السَّمَاحَةُ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ

مبارك العشوان 1
1444/08/02 - 2023/02/22 15:45PM

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

عِبَادَ اللهِ: السَّمَاحَةُ عَمَلٌ جَلِيلٌ، وَخُلُقٌ كَرِيمٌ، اِتَّصَفَ بِهِ صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ بِالحَثِّ عَلَيْهِ فِي التَّعَامُلَاتِ الكَثِيْرَةِ وَاليَومِيَّةِ بِيْنَ النَّاسِ.

وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا يُحِبُّ مَنْ يَتَّصِفُ بِهَذَا الخُلُقِ؛ يُحِبُّ مَنْ طَبْعُهُ التَّيْسِيْرُ عَلَى النَّاسِ، وَاللِّيْنُ مَعَهُمْ، وَالعَفْوُ وَالصَّفْحُ وَالتَّنَازُلُ عَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِهَا، لَا يَتَعَدَّى عَلَى حَقٍ لِغَيْرِهِ، وَلَا يُمَاطِلُ أَوْ يَتَوَانَى فِي حَقٍ عَلَيْهِ. 

وَصَاحِبُ هَذَا الخُلُقِ مَحْبُوبٌ كَذَلِكَ لِلعِبَادِ مُحْتَرَمٌ بَيْنَهُمْ.

وَالضَّدُّ مِنْ ذَلِكَ: الْأَلَدُّ الخَصِمُ يُبْغِضُهُ اللهُ تَعَالَى، وَيُبْغِضُهُ عِبَادُ اللهِ، وَيُجَانِبُونَ مُعَامَلَتَهُ، يَعْتَدِي عَلَى حُقُوقِ غَيْرِهِ، وَيَجْحَدُ أَوْ يُمَاطِلُ فِي حُقُوقِ النَّاسِ عَلَيهِ، وَإِنْ كَانَ الحَقُّ لَهُ لَمْ يُحْسِنْ فِي أَخْذِهِ، بَلْ كَانَ صَعبًا مُعَسِّرًا، لَا يَجِدُ مَنْ يُعَامِلُهُ فُرْجَةً وَلَا تَنْفِيْسًا.

 يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفَسَّرَهُ البُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الدَّائِمُ الخُصُومَةِ، أَرَادَ أَنَّ خُصُومَتَهُ لَا تَنْقَطِعُ .

عِبَادَ اللهِ: وَلِلسَّمَاحَةِ وَاليُسْرِ صُوَرٌ كَثِيْرَةٌ وَأَبْوَابٌ عَدِيدَةٌ، وَحَدِيثُ اليَومِ عَنْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاحَةِ، جَاءَ الحَثُّ عَلَيهِ وَالدُّعَاءُ بِالرَّحْمَةِ لِلْمُتَّصِفِ بِهِ؛ فِي قَــــولِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.

وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ البَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ القَضَاءِ ) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ.

وَتَزْدَادُ أَهَمِّيَّةُ الحَدِيثِ عَنِ السَّمَاحَةِ فِي التَّعَامُلَاتِ المَالِيَّةِ عِنْدَمَا تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ المُشَاحَّةُ، وَتَشْدُّ الخُصُومَاتُ؛ في البَيْعِ، وَالشِّرَاء، وَالقَضَاءِ، وَالاقْتِضَاءِ، وَالشَّرَاكَةِ، وَالإِيْجَارِ وَنَحْوِ ذلكَ.

عِبَادَ اللهِ: مِنْ صُوَرِ السَّمَاحَةِ وَاليُسْرِ فِي المُعَامَلَات المَالِيَّةِ: إِسْقَاطُ المَالِ عَنِ المُعْسِرِ وَإِبْرَاءُ ذِمَّتِهِ. 

اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ رضي الله عنهما، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: ( رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ فَقَالَ مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ مَا عَمِلْتُ مِنْ الْخَيْرِ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ، فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ، فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ  وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمَعْسُورِ، فَقَالَ تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي ) قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ .  

وَمِنْ صُوَرِ السَّمَاحَةِ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ: إِنْظَارُ المُعْسِرِ وَإِمْهَالُهُ إِلَى أَنْ يَجِدَ سَدَادًا، قَالَ تَعَالَى: { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة 280

وَيَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ… ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَمِنْ صُوَرِ السَّمَاحَةِ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ: رَدُّ القَرْضِ بِأَحْسَنَ مِنْهُ؛ إِحْسَانًا مِنَ المُقْتَرِضِ لَا شَرْطًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ؛ فَفِي البُخَارِيِّ: ( أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَاضَاهُ بَعِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطُوهُ؛ فَقَالُوا مَا نَجِدُ إِلَّا سِنًّا أَفْضَلَ مِنْ سِنِّهِ، فَقَالَ الرَّجُلُ أَوْفَيْتَنِي أَوْفَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ أَحْسَنَهُمْ قَضَاءً ).

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيْهِ مِنَ الْآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

 

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مِنْ صُوَرِ السَّمَاحَةِ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ: حُسْنُ التَّعَامُلِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَالتَّسَامُحُ وَالتَّرَاضِي وَتَجَنُّبُ النِّزَاعِ، وَحُبُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيْكَيْنِ لِشَرِيْكِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مَعَ الصِّدْقِ وَالوُضُوحِ.

وَمِنْ صُوَرِ السَّمَاحَةِ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ: أَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِى شَخْصٌ شَيئًا ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى شِرَائِهِ، أَوْ يَبِيْعُ شَيْئًا ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى بَيْعِهِ؛ أَوْ يَسْـتَأْجِرُ أَوْ يُؤَجِّرُ ثُمَّ يَنْدَمُ؛ فَيَطْلُبُ مِنَ الطَّرَفِ الآخَرِ المُسَامَحَةَ وَفَسْخَ العَقْدِ؛ فَمِنَ الإِحْسَانِ وَالسَّمَاحَةِ أَنْ يَقْبَلَ الطَّرَفُ الآخَرُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الإِحْسَانِ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيْلِ الإِلْزَامِ؛ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالإِقَالَةِ، وَلَهَا فَضْلٌ عَظِيْمٌ جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ.

عِبَادَ اللهِ: جَدِيْرُ بِنَا أَنْ نُجَاهِدَ أنفسنا وَنَحْمِلَهَا عَلَى هَذَا الخُلُقِ الكَرِيْمِ؛ وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا بِالعَفْوِ وَاليُسْرِ وَالسَّمَاحَةِ فِيْمَا بَيْنَهُمْ لَقُضِيَ عَلَى كَثِيْرٍ مِنَ الدَّعَاوَى وَالمُشَاجَرَاتِ، وَلَزَالَ مَا بَيْنَ كَثِيْرٍ مِنَ الأَقَارِبِ مِنَ القَطِيْعَةِ، وَلَتَحَابُّوا وَتَرَاحَمُوا، لَوْ تَخَلَّقَ المُجْتَمَعُ بِهَذَا الخُلُقِ وَرُبِّيَ عَلَيْهِ الصِّغَارُ لَصَلُحُ حَالُ المُجْتَمَعِ وَحَصَّلوا الخَيْرَ العَمِيْمَ، وَلَكَمْ حُرِمَ النَّاسُ مِنَ الخَيْر بِسَبَبِ التَّشَاجُرِ وَالتَّشَاحُنِ.

عِبَادَ اللهِ: ثُمَّ لْتَحْذَرُوا رَحمَكُمُ اللهُ مِنْ شُبْهَةٍ يُلْقِيْهَا الشَّيْطَانُ وَأَعْوَانُهُ مِنَ الإِنْسِ بِأَنَّ التَّسَامُحَ ضَعْفٌ، وَأَنَّ المُتَسَامِحَ عَاجِزٌ عَنْ أَخْذِ حَقِّهِ، فَلَمْ يَجِدْ بُدًا مِنَ العَفْوِ وَالتَّنَازُلِ عَنْ حُقُوقِهِ أَوْ بَعْضِهَا، فَلْتَحْذَرُوا هَذِهِ، فَمَا هُدِمَ هَذَا الخُلُقُ الكَرِيْمُ بِمِثْلِهَا، وَمَنْ يَنْظُرُ سِيْرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتْقَى النَّاسِ وَأَكْرَمِهِمْ وَأَشْجَعِهِمْ، وَسِيْرَةَ صَحْبِهِ الكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ العَفْوِ وَالتَّسَامُحِ، يَتَبَيَّنُ لَهُ غَايَةَ البَيَانِ بُطْلَانَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }الفتح 29 وَقَالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ…} المائدة 54 

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }الأحزاب 56

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.

عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

المشاهدات 1024 | التعليقات 0