغيه :
إن كلمة (تدافع) تعني في اللغة الإزالة بقوة ، فتدافع الحق والباطل أي تدافع أصحابهما يكون بقوة حيث يسعى كل من أهل الحق والباطل إلى تنحية الآخر عن مكانه ومركزه والغلبة عليه .
فأهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله وإزالة هذا الحق بالقوة وصد الناس عنه ببذل المال وبالقتال وبكل ما يرون فيه قوة وقدرة لتحقيق ما يريدون .
وهذا هو شأن الباطل وقوته ، تطغيه هذه القوة فتدفعه إلى إزالة الحق وأهله ولو بالقوة .
ولا بد أن أهل الحق وإن تركوا الباطل فإن الباطل لن يتركهم أبدا:
وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى: { وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(217) { [البقرة].
وقد ورد عن الإمام الشافعي قوله: والله الذي لا إله إلا هو لو أن الحق ترك الباطل ما ترك الباطل الحق أبدا.
ويؤكده قول الله تعالى في قصة قوم لوط عليه السلام, الذي لم يتجاوز النصح والإرشاد لقومه, كما قال تعالي{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)} [النمل [.
وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ)الأنفال .
وقتال الكفرة للمؤمنين قتال لنصرة باطلهم فهو في سبيل الطاغوت ،
قال تعالى(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)) النساء
ـ لا بدّ للحق من قوة تحميه :
وإذا كان الأمر كما ذكرنا من شأن الباطل وقوته التي تطغيه وأهله فلا بدّ للحق من قوة تحميه من طغيان الباطل وأهله ، وتمكِّن أهل الحق من محق الباطل والغلبة على أهله .
ولهذا أمر الله تعالى أهل الحق بإعداد القوة لإرهاب أهل الباطل ومنعهم من التحرش بأهل الحق ، قال تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60))الأنفال .
وأمر الله تعالى أهل الحق بالجهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس وبكل ما يمكن الجهاد به لمحق الباطل وأهله لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى .
والآيات في الجهاد بأنواعه ومنه القتال ، آيات كثيرة منها : (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41))التوبة.
وقال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216))البقرة.
وقال تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)) الأنفال .
يقول صاحب الظلال رحمه الله:'إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده مهما عظمت وشقت أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت!
إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق!
- إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته؛ فهذه الإنسانية لا توجد والإنسان عبد للإنسان؛ وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان؟! وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه؟! وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله
ورغباته وشهواته؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان؟!
طبيعة التدافع بين الحق والباطل:ـ
الصراع بين الحق والباطل قديم منذ أن خلق الله الإنسان, قال عز وجل:{ يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ( 117 ){ ( طه).
ومنذ تلك اللحظة ابتلى الإنسان بكيد الشيطان, وصراعه معه, ومازال الشيطان يكيد لآدم حتى أهبط لهذه الدنيا, وهنا انتقل ميدان الصراع إلى هذه الأرض , يقول الله عز وجل }بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ...(36) { ]البقرة [.
وبعد بعثة الرسل عليهم السلام صارت الخصومة بين الرسل وأتباعهم, وبين أعداء الرسل من الشياطين وأتباعهم, ولذلك يقول الله تعالى:} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ )31){(الفرقان) .
فما من نبي يبعث إلا ويتصدى له أعداء من المجرمين, يضعون العراقيل في طريقه ويعترضون عليه بمختلف الوسائل, يقول الله جل وعلا} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( 113) {( الأنعام) .
وبعد بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم انحصرت الخصومة بين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه , فالنبي صلى الله عليه وسلم كان له أعداء كثيرون من المجرمين,ومن الأكابر،قال تعالي} وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 ) { (الأنعام).
وقال تعالي{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا(56)} (الكهف)
ولوتتبعنا سير الأنبياء عليهم السلام لوجدنا سبب الصدود والاضطهاد من أقوامهم كان سببه العقيدة الإسلامية وليس المنصب والجاه.
كما قال الله تعالي عن العداء من قوم لوط عليه السلام} وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ(82){[ الأعراف]
وقالوا لشعيب عليه السلام} قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ(88){ الأعراف
و قول ائمة الكفر لأئمة الحق}وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13){[ ابراهيم]
وقال تعالي عن أصحاب الأخدود } قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ(6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9){ البروج.
وقال تعالى}وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي
جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120){ [البقرة]
والسبب فى ذلك ما بينه ربنا بقوله تعالى}لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا(82){ [المائدة]
وقال تعالى}وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ. (109){ ] البقرة].
من السنن الإلهية ... الغلبة في هذا التدافع للحق وأهله :ــ
سنّة الله في نصر المؤمنين لا تتخلف :
إن سنّة الله تعالى في نصر المؤمنين لا تتخلف أبداً لأنها إخبار من الله تعالى والله أصدق القائلين .
وأذكر فيما يلي بعض النصوص من القرآن الكريم الدّلة على ذلك .
أ ـ قال تعالى : (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً {22} سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)الفتح .
قال القرطبي في قوله تعالى : (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ) يعني طريقة الله وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه . وقال ابن كثير في تفسيرها : أي هذه سنّة الله تعالى وعادته في خلقه : ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل إلا نصر الله الإيمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل كما فعل الله تعالى يوم بدر.
ب ـ قال تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)) الأنعام.
وجاء في تفسيرها : (وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ) أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين كما قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) .
ج ـ قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) . وجاء في تفسير الزمخشري في هذه الآيات : الكلمة : قوله تعالى : (إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) والمراد الوعد بعلوهم على عدوهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا وعلوهم عليهم في الآخرة .
د ـ قال تعالى:(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21))المجادلة. وجاء في تفسيرها : أي قد حكم الله وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يُمانع ولا يُبدل بأن النصر له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة.
هـ ـ وقال تعالي{إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَـقُومُ الأَشْهَادُ (51)}[ غافر] .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية :(وهذه سنّة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقرّ أعينهم ممن آذاهم .
وقال السدّي لم يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا .
قال السدي : فكانت الأنبياء والمؤمنين يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها ) .
ومعنى ذلك أن المؤمنين وهم أهل الحق هم المنصورون وإن قتلهم أهل الباطل وانتصروا عليهم في الظاهر إلا أن العاقبة والغلبة للمؤمنين ولو بعد حين ، حيث يأتي من يعاقب المبطلين ويقتلهم جزاء ما فعلوه بأهل الحق ، وهذا علامة على اندحار أهل الباطل وغلبة أهل الحق عليهم .
و ـ ولقد وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين فقال تعالي{وَكَانَ حَقاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ(47)}[سورة الروم.
وجاء في تفسيرها : فيها مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم ، وإشعار بأن الانتقام لأجلهم .
وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة .
ولقد حكي الله تعالي ما حدث في بدر رغم عدم التكافؤ بين الفريقين ومع ذلك كان النصر حليف الفئة المؤمنة ذات العدة والعدد القليل ، فقال سبحانه وتعالي : {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} (آل عمران).
يقول الإمام الحافظ ابن كثير: إن في ذلك لَمُعْتَبَرًا لمن له بصيرة وفَهْم، يهتدي به إلى حكم الله وأفعاله، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
وفي قصة نبي الله موسى عليه السلام مع فرعون خير مثال على انتصار الحق في النهاية, رغم مظاهر انتصار الباطل في البداية, قال تعالى: { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (122)} الأعراف.
وقال تعالي{...وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَـلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً(141)}[ النساء] .
وقد وعد الله تعالي بأن لا يخلي الأرض من عباده المجاهدين المتمسكين بالحق, إن ذهب جيل قيض الله جيلا آخريدافع عن الحق كما قال النبي صلي الله عليه وسلم (لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ
المرفقات
1668808936_السنن الإلهية وأثرها في فهم الواقع.pdf