السلطان سليمان القانوني
هلال الهاجري
1436/05/27 - 2015/03/18 12:21PM
الحَمْدُ للهِ الوَلِيِّ الحَمِيدِ، العَلِيمِ المَجِيدِ؛ (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، نَحْمَدُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى سَابِغِ عَطَائِهِ، فَلَهُ الحَمْدُ لاَ نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ قَسَمَ بَيْنَ عِبَادِهِ أَخْلاَقَهُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ، فَكَمَا أَنَّ فِيهِمْ غَنِيًّا وَفَقِيرًا فَإِنَّ فِيهِمْ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، وَبَرًّا وَفَاجِرًا، وَطَائِعًا وَعَاصِيًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَهِدَايَةً لِلنَّاسِ أَجْمَعِينَ؛ فَهَدَى اللهُ تَعَالَى بِهِ مَنْ كُتِبَتْ سَعَادَتُهُمْ، وَضَلَّ عَنْهُ مَنْ كُتِبَتْ شِقْوَتُهُمْ، فَمَنِ اتَّبَعَهُ فَلَنْ يَضِلَّ وَلَنْ يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنهُ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَيُحْشُرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ:
فِي سَنَةِ ١٩٢٣ لِلمِيلَادِ، وَهِيَ سَنَةُ سُقُوطِ الخِلَافَةِ العُثْمَانِيَّةِ، قَرَّرَتْ أَوْرُوبَا النَّصْرَانيَّةُ أَنْ تُقِيمَ حَفْلَ اِنْتِصَارِهَا المُبِينِ عَلَى الإِسْلَامِ والخِلَافَةِ بِطَرِيقَةٍ جَدِيدَةٍ وَمُوجِعَةٍ، حَيْثُ عُقِدَتْ مُسَابَقَةٌ لِاِخْتِيَارِ مَلِكَةِ جَمَالِ أَوْرُوبَا فِي عَاصِمَةِ الخِلَافَةِ أَنْقَرَةَ وَكَانَ مِنْ ضِمْنِ المُتَسَابِقَاتِ فَتَاةٌ تُرْكِيَّةٌ وَذَلِكَ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي تَارِيخِ البِلَادِ، وَتَقَدَّمَتْ الفَتَاةُ التُّرْكِيَّةُ، وَاِسْمُهَا "كَرِيمَان خَالِص" مُمَثِّلَةٍ لِتُرْكِيَا العَلْمَانِيَّةِ –فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ- وَقَدْ اِسْتَعْرَضَتْ مَفَاتِنَها بِلِبَاسِ البَحْرِ عَلَى خَشَبَةِ المَسْرَحِ.
عِنْدَهَا قَالَ رَئِيسُ لَجْنَةِ التَّحْكِيمِ فِي المُسَابَقَةِ وَقْتَهَا كَلِمَاتٍ تَقْطُرُ بِالتَّشَفِّي وَالشَّمَاتَةِ وَتَكْشِفُ عَنْ كَمْ الكَرَاهِيَّةِ الدِّينِيَّةِ المُتَجَذِّرَةِ فِي نُفُوسِ الأُورُوبِّيِّينَ تُجَاهَ دَوْلَةِ الخِلَافَةِ العُثْمَانِيَّةِ، إِذْ قَالَ مُعَلِّقًا: (أَيُّهَا السَّادَةُ، أَعْضَاءُ اللَّجْنَةِ، إِنَّ أَوْرُوبَا كُلَّهَا تُحْتَفَلُ اليَوْمَ بِاِنْتِصَارِ النَّصْرَانِيَّةِ .. لَقَدْ اِنْتَهَى الإِسْلَامُ الَّذِي ظَلَّ يُسَيْطِرُ عَلَى العَالَمِ مُنْذُ أَلْفٍ وأَرْبَعْمائةِ سَنَةٍ، إِنَّ "كَرِيمَان خَالِص" مَلَكَةَ جَمَالِ تُرْكِيا تُمَثِّلُ أَمَامَنَا المَرْأَةَ المُسْلِمَةَ، فَهَا هِيَ "كرِيمَان خَالِص" حَفِيدَةُ المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ المُحَافِظَةِ تَخْرُجُ الآنَ أَمَامَنَا "بالمايوه"، وَلَابُدَّ لِنَا مِنْ الاِعْتِرَافِ أَنَّ هَذِهِ الفَتَاةَ هِيَ تَاجُ اِنْتِصَارِنَا.
ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّارِيخِ اِنْزَعَجَ السُّلْطَانُ العُثْمَانِيُّ "سُلَيْمَانُ القَانُونِي" مِنْ فَنِّ الرَّقْصِ الَّذِي ظَهَرَ فِي فَرَنْسَا، عِنْدَمَا جَاوَرَتْ الدَّوْلَةُ العُثْمَانِيَّةُ حُدُودَ فَرَنْسَا، فَتَدَّخَلَ لِإِيقَافِهِ خَشْيَةَ أَنَّ يَسْرَيَ فِي بِلَادِهِ، وهَا هِيَ حَفِيدَةُ السُّلْطَانِ المُسْلِمِ، تَقِفُ بَيْنَنَا، وَلَا تَرْتَدِي غَيْرَ "المايوه"، وَتَطْلُبُ مِنَّا أَنْ نُعْجِبَ بِهَا، وَنَحْنُ نُعْلِنُ لَهَا بِالتَّالِي: (إِنَّنَا أُعْجِبْنَا بِهَا مَعَ كُلِّ تَمَنِّيَاتِنَا بِأَنْ يُكَونَ مُسْتَقْبَلُ الفَتَيَاتِ المُسْلِمَاتِ يَسِيرُ حَسَبَ مَا نُرِيدُ، فَلِتُرْفَعْ الأَقْدَاحُ تَكْرِيمًا لِاِنْتِصَارِ أَوْرُوبَا). انتهى كلامُه
أيُّها المُسلمونَ ..
لنْ أتكلمَ عن حِقدِ الصَّليبيِّينَ وكراهيَتِهم للإسلامِ والمُسلمينَ .. فهو واضحٌ في كتابِ اللهِ تعالى .. فهم بينَ قِتالِنا ما كُنَّا مُتمسكينَ بالدِّينِ: (وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) .. وبينَ الرِّضا عنَّا إن دخلْنا في دينِهم: (وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) .. وهذا يعرفُه من قرأَ التَّاريخَ وفَقِهَ الواقعَ .. ولكنَّني سأتكلمُ عن سُليمانَ القَانوني الذي وردَ اسمُه في كلماتِ هذا الحاقدِ .. فمن هو سُليمانُ القَانُونِي هذا الذي نُقِشَتْ صُورَتُهُ عَلَى أَحَدِ جُدْرَانِ مَجْلِسِ النُّوَّابِ الأَمْرِيكِيِّ؟، ولماذا قَالَ المُؤَرِّخُ الأَلْمَانِيُّ هَالمَر: (كَانَ هَذَا السُّلْطَانُ أَشَدَّ خَطَرًا عَلَيْنَا مِنْ صَلَاحِ الدِّينِ نَفْسِهُ)؟.
كانَ الخليفةُ العُثمانيُّ سُليمانُ القانوني ممنْ شوَّه الغربُ الكافرُ وأتباعُهم سيرتَه .. وهذا ظاهرٌ في الافتراءِ عليه وتشويهِ صورتِه في ذلك المُسلسلِ المُحرَّفِ (حريمِ السُّلطانِ) .. كما شوَّهوا سيرةَ غيرِه من خلفاءِ المُسلمينَ .. ولكن هي محاولاتٌ مُستميتةٌ لطمسِ تاريخِ المُسلمينَ المُشرِّفِ .. ولإخفاءِ شَخصياتِ المسلمينَ العظيمةِ .. حتى لا يجدَ أبناؤنا قُدواتٍ في تاريخِهم .. فيبحثونَ عن سَفَّاحيِ الغربِ ومُجرميِّ الشَّرقِ ليتَّخِذُوهم قُدُواتٍ.
فإليكم يا عبادَ اللهِ شيئاً يسيراً من سيرتِه العَجيبةِ:
وُلدَ السَّلطانُ سُليمانُ الأولِ بنُ السُّلطانِ سَليمٍ الأولِ بن با يزيد بن مُحَمَّدٍ الفَاتِحِ عامَ تسعمائةٍ للهجرةِ .. وتولَّى الخِلافةَ وهو ابنُ ستٍ وعُشرونَ سَنةٍ .. فأَقَامَ السُّنَّةَ وَأَعْلَى مَنَارَها، وَقَمَعَ البِدْعَةَ وَأَهْلَهَا، وَقَضَى عَلَى الرَّوافِضِ، وَأحْيَا المِلَّةَ وَنَشْرَ العَدْلَ فِي رُبُوعِ الدَّوْلَةِ الإِسْلَامِيَّةِ، واسْتَبْشَرَ النَّاسُ خَيْرًا بِعَهْدِهِ .. وَكَانَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ يَسْتَفْتِحُ رَسَائِلَهُ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، تَيَمَّنَا بِنبيِّ اللهُ سُليمانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
جَلَبَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ العُلَماءَ الرَّبانيِّينَ، وَجَلَسَ مَعَهُمْ وَوَضَعَ قَوَانِينَ إِدَارِيَّةً مُسْتَمَدَّةً مِنْ الشَّرِيعَةِ الإِسْلَامِيَّةِ .. وَكَانَ مِنْ أَهَمِّ أَعْمَالِ السُّلْطَانِ سُلَيْمَانَ الإِدَارِيَّةِ أَنَّهُ وَضَعَ قَانُونَ الدَّوْلَةِ العُثْمَانِيَّةِ المُسَمِّى (قَانُونَ سُلَيْمَانَ نامه) -أَيْ قَانُونُ السُّلْطَانِ سُلَيْمَانَ- وَكَانَ الذى شَارَكَهُ فِي وَضْعِ تِلْكَ القَوَانِينِ مِنْ القُرْآنِ وَالسَّنَةِ هُوَ العَالِمُ الجَلِيلُ أَبُو السُّعودِ أَفَنْدِي المُفسِّرُ الكَبِيرُ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ العَظِيمِ.
وعِنْدَمَا جَلَسَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ القَانُونِي عَلَى كُرْسِي الخِلافةِ، كَانَ أَوَّلُ مَا فَعَلَهُ هُوَ إِرْسَالُ رِسَالَةٍ إِلَى مُلُوكِ أَوْرُوبَا يُعْلِمُهُم بِتَوَلِّيهِ الخِلافةِ وَيَأْمُرُهُمْ بِدَفْعِ الجِزيةِ المُقَرَّرَةِ عَلَيْهُمْ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي عَهْدَ أَبِيه السُّلْطَانِ سَلِيمٍ الأَوَّلِ.. فَاِسْتَهَانَ مَلِكُ المَجَرِ بِالسُّلْطَانِ سُلَيْمَانَ لِصِغَرِ سِنِّه فَرَفضَ دَفْعَ الجِزيةِ وَقَتَلَ رَسُولَ السُّلْطَانِ.
فَاسْتَشَاطَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ غَضَبًا، وَقَالَ: أَيُقَتَلُ سَفِيرُ دَوْلَةِ الإِسْلَامِ؟ .. أَيُهَدِّدُنِي مَلِكُ المَجَرِ؟ .. فَمَا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ إِلَّا وَقَد أَعَدَّ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ جَيْشًا جَرَّاراً مَدْعُومًا بِالسُّفُنِ الحَرْبِيَّةِ، وَكَانَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ بِنَفْسِهُ عَلَى رَأْسِ هَذَا الجَيْشِ، وَكَانَ قَاصِدًا مَدِينَةَ بِلجَرَادَ المَنيعةَ وَالتِي تُعَدُّ بَوَّابَةَ أَوْرُوبَا الوُسْطَى وَحُصُنَ المَسِيحِيَّةِ كَمَا كَانُوا يُطْلِقُونَ عَلَيْهَا.
وَلَكُمْ أَنْ تَعْلَمُوا أنَّ جدَّه مُحَمَّداً الفَاتِحَ رَحِمَهُ اللهُ حَاوَلَ أَنْ يَفْتَحَ بِلجَرَادَ وَلَكِنَّهُ فَشَلَ، بَلْ وَأُصِيبَ إِصَابَاتٍ خَطِيرَةٍ أَثْنَاءَ حِصَارِهَا... وَلَمَّا اِنْصَرَفَ عَنْهَا قَالَ: (عسى أنْ يُخْرجَ اللهُ مِنْ أَحْفَادِي مَنْ تُفْتَحُ تِلْكَ المَدِينَةُ عَلَى يَدَيْهِ).
تُوَجَّهُ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ القَانُونِي عَلَى رَأسِ جَيشٍ عَرَمْرمٍ، وَمُزَوَدٌ بِأعَتى المدَافِعِ وَالأَسْلِحَةَ، يَمُدُّهُمْ ثَلاثةُ آلَافِ جَمَلٍ مُحَمَّلٍ بِالأَسْلِحَةِ وَثلاثينَ أَلْفَ جَمَلٍ مُحَمَّلٍ بِالمُهِمَّاتِ وَسُفُنٌ تَحْمِلُ الخُيُولَ وَخمسينَ سَفِينَةٍ حَرْبِيَّةٍ وَمِئَاتٌ مِنْ المَدَافِعِ العِمْلَاقَةِ الفَتَّاكَةِ التي كَانَتْ فَخْرَ الجُيُوشِ الإِسْلَامِيَّةِ .. وبدَأَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ فِي حِصَارِ قَلْعَةِ بِلجَرَادَ، وَبَعْدَ شَهْرَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ الحِصَارِ تَسْقُطُ قَلْعَةُ بِلجَرَادَ، فَدَخَلَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ القَانُونِي المَدِينَةَ يَوْمَ ٢٦ رَمَضَانِ ٩٢٧ه .. وَأَمَرَ السُّلْطَانُ أَنْ يُرْفَعَ الآذَانُ مِن القَلْعَةِ .. وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُوداً.
فَوَقَعْتْ هَيْبَتُه فِي قُلُوبِ مُلُوكِ أَوْرُوبَا قَاطِبَةً، وَبَعَثَ إِلَيْهِ مَلِكُ رُوسِيا وَالبُنْدُقِيَّةِ وَسَائِرُ مُلُوكِ أَوْرُوبَا يُهَنِّئُونَهُ بِالفَتْحِ وَيُعْطُونَهُ الجِزيةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ .. وَظَلَّ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ القَانُونِي فِي بِلجَرَادَ حَتَّى عِيدِ الفِطْرِ وَأَقَامَ صَلَاةَ العِيدِ فِي أَكْبَرِ كَنَائِسِهَا بَعْدَ تَحْوِيلِهِ إِلَى مَسْجِدٍ.
ثُمَّ تَحَرَّكَ رَحِمَهُ اللهُ إلى وِجْهَتِهِ المَجَرِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى نَهْرِ الدَّانُوبِ، وَأَمَرَ بتَشَييدِ جِسْرٍ يَعْبُرُ عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ، وَتَمَّ تَشْيِيدُ الجِسْرِ فِي مُدَّةٍ زَمَنِيَّةٍ قَلِيلَةٍ، وَظَلَّ عُبُورُ الجَيْشِ الإِسْلَامِيِّ عَلَيْهِ لِمُدَّةِ أرْبَعَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ أَمَرَ السُّلْطَانُ بِرَفْعِ الجِسْرِ فَرُفِعَ، فَبَقِيَ المُسْلِمُونَ فِي بِلَادِ الكُفَّارِ، وَذَلِكَ لِشَجَاعَتِهِ وَقُوَّةِ عَزِيمَتِهِ، وَقَطْعِ أَطْماعِ العَسْكَرِ مِن الفِرَارِ إِلَى بِلَادِهِمْ.
وَفِي أَثْنَاءِ مَسيرِ السُّلْطَانِ سُلَيْمَانَ اِفْتَتَحَ عِدَّةَ قِلَاعٍ تَقَعُ عَلَى نَهْرِ الدَّانُوبِ وَلَهَا أَهَمِّيَّةٌ حَرْبِيَّةٌ كَبِيرَةٌ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى وَادِي مُوهَاكِس فِي ٢٠ ذِي القَعْدَةِ عامَ ٩٣٢ ه .. (ويُوجَدُ مَثَلٌ شَعْبِيٌ فِي المَجَرِ، يَقُولُونَ: أَسْوَأُ مِنْ هَزِيمَتِنَا بمُوهَاكِس).
بَاتَ السُّلْطَانُ وَالجُنُودُ لَيْلَتَهُمْ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ، وَتَضَرَّعَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَسَأَلَهُ النَّصْرَ، وَكَانَ يَمُرُّ بَيْنَ صُفُوفِ الجُنْدِ فَيَخْطُبُ فِيهُمْ عَنْ الجِهَادِ وَعَنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، وَبَعْدَمَا صَلَّى السُّلْطَانُ صَلَاةَ الفَجْرِ دَخْلَ بَينَ الجُنُودِ وَحَمَّسَهُمْ.
وأَمَّا عَلَى الجَانِبِ الآخَرِ، فعِنْدَمَا عَلِمَ مَلِكُ المَجَرِ لويسُ الثَّانِي بِقُدُومِ المُسْلِمِينَ إِلَيْهِ، أَعَدَّ جَيْشًا جَرَّارًا وَاِسْتَعَانَ بمُلُوكِ أَوْرُوبَا فَأَمَدَّتْهُ أَلْمَانِيَا بثَمانيَّةٍ وثَلاثينَ أَلْفًا مِنْ خِيرَةِ الفُرْسَانِ لَدَيْهَا، فَوَصَلَ عَدَدُ جُيُوشِ الكُفَّارِ إِلَى مائتي أَلْفِ مُقَاتِلٍ .. وَبَاتَ الكُفَّارُ لَيْلَتَهُمْ فِي سَهْلِ مُوهاكِس وَمَعَهُمْ القَسَاوِسةُ وَالرُّهْبَانُ يَحُثُّونَهُمْ عَلَى قِتَالِ المُسْلِمِينَ وَأتَوْا بِالصُّلْبَانِ يَرْفَعُونَهَا أَمَامَ الجُنْدِ.
ولكم أن تعجَبوا بأنَّ المعركةَ لم تتجاوز السَّاعةُ والنِّصفُ .. قُتِلَ فيها من المُسلمينَ مائةٌ وخمسونَ فقط .. وأُسرَ فيها من الكُفَّارِ خمسةٌ وعُشرونَ ألفاً .. ومائةٌ وخمسةٌ وسبعونَ ألفاً بينَ قَتيلٍ وجَريحٍ .. واقرأوا في التَّاريخِ تلكَ الخُطَّةَ الحربيَّةَ العظيمةَ.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهُ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمينَ من كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي أعزَّنا بالإسلامِ، فمهما ابتغينا العِزَّةَ في غيرِه أذَّلَنا اللهُ، الحمدُ للهِ الذي جعلَنا من أتباعِ سيِّدِ الأنامِ، وهدانا بفضلٍ منه وإكرامٍ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له الملكُ العلاَّمُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه نَبيٌّ اصطفاه اللهُ فختمَ به الأنبياءَ فنِعمَ الخِتامُ، صلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه الأئمةِ الأعلامِ، أما بعد:
فَفِي عَهْدِ سُلَيْمَانَ اِزْدَادَتْ قُوَّةُ البَحْرِيَّةِ عَلَى نَحْوٍ لَمْ تَشْهَدْهُ مِنْ قَبْلُ؛ وَذَلِكَ بِاِنْضِمَامِ القَائدِ المُسلمِ (خَيرِ الدِّينِ بربروس)، وَأَطْلِقَ عَلَيْهِ الأوروبيِّونَ لَقَبَ (باربروسا) -أَيْ ذُو اللِّحْيَةِ الحَمْرَاءِ-، وقد نالَه من التَّشويهِ مَا نالَ غيرَه من قادةِ المُسلمينَ، فها هم لا يُصوِّرونَ قراصنَتَهم المُجرمينَ إلا بلِحيَّةِ حمراءَ تشويهاً لصورةِ هذا البَّطلِ ولصورةِ الجِهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى .. كَانَ خَيرُ الدِّينِ يَقُودُ أُسْطُولًا قَوِيًّا ضَرَبَ بِهِ السَّوَاحِلَ الإِسْبَانِيَّةَ، وَأنْقَذَ آلَافاً مِنْ المُسْلِمِينَ فِي الأندلسِ؛ فَقَامَ بِسَبْعِ رِحْلَاتٍ إِلَى السَّوَاحِلِ الأندلسيَّةِ لِنَقْلِ سَبْعِينَ أَلْفَ مُسْلِمٍ مِنْ قَبْضَةِ الحُكُومَةِ الإِسْبَانِيَّةِ، والذينَ كانوا يُعذَّبونَ في مَحَاكِمِ التَّعْذِيبِ المُجرِمةِ .. وكانَ يحمي حُجَّاجَ المُسلمينَ من قراصنةِ البحرِ الصليبيِّينَ في البحرِ الأبيضِ المُتوسطِ.
وحيثُ أن الرَّافضةَ كانوا ولا زالوا مَصدرَ إزعاجٍ .. فلمَّا حاصرَ السُّلطانُ فيينا، جاءتْه الرَّسائلُ بخبرِ احتلالِ الصَّفويينَ لبغدادِ وقتلِهم لأهلِ السُّنَّةِ، فعادَ بجيشِه حتى حرَّرَ بغدادَ وهزمَ الصَّفويينَ شرَّ هزيمةٍ وطردَهم من البِلادِ .. ولذلكَ يُوجَدُ مَثَلٌ دَارِجٌ فِي أَوْرُوبَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ: (لَوْلَا الشَّاهَ –أي الصَّفوي-، لَوَصَلَتْ العُثْمَانِيَّةُ إِلَى نَهرِ الرَّاينِ).
ولَمْ يَتْرُكْ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ القَانُونِي الجِهَادَ قَطْ، حتى فِي أَوَاخِرِ أَيَّامِه لَمَّا أَصَابَهُ المَرَضُ فَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الخَيْلِ؛ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَحَامَلُ عَلَى نَفْسِهُ إِظْهَارًا لِلقُوَّةِ أَمَامَ أَعْدَائِه، وَقَدْ بَلَغَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ القَانُونِيُّ مِنْ العُمْرِ ٧٤ عَامًا، وَعِنْدَمَا عَلِمَ بِأَنَّ مَلِكَ الهايسبرج أَغَارَ عَلَى ثَغْرٍ مَنْ ثُغورِ المُسْلِمِينَ؛ قَامَ السُّلْطَانُ سُلَيْمَانُ القَانُونِيُّ لِلجِهَادِ مِنْ فَوْرِهِ، وَقَادَ الجَيْشَ بِنَفْسِه، وَخَرَجَ عَلَى رَأْسِ جَيْشِ عَرَمْرَمٍ، وُوصِلَ إِلَى مَدِينَةٍ سيكتوار المَجَرِيَّةِ، وَكَانَتْ مِنْ أَعْظَمَ مَا شَيَّدَهُ المَسِيحِيُّونَ مِنْ القِلَاعِ، وَكَانَتْ مَشْحُونَةً بِالبَارُودِ وَالمَدَافِعِ، وَكَانَ قَبْلَ خُرُوجِهِ لِلجِهَادِ نَصحَهُ الطَّبِيبُ الخَاصُّ بِعَدَمِ الخُرُوجِ لِمَرَضِهِ، فَكَانَ جَوَابُ السُّلْطَانِ سُلَيْمَانَ الَّذِي خَلَّدَهُ لَهُ التَّارِيخُ: (أُحِبُّ أَنْ أَمُوتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ).
وَاِسْتَمَرَّ القِتَالُ وَالحِصَارُ قَرَابَةَ خَمْسَةِ شُهُورٍ كَامِلَةٍ، وَمَا اِزْدَادَ أَمْرُ الفَتْحِ إِلَّا صُعُوبَةٌ، وَاِزْدَادَ هَمُّ المُسْلِمِينَ لِصُعُوبَةِ الفَتْحِ، وَهُنَا اِشْتَدَّ مَرَضُ السُّلْطَانِ، وَشَعَرَ بِدُنُوِّ الأَجَلِ، فَأَخَذَ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَهُ: (يَا رَبَّ العَالَمِينَ؛ افْتَحْ عَلَى عُبَّادِكَ المُسْلِمِينَ، وَانْصرْهُمْ، وَأَضْرِمْ النَّارَ عَلَى الكُفَّارِ) .. فَاِسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ السُّلْطَانِ سُلَيْمَانَ، فَأَصَابَ أَحَدُ مَدَافِعِ المُسْلِمِينَ خِزَانَةَ البَارُودِ فِي الحِصْنِ، فَكَانَ اِنْفِجَارًا مُهَوِّلًا، أَخَذَ جَانِبًا كَبِيرًا مِنْ القَلْعَةِ فَرَفعَه إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، وَهَجَمَ المُسْلِمُونَ عَلَى القَلْعَةِ وَفَتَحُوها، وَرُفِعَتْ الرَّايَةُ السُّلَيْمَانِيَّةُ عَلَى أَعْلَى مَكَانٍ مِنْ القَلْعَةِ... وَعِنْدَ وُصُولِ خَبَرِ الفَتْحِ لِلسُّلْطَانِ فَرِحَ، وَحَمِدَ اللهَ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ، وَقَالَ: (الآنَ طَابَ المَوْتُ.. الآنَ طَابَ المَوْتُ) ثُمَّ خَرَجَتْ رُوحُهُ إِلَى بارئِها فِي ٢٠ مِنْ صَفَرٍ سَنَة ٩٧٤ه.
فَمَا فَرِحَ النَّصارى كَفَرَحِهم بِمَوْتِ السُّلْطَانِ سُلَيْمَانَ المُجَاهِدِ .. وَجَعَلُوا يَوْمَ وَفَاتِه عِيدًا مِنْ أَعْيَادِهمْ، وَدَقَّتْ أَجْرَاسُ الكَنَائِسِ فَرَحًا بِمَوْتِهِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى .. يَقُولُ المُؤَرِّخُ الإِنْجِلِيزِيُّ هارولد: (إِنَّ يَوْمَ مَوْتِهِ كَانَ مِنْ أَيَّامِ أَعْيَادِ أَوْرُوبَا).
ذلكَ يا عبادَ اللهِ .. شيءٌ يسيرٌ من سيرةِ عظيمٍ من عُظماءِ الإسلامِ الذي يسعى الغربُ الكافرُ وأتباعُهم من تشويهِ صورتِهم حِقداً وحَسَداً على الإسلامِ وأهلِه .. فهل لنا بمُراجعةِ التَّاريخِ ومعرفَةِ الحقائقِ .. حتى لايخدَعُنا الأعداءُ.
اَللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرَكَ والمشركينَ، وَدَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، وَاجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .. اَللَّهُمَّ انْصُرْ مِنْ نَصْرَ الدِّينَ، وَاخْذِّلْ مَنْ خَذَلَ عِبَادَكَ المُؤْمِنِينَ .. اَللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُومِينَ مِنْ المُسْلِمِينَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوبِينَ، وَاِقْضِ الدِّينَ عَن المَدِينينِ، وَاِشْفِ مَرْضَانَا وَمَرَضى المُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.. اَللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلَحْ أَئِمَّتَنَا وولاةَ أُمُورِنَا، وَاجْعَلْ وِلَايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ واتَّقاكَ وَاِتَّبَعَ رِضَاكَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ .. اَللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمرِنَا لَمَّا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ مِنْ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ .. اَللَّهُمَّ أَصْلَحْ لَهُ بِطَانَتَهُ يَا ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ .. رَبِّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) .. وَآخَرُ دَعْوَانَا أَن الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
المرفقات
السلطان سليمان القانوني.docx
السلطان سليمان القانوني.docx
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق