السعي في القرآن الكريم

Sheikh Sayed2019
1444/05/17 - 2022/12/11 00:35AM

السعي في القرآن الكريم

إعداد :

 الشيخ / السيد طه أحمد

 

الحمد لله رب العالمين... أمر بالسعي للآخرة وأثاب عليه الجزيل فقال تعالي{ وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا (19)} ]الإسراء[ .

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... حذر من السعي في الضلال فقال تعالي { قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا (103) ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا (104) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا (105)}] الكهف[

وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله صلي الله عليه وسلم .... ربىَّ أصحابه أحسن تربية، وحثهم علي السعي...

فعن كعبِ  بنِ  عُجرَة رَضِيَ الله عَنه قَالَ : مر على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلٌ فرأى أصحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من جلَدِه ونشاطِه فقالوا: يا رسولَ اللهِ لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ.

قال المنذري: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. انتهى. وصححه الألباني لغيره.

فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ......

أما بعد ..فيا أيها المؤمنون... 

إن الله تعالي خلقنا لعمارة الكون ونشر الخير ومحاربة الشر فقال تعالي{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا(61)} هود. 

وأمر بالسعي في الأرض ووعده بالجزاء علي سعيه في الآخرة إن خيرا فخيرا ،أو شرا فشرا فقال تعالي { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ (15) }]طه[ .

فقضية السعي كبيرة وعظيمة في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة ، لذلك أكد المولي عز وجل هذا الأْمر في فريضة الحج وجعله ركناً من أركان الحج وهو السعي بين الصفا والمروة ، والذي حققته في أول الأْمر السيدة هاجر عليها السلام عندما قامت تسعي وتهرول مرة نحو الصفا ، ومرة نحو المروة حتي كلت حيلتها ، وذلك من أجل غرس قضية السعي في نفوس المؤمنين الموحدين بالله عز وجل ..

لذلك كان موضوعنا }السعي في القرآن الكريم{ وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية. 1ـ حقيقة السعي. 

2ـ أقسام السعي وصور كل قسم.

3ـ حقيقة السعي المشكور وصوره

4ـ حقيقة السعي المكفور وصوره

5ـ أسباب السعي المكفور. 

العنصر الأول : حقيقة السعي :ـ

سَعَى يسعى سَعياً أي عدا، وكذا إذا عمل وكسب، وكل من ولي شيئا على قوم فهو سَاعِ  عليهم . 

وقال الراغب الأْصفهاني: " السعي المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر، خيرا كان أو شرا ...

وقد وردت لفظة السعي بمعنى المشي السريع في عدة مواضع منها:

وقوله تعالى في شأن عصا موسى عليه السلام: { فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ (20)}]طه[

وقوله عن سحر السحرة { فَإِذَا حِبَالُهُمۡ وَعِصِيُّهُمۡ يُخَيَّلُ إِلَيۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ (66) }] طه[

قال القرطبي: " السعي: المشي بسرعة وخفة".

ومنها أيضا ما حكاه الله تعالى عن معجزة الطير التي ضربها لإبراهيم دليلا على قدرة الله على الإحياء والإماتة والبعث، وطريقا لليقين والطمأنينة؛ فبعد أن قطَّع الطيور وفرق أجزاءها على رؤوس الجبال، أمره الله أن يناديها، فإذا بها تجتمع وتلتئم ذواتها، وتأتي إلى إبراهيم عليه السلام سعيا، أي: مشيا سريعا على أرجلهن، قال تعالى: { قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ (260)} ]البقرة[.

وقيل إنها جاءت طيرانا، وليس يصح، لْنه ل يقال للطير إذا طار سعى، إل إذا حُمل على معنى الاشتداد في تلك الحركة.

والحكمة في المشي دون الطيران، كونه أبلغ في الحجة وأبعد من الشبهة، لأنها لو طارت لتوهم متوهم أنها غير تلك الطير، أو أن أرجلها غير سليمة.

ومنها قوله تعالى:{ يَوۡمَ تَرَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ يَسۡعَىٰ نُورُهُم بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۖ بُشۡرَىٰكُمُ ٱلۡيَوۡمَ جَنَّٰتٞ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ (12)}]الحديد[

 فقد فسر السعي بمعنى المشي والمضي، قال الطبري: "يوم ترون المؤمنين والمؤمنات يسعى ثواب إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم تتطاير، ويعني بقوله: )ي سَعَى(: يمضي".

وقال القرطبي: "أي يمضي على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه".

واختلف المفسرون في معنى السعي الوارد في قوله تعالى:{ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ (9)}]الجمعة[

 فذكروا في ذلك أقوالا ثلاثة:ــ

الأول: إن معنى السعي هنا: العمل، وممن قال بذلك: عكرمة، والضحاك، وهو قول جمهور العلماء، ويدخل في هذا العمل: الاغتسال، وتغيير الثياب، ومس الطيب، والتبكير إليها.

 الثاني: السعي بالقلب والنية والخشوع، قال الحسن: "أما والله ما هو بالسعي على الْقدام، وقد نهُوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيات والخشوع".

وقال إسماعيل حقي: " وفى عبارة السعي إشارة إلى النهى عن التثاقل، وحث على الذهاب بصفاء قلب  وهمة، لا بكسل نفس  وغمة ".

الثالث: المشي على الْقدام، وممن قال بذلك: ابن عباس رضي الله عنهما.

وبالتأمل في هذه الْقوال الثلاثة نجدها متلازمة لأْن العمل أعم من السعي، والسعي أخص، فلا تعارض بين أعم وأخص، والنية شرط في العمل، وقد قال قتادة جمعا بين هذه الْقوال:

"والسعي يا ابن آدم أن تسعى بقلبك، وعملك، وهو المضي إليها".

وأما الجري والاشتداد، فهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون، والفقهاء الأقدمون. 

والسَّعيُ الكَسبُ وكلُّ  عمل  من خير أوَ شر  سَعي والفعلُ  كالفِعلِ، وفي التنزيل الحكيم { لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ (15) }]طه[، وسَعىَ لهم وعليهم عَمِلَ  لهم وكَسَبَ، وأسْعَى غيره: جَعلَه يسْعىَ.

فالسعي ليس مرادفا للعمل، بل هو عمل مخصوص يقصده صاحبه ويعتني به ليترتب عليه ثواب ،أوعقاب.

العنصر الثاني : أقسام السعي وصور كل قسم :ـ

السعي مادة التكليف وأساس الجزاء:

سمى الله عز وجل عمل الناس في الدنيا سعيا، وقرر أنهم في هذا الكسب مختلفون ومتباينون، وفق ما يختاره و يجترحه كل واحد منهم، قال تعالى: { إِنَّ سَعۡيَكُمۡ لَشَتَّىٰ (4) (4)}]اليل[

قال الإمام الطبري في شرح الآية: " إن عَمَلكُم  لمختلف أيها الناس، لأْن منكم الكافر بربه، والعاصي له في أمره ونهيه، والمؤمن به، والمطيع له في أمره ونهيه...وعن قتادة، قوله: } إِنَّ سَعۡيَكُمۡ لَشَتَّىٰ{ يقول: لمختلف".

وقال المام الرازي: "هذا جواب القسم، فأقسم تعالى بهذه الأشياء، أن أعمال عباده لشتى أي مختلفة في الجزاء، وشتى جمع شتيت مثل مرضى ومريض، وإنما قيل للمختلف: شتى، لتباعد ما بين بعضه وبعضه، والشتات هو التباعد والافتراق، فكأنه قيل: إن عملكم لمتباعد بعضه من بعض، لأن بعضه ضلال وبعضه هدى، وبعضه يوجب الجِنان، وبعضه يوجب النيران، فشتان ما بينهما".

ثم إنه سبحانه وتعالى بينَّ هذا الاختلاف الوارد في الأْعمال وجزائها، فقال عقب جواب القسم:{ فَأَمَّا مَنۡ أَعۡطَىٰ وَٱتَّقَىٰ (5) وَصَدَّقَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡيُسۡرَىٰ (7) وَأَمَّا مَنۢ بَخِلَ وَٱسۡتَغۡنَىٰ (8) وَكَذَّبَ بِٱلۡحُسۡنَىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُۥ لِلۡعُسۡرَىٰ (10) وَمَا يُغۡنِي عَنۡهُ مَالُهُۥٓ إِذَا تَرَدَّىٰٓ (11) }]اليل[.

والآية بيان للمراد من قول تعالى { لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ (15) }]طه[،

ولقوله تعالى {وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ سَوۡفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ (41)}] النجم[

أي: ما عمل من خير أو شر يراه يوم القيامة حاضرا ومدونا في صحائف الأعمال، فيتذكره بعدما نسيه، قال تعالى{ يَوۡمَ يَتَذَكَّرُ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا سَعَىٰ (35)}]النازعات[ .

قال الإمام الرازي: يعني إذا رأى أعماله مدونة في كتابه تذكرها، وكان قد نسيها، كقوله: {أَحۡصَىٰهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ (6)}]المجادلة[ وأكثرما يستعمل السعي في الْفعال المحمودة.

قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ (102)}.]الصافات[.  أي أدرك ما سعى في طلبه، وخص السعي فيما بين الصفا والمروة من المشي.

وفي الحديث.. عن أبي هريرة رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال:}إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعَون، وأتوها تمشون عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا{ ]متفق عليه[.

وأيضا يكون السعي في الشر، قال تعالى: {وَٱلَّذِينَ سَعَوۡ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مِّن رِّجۡزٍ أَلِيمٞ (5)} سبأ.

أي اجتهدوا في أن يظهروا لنا عجزا فيما أنزلناه من الآيات".

فالسَّعيُ يكون في الصلاح ويسمي سعيا مشكورا، ويكون في الفساد ويسمي سعيا مكفورا.

العنصر الثالث : حقيقة السعي المشكور وصوره :ـ 

قال الله تعالى: {إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمۡ جَزَآءٗ وَكَانَ سَعۡيُكُم مَّشۡكُورًا (22)} ]الإنسان[،

وقال سبحانه { وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا (19)} ]الإسراء[ . قال الإمام الطبري: " من أراد الآخرة وإياها طلب، ولها عمل عملها، وهو مؤمن مصدِ ق بثواب الله، وعِظم جزائه على سعيه لها، غير مكذب به تكذيب من أراد العاجلة، (فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم) يعني عملهم بطاعة الله (مَّشۡكُورٗا )،وشكرُ الله إياهم على سعيهم ذلك حسنُ جزائه لهم على أعمالهم الصالحة، وتجاوزُه لهم عن سيِئها برحمته.

وعن قتادة، قوله }وَمَن أرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لهَا سَعيهَا وَهُوَ مُؤمِن فَأوُلَئِكَ كَانَ سَعيهُم مَشكُورًا{ شكر الله لهم حسناتهم ،وتجاوز عن سيئاتهم"

قال الراغب: " وإذا وُصِف الله بالشكر فإنما يعنى به إنعامه على عباده، وجزاؤه بما أقاموه من العبادة"

وقد جاء السعي في آية الإسراء مطلقا وغير محدد، فبينته آية الأنبياء، وعينت مدلوله، وأنه من جنس الصالحات، فقال تعالى: { فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَ (94) } ]الأنبياء[

ويدخل في هذا السعي طاعة الله في أمره ونهيه، والإقرار بوحدانيته، والتصديق بوعده ووعيده، والبراءة من كل الْنداد والآلهة الْخرى. 

وقوله تعالى: (من الصالحات) من للتبعيض لا للجنس، إذ لقدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات فرضها ونفلها، فمن اجتهد في الإتيان بما يستطيع من جنس هذه الطاعات، فلا كفران لسعيه، أي  " لجحود لعمله، وليضيع جزاؤه، ولا يغطي "، لأْن أصل الكفر في اللغة الستر والتغطية. 

والكفران مثل في حرمان الثواب، والشكر مثل في إعطائه. 

وقد وعد الله الساعي إلى الخيرات بكتابة سعيه صغيره وكبيره، قليله وكثيره، وإثابته عليه (وإنا له كاتبون)، أي: "لعمله حافظون، نظيره { أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ (195) }] آل عمران["

 وفي ذلك مزيد اعتناء واهتمام بالسعي المشكور، وتحفيز على تحصيل أسبابه.

شروط السعي المشكور:

من خلال الحديث عن السعي، يتبين أن له شروطاً ثلاثة يلزم توافرها مجتمعة ليصير مشكورا وهي:ـ 

الشرط الأول:

أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة،

وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى: {وَأنَ ليَّسَ لِلانسَـانِ إِلا مَا سَعَى(39)} ]النجم[

ولقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الْعمال بالنيات" ولأْن المقصود من الأْعمال استنارة القلب بمعرفة الله تعالى ومحبته ، وهذا لا يحصل إلا إن نوى بعمله عبودية الله تعالى وطلب طاعته.

والشرط الثاني:

قوله: (وَسَعَى لهَا سَعيهَا)، وذلك هو أن يكون العمل الذي يتُوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الْعمال التي بها ينُال ثواب الآخرة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرَب والطاعات.

والشرط الثالث:

قوله تعالى: (وَهُوَ مُؤمِن)، وهذا الشرط معتبر، لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدمُّ الإيمان، فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط، ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً والعمل مبروراً . 

والله سبحانه وتعالى إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل، إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم.

صور السعي المشكور :ـ

1ـ السعي علي المعاش :ـ

يحظى السعي علي المعاش بمنزلة خاصة واحترام عظيم ، ويكفي في إظهار قيمته ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم عن أنَسَ بنِ مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُولُ  اللَّهّ صلى الله عليه وسلم « إِن قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيدِ  أحَدِكُم  فسِيلَة فَإنِ  استطَاعَ  أنَ لا يقَوُمَ  حَتىَّ يغَرِسَهَا فلَيَفعلَ  » رواه أحمد وصححه الألباني .

 والفسيل صغير النخل , وهو دليل على أن العمل مطلوب لذاته ، والمسلم عليه أن يظل عاملا منتجا ، حتى تنفد آخر نقطة زيت في سراج الحياة .

وهذه قمِّة الإيجابية والاشتغال بالعمل مهما كانتِ  الظروف المحيطة والأخطار المُحدِقة؛ لأْنَّ  العمل الصالح في حدِ  ذاته عبادة ، سواء قطَف فاعلهُ الثمرة َ بنفسه، أم فعلَ الله بها ما يشاء.

وأمر القرآن الكريم بالعمل وطلب إلينا السعي علي المعاش فقال تعالي } هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ ذَلُولٗا فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزۡقِهِۦۖ وَإِلَيۡهِ ٱلنُّشُورُ (15) { ]الملك[

وأخبرنا أنه جعل لنا النهار من أجل الرزق والسعي عليه فقال ربنا تبارك وتعالي }وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِبَاسٗا وَٱلنَّوۡمَ سُبَاتٗا وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُورٗا (47) { ]الفرقان[

وقال  أيضا} وَجَعَلۡنَا ٱلَّيۡلَ لِبَاسٗا (10) وَجَعَلۡنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشٗا (11) { ]النبأ[

وقال تعالى : }وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (105) { ]التوبة [.وفي كل  لم يحدد نوع العمل .

العمل والسعي علي المعاش في منزلة الجهاد في سبيل الله :

قال تعالي } إِنَّ رَبَّكَ يَعۡلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدۡنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيۡلِ وَنِصۡفَهُۥ وَثُلُثَهُۥ وَطَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَۚ وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحۡصُوهُ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرۡضَىٰ وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ فَٱقۡرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنۡهُۚ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗاۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٗا وَأَعۡظَمَ أَجۡرٗاۚ وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمُۢ (20){ ]المزمل[

قال القرطبي في تفسير هذه الآية: بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل، فإن الخلق منهم المريض، ويشق عليهم قيام الليل، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل، والمجاهد كذلك، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء.

وروى إبراهيم عن علقمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: }ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت منزلته عند الله منزلة الشهداء{ ،

ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ "

وقال ابن مسعود: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء.

وقرأ " وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ " الآية.

وقال ابن عمر: ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأْرض.

وقد ربي النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه علي الكسب والسعي في حلال وأن اليد العليا خير من اليد السفلي عَن  نَافِع عَنِ ابنِ  عُمَرَ رضى الل عنهما قَا لَ سَمِعتُ  النبِّيِّ  صلى الله عليه وسلم  .

وَحَدثَّنَاَ عَبد ُ اللّهِ  بنُ مَسلمَةَ عَن مَالِك عَن نَافِع عَن عَبدِاللَّهِّ بنِ عُمَرَ رضى الله عنهما أنَّ رَسُولَ  اللَّهّ ِ صلى الله عليه وسلم قَالَ  وَهُوَ عَلَى المِنبَرِ، وَذكَرَ الصَّدقَةَ وَالتعَّففَّ وَالمَسألَة َ

« اليدَ ُ العلُيَا خَير  مِنَ اليدِ السُّفلىَ ، فَاليدَ ُالعلُيَ هِىَ المُنفِقَة ُ، وَالسُّفلَى هِىَ السَّائلِةُ » . البخاري ومسلم

عَن عُروَةَ  بنِ الزُّبيَرِ وَسَعِيدِ بنِ المُسَيبِّ أنَّ حَكِيمَ بنَ حِزَام رضى الله عنه  قَالَ  سَأَلْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فأعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فأعْطَانِي، ثُمَّ قالَ:} يا حَكِيمُ، إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَن أَخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ له فِيهِ، ومَن أَخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ له فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ ولَا يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى. قالَ حَكِيمٌ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئًا حتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكانَ أَبُو بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه يَدْعُو حَكِيمًا إلى العَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ منه، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فأبَى أَنْ يَقْبَلَ منه شيئًا، فَقالَ عُمَرُ: إنِّي أُشْهِدُكُمْ يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ علَى حَكِيمٍ؛ أَنِّي أَعْرِضُ عليه حَقَّهُ مِن هذا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تُوُفِّيَ{. ]البخاري[

وعَن أبَىِ هُرَيرَة َ قَا لَ سَمِعتُ  رَسُولَ  اللَّه صلى الل عليه وسلم يقَوُ لُ «  لَأَنْ يَغْدُوَ أحَدُكم فَيَحْتَطِبَ على ظَهرِهِ ، فيَتَصَدَّقَ مِنهُ ، و يَسْتَغْنِي به عنِ النَّاسِ ، خَيرٌ له من أنْ يَسألَ رَجُلًا ، أعطاهُ أو مَنَعهُ ، ذَلكَ بِأنَّ اليَدَ العُلْيَا ، أفضَلُ من اليدِ السُّفْلَى ، و ابْدأْ بِمنْ تَعُولُ» . مسلم.

إن العاقل لا يرضى لنفسه أن يكون كلاً  على غيره، أو أن يكون إمعة يستجدي الرزق من فلان

 أو علان، وهو يعلم ويسمع قول الله تعالى{وَأَن لَّيۡسَ لِلۡإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعۡيَهُۥ

سَوۡفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجۡزَىٰهُ ٱلۡجَزَآءَ ٱلۡأَوۡفَىٰ (41)}] النجم[.

وقوله تعالى }فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَٱذۡكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرٗا لَّعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (10){ ] الجمعة[

وقوله تعالى  }وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (105) { ]التوبة [.

2ـ السعي في قضاء حوائج الناس :ـ

السعي في قضاء حوائج الناس من الأخلاق الإسلامية العالية الرفيعة التي ندب إليها الإسلام وحث المسلمين عليها , وجعلها من باب التعاون على البر والتقوى الذي أمرنا الله تعالى به فقال في محكم تنزيله :{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (2) } ]المائدة[.

والسعي في قضاء حوائج الناس كاليتيم والمسكين والأرملة ، ونصرة المظلوم.. وغيرهم من أصحاب الحاجات .                       

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:} الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر{ ]رواه مسلم[. 

ومن نعم الله تعالى على العبد أن يجعله مفتاحا للخير والإحسان , عَن  سَهلِ  بن سَعد، عن النبِّي ِ صَلىَّ  اللَّهُّ عَليَهِ  وَسَلمَّ، قَالَ : عِندَ اللّهِ خَزَائِنُ  الخَيرِ وَالشَّرِ، مَفَاتِيحُهَا الرِجَالُ، فطَوبىَ لِمَن  جَعلَه ُ مِفتاَحًا لِلخَيرِ، وَمِغلاقاً لِلشَّرِ، وَوَ يل  لِمَن  جَعلَه ُ مِفتاَحًا لِلشَّرِ، وَمِغلاقاً لِلخَيرِ

(أخرجه ابن ماجة والطبراني الألباني ) ]حسن [

وأن يسخره لقضاء حوائج الناس , عَنِ  ابنِ عُمَرَ، قَالَ: قاَلَ  رَسُولُ  اللِه صَلىَّ اللَّهّ ُ عَلَيهِ  وَسَلمَّ : { إِنَّ  لِلَّه ِ أقَوَامًا ا ختصَّهُم بِالنعِمِ  لِمَنَافِع العِبَادِ، وَيقِرُّهَا فِيهِم مَا بذَلَوُهَا، فَإذِاَ مَنعَوُهَا نزَعَهَا عَنهُم  وَحَوَّلهَا إلِى غَيرِهِم }أخرجه الطبراني، وابن عساكر

وفي الِصحيحين عن عَبدَ اللَّه بنَ عُمَرَ رَضِيَ اللّه عَنهُمَا أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلىَّ اللّهُ عَليَهِ  وَسَلمَّ  قَالَ:} المُسلِمُ  أخُو المُسلِمِ لاَ يظَلِمُهُ وَلاَ  يسُلِمُهُ وَمَن  كَانَ  فيِ حَاجَةِ  أخِيهِ  كَانَ  اللَّه ُ فِي حَاجَتِهِ  وَمَن  فرَّجَ  عَن  مُسلِم  كُربةَ ً فرَّجَ  اللَّه ُ عَنه ُ كُربَة ً مِن  كُرُباَتِ  يَومِ القِيَامَةِ  وَمَن  سَترَ  مُسلِمًا سَترَه ُ اللَّه يوَمَ القِياَمَةِ {

وإن الساعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة مؤيد بالتوفيق ، فعَن  أبِي هُرَيرَة َ قَالَ : قَا لَ رَسُولُ  اللّهِ صَلىَّ اللَّه ُ عَلَيهِ  وَسَلمَّ : }مَن نفَسَّ  عَن مُؤمِن  كُربَة ً مِن  كُرَبِ  الدنُّيَا نفَسَّ اللَّه ُ عَنه ُ كُربَةً مِن كُرَبِ  يوَمِ  القِيَامَةِ  وَمَن  يسَّرَ عَلَى مُعسِر يسَّرَ  اللَّه عَلَيهِ  فِي الدنُّيَا وَالآخِرَةِ  وَمَن سَترَ  مُسلِمًا سَترَه ُ اللّه ُ فِي الد نُّيَا وَالآخِرَةِ ،وَاللّهُ فِي عَونِ ا لعَبدِ  مَا كَانَ العَبد ُ فِي عَونِ أخِيهِ  وَمَن  سَلكَ  طَرِيقاً يلَتمِسُ فِيهِ  عِلمًا سَهَّلَ  اللَّه ُ لَهُ بهِ  طَرِيقاً إلِى ا لجَنةِّ وَمَا اجتمَعَ  قَوم  فِي بَيت مِن بيُوُتِ اللّه يَتلوُ نَ كِتاَبَ   اللَّهِ وَيَتدَاَرَسُونَهُ  بيَنهُم إِلّاَ نزَلَت  عَلَيهِم  السَّكِينةُ وَغَشِيتَهُم  الرَّحمَةُ وَحَفتَّهُم المَلَائكِة ُ وَذكَرَهُم  اللَّه فِيمَن  عِندهَ وَمَن  بطَّأَ بِهِ عَمَلهُ لَم  يسُرع  بِهِ  نسَبهُ ُ{

ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل والنموذج الأعلى في الحرص على الخير والبر والإحسان , وفي سعيه لقضاء حوائج الناس وبخاصة للضعفاء والأيتام ,والأرامل ,

فعَن أنَسَ رضي الله عنه أنَّ امرَأةَ كَانَ فِي عَقلِهَا شَيء ،فَقَالتَ : يَا رَسُولَ الله ، إِنَّ لِي إلِيكَ حَاجَةً ، فَقَا لَ : يَا أمَّ  فلُا نَ ،انظُرِي أيَّ السِكَكِ  شِئتِ ،حَتىَّ أقَضِيَ  لكِ حَاجَتكِ ، فخَلا َ مَعهَا فِي بعَضِ الطُّرُقِ ،حَتىَّ فرَغَت مِن حَاجَتهِا. ]أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود[.

والسعي في قضاء حوائج الناس من الشفاعة الحسنة التي أمرنا الله تعالى بها فقال : { مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا (85)}]النساء[.

والسعي في كشف كروباتهم، من صفات الأْنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فالكريم يوسف بن يعقوب ابن إسحاق عليه السلام مع ما فعله إخوته به جهزهم بجهازهم ولم يبخسهم شيئاً منه، وموسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، فرفع الحجرعن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما، وَأمُّ المُؤمِنيِنَ خَدِيجَة ُرضي اللهُ عنها تقَوُلُ عَنِ النبَّيِ صلى الله ُ عليه وسلم: }إِنكَّ لتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتحَمِلُ الكَلَّ، وَتكُسِبُ المَعدوُمَ، وَتقَرِي الضَّيفَ، وَتعِينُ عَلىَ نَوَائبِ الحَقِ]{رواه البخاري[

بل أنها من أحب الْعمال وأعلاها وأزكاها عند الله تعالى , فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم }أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تَدْخِلُهُ عَلَى مُؤْمِنٍ: تَكْشِفُ عَنْهُ كَرْبًا، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي الْمُسْلِمِ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ شَهْرَيْنِ فِي مَسْجِدٍ، وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رِضا، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا لَهُ، ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَامُ، وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ { ]أخرجه الطبراني في الأوسط وفى الكبير ، وفى الصغير  ابن أبى الدنيا في كتاب قضاء الحوائج قال الألباني حسن[ .

ولقد اقتدى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحرص على السعي لقضاء حوائج الناس , وكانوا يكتبون إلى ولاتهم بذلك , فقد كَتبَ عُمَرُ  بنُ الخَطَّابِ  رَضِيَ  اللُه عَنهُ إلِى أبِي مُوسَى الأ شَعرِي ِ كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - : أنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس ، فأكرم وجوه الناس ، فبحسب المسلم الضعيف من العدل أن ينصف في العدل والقسمة .

]ابن عبد البر : المجالسة وجواهر العلم[ 

وعن معمر عن عاصم بن أبي النجود : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، كَانَ إِذَا بَعَثَ عُمَّالَهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ :}أَلَّا تَرْكَبُوا بِرْذَوْنًا ، وَلَا تَأْكُلُوا نَقِيًّا ، وَلَا تَلْبَسُوا رَقِيقًا ، وَلَا تُغلِقُوا أَبْوَابَكُمْ دُونَ حَوَائِجِ النَّاسِ ، فَإِنْ فَعَلْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ حَلَّتْ بِكُمُ الْعُقُوبَةُ " ، قَالَ : ثُمَّ شَيَّعَهُمْ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ قَالَ : " إِنِّي لَمْ أُسَلِّطْكُمْ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا عَلَى أَعْرَاضِهِمْ ، وَلَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَلَكِنِّي بَعَثْتُكُمْ لُتُقِيمُوا بِهِمُ الصَّلَاةَ ، وَتَقْسِمُوا فَيْئَهُمْ ، وَتَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ ، فَارْفَعُوهُ إِلَيَّ ، أَلَا فَلَا تَضْرِبُوا الْعَرَبَ فَتُذِلُّوهَا ، وَلَا تُجَمِّرُوهَا فَتَفْتِنُوهَا ، وَلَا تَعْتَلُّوا عَلَيْهَا فَتَحْرِمُوهَا ، جَرِّدُوا الْقُرْآنَ ، وَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، انْطَلِقُوا وَأَنَا شَرِيكُكُمْ "  ]{المصنف  لعبد الرزاق الصنعاني[

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلب للحي أغنامهم ، فلما استخُلف قالت جارية منهم : الآن لا يحلبها ، فقال أبو بكر : بلى وإني لأْرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله .

ولقد كان عمر يتعاهد الأْرامل يستقي لهن الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندكِ؟ قالت: هذا مذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الْذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعورات عمر تتبع؟.

وكان أبو وائل يطوف على نساء الحي وعجائزهن كل يوم فيشتري لهن حوائجهن وما يصلحهن.

وقال مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني.

وكان علي بن الحسين  رحمه الله يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام فلما مات فقدوا ذلك ، كان ناس من أهل المدينة يعيشون ولا يدرون من أين معاشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كان يأتيهم بالليل.

ومن هنا كان السلف الصالح رضوان الله عليهم أشد حرصا من غيرهم على المشي في قضاء حوائج المسلمين، روي أن الحسن البصري رحمه الله بعث نفرا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل مسلم، وأمرهم أن يمروا بثابت البناني فيأخذوه معهم، فأتوا ثابتا فأخبروه فقال: إني معتكف، فرجعوا إلى الحسن.

فقال لهم: قولوا له يا أعمش!

أما تعلم، مشيك في قضاء حوائج المسلمين خير لك من حجة بعد حجة. فرجعوا إلى ثابت فترك اعتكافه وخرج معهم.

3ـ السعي في نصرة المظلوم :ـ

لقد حكي القرآن الكريم موقف مؤمن آل فرعون عندما علم بتآمر فرعون وقومه علي كليم الله موسي عليه السلام خرج يسعي لكي يقوم بواجبه تجاه المظلوم مرة بنصح أهل الشر وتحذيرهم من الظلم فقال تعالي{وَقَالَ رَجُلٞ مُّؤۡمِنٞ مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَكۡتُمُ إِيمَٰنَهُۥٓ أَتَقۡتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدۡ جَآءَكُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ مِن رَّبِّكُمۡۖ وَإِن يَكُ كَٰذِبٗا فَعَلَيۡهِ كَذِبُهُۥۖ وَإِن يَكُ صَادِقٗا يُصِبۡكُم بَعۡضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ (28) } ]غافر[. 

ومرة بالإسراع إلي المظلوم نفسه مشفقا عليه من ظلم الظالمين .. فقال تعالي {وَجَآءَ رَجُلٞ مِّنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ ٱلۡمَلَأَ يَأۡتَمِرُونَ بِكَ لِيَقۡتُلُوكَ فَٱخۡرُجۡ إِنِّي لَكَ مِنَ ٱلنَّٰصِحِينَ (20) }]القصص[

وهكذا ينبغي علي كل مسلم أن يسعي لنصرة المظلوم لما لهذا الأمر من أجر وثواب عظيم عند الله تعالي 

روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله وأبي طلحة بن سهل الأْنصاري أنهما قال:

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه

حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته}.

4ـ السعي في تبليغ دين الله عز وجل :ـ

لقد أرسل الله الرسل لتبليغ الناس دعوته عز وجل فأرسل إلي قرية انطاكية رسولين فكذبوهما فعزز المولي عز وجل برسول ثالث ورغم ذلك! القرية كذبت الرسل ولكن هناك رجل يحمل في قلبه الإيمان فأحس بثقل الأمانة والمسئولية أمام الله تعالي لم يجلس ويقول ماذا أفعل بعد الرسل ، وماذا يكون أنا بالنسبة لهم ؟ لاشيئ!!. 

فقام بدوره تجاه قريته  يصدع بالحق ويذكر الناس بالله تعالي ويحذرهم يوم الحساب ...

فقال تعالى:{ وَجَآءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِينَةِ رَجُلٞ يَسۡعَىٰ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلۡمُرۡسَلِينَ (20) ٱتَّبِعُواْ مَن لَّا يَسۡـَٔلُكُمۡ أَجۡرٗا وَهُم مُّهۡتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَآ أَعۡبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ (22) ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً إِن يُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَٰنُ بِضُرّٖ لَّا تُغۡنِ عَنِّي شَفَٰعَتُهُمۡ شَيۡـٔٗا وَلَا يُنقِذُونِ (23) إِنِّيٓ إِذٗا لَّفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ (24) إِنِّيٓ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمۡ فَٱسۡمَعُونِ (25) قِيلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ يَٰلَيۡتَ قَوۡمِي يَعۡلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ (27){  ]يس[ .

العنصر الرابع: حقيقة السعي المكفور وصوره:ــ

يلزم في السعي ليُشُكر ويُحمد، أن تجتمع فيه شروط ثلاث هي: الإخلاص لله وابتغاء الآخرة، وتحري العمل الصالح الذي شرعه الله لعباده، وبينه لهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون هذا العمل صادرا من مومن يخشى الله ويرجو ثوابه.

فإذا اختل شرط منها عُدَّ السعي مكفورا، وحشر صاحبه مع الأْخسرين أعمالاً {قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا (103) ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا (104) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا (105) }]الكهف[

وإذا كان فعل سعى يتعدى بحرف (إلى) للدلالة على الخير والأمر المحمود، فإنه إذا عُدي بحرف (في) كان المسعى إليه مذموما وعملا من أعمال الشر والفساد، وهذا ما سنتتبعه في نصوص السعي المكفور الواردة في القرآن الكريم:

صور السعي المكفور في القرآن الكريم:ــ

أولا: السعي بالمعاجزة في آيات الله:ـ

 قال الله تعالى في سياق الحديث عن الساعة، وبيان جزاء العاملين فيها:{ لِّيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ (4) وَٱلَّذِينَ سَعَوۡ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مِّن رِّجۡزٍ أَلِيمٞ (5) } ]سبأ[

 وقال أيضا: {وَٱلَّذِينَ يَسۡعَوۡنَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ فِي ٱلۡعَذَابِ مُحۡضَرُونَ (38) }]سبأ[

قال الإمام الرازي: " لما بينَّ حال المؤمنين يوم القيامة، بينَّ حال الكافرين، وقوله } وَٱلَّذِينَ سَعَوۡ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ "أي بالإبطال، ويكون معناه الذين كذبَّوا بآياتنا، وحينئذ يكون هذا في مقابلة ما تقدم، لأن قوله تعالى (ءامَنوُا ) معناه صدقوا، وهذا معناه كذبوا، فإن قيل من أين عُلم كون سعيهم في الإبطال مع أن المذكور مطلق السعي؟

 فنقول: فُهِم من قوله تعالى مُعَاجِزِينَ ، وذلك لأْنه حال، معناه سعوا فيها وهم يريدون التعجيز، وبالسعي في التقرير والتبليغ لا يكون الساعي معاجزاً، لأْن القرآن وآيات الله معجزةٌ  في نفسها لا حاجة لها إلى أحد، وأما المكذِّب فهو آت بإخفاء آيات بينات، فيحتاج إلى السعي العظيم والجد البليغ ليروِج كذبه لعله يعُجِز المتمسكَ به، وقيل بأن المراد من قوله مُعَاجِزِينَ أي ظانين أنهم يفوتون الله، وعلى هذا يكون كون الساعي ساعياً بالباطل في غاية الظهور، ولهم عذاب في مقابلة لهم رزق".

واختلف المفسرون في مفهوم السعي بالتعجيز في آيات الله:                                                                                       

- فقال الطبري: "معناه: عملوا في حججنا فصدوا عن اتباع رسولنا والإقرار بكتابنا الذي أنزلناه."

 ونقل عن ابن عباس أنه قرأها معاجزين بالأْلف، وقال: مشاقين، وعن قتادة قال: كذبوا بآيات الل فظنوا أنهم يعُجزون الله، وعن مجاهد أنه قرأ الآية (مُعجِّزين) بتشديد الجيم بغير ألف وقال: مُبطِئين، يبطئون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

والظاهر أن الإمام الطبري حينما اختار في شرح السعي بالمعاجزة في آيات الله معنى الصد عن اتباع الرسول والإقرار بالكتاب المنزل، قد انتزعه من سياق سورة سبأ، في قوله تعالى:{ وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ قَالُواْ مَا هَٰذَآ إِلَّا رَجُلٞ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمۡ عَمَّا كَانَ يَعۡبُدُ ءَابَآؤُكُمۡ وَقَالُواْ مَا هَٰذَآ إِلَّآ إِفۡكٞ مُّفۡتَرٗىۚ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلۡحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ (43) }

]سبأ[.

ولذلك قال الإمام الرازي: " اجتهدوا في ردها والتكذيب بها حيث سموها سحرا وشعراً وأساطير الأولين"

ومن النماذج التي ترد في سياق التعجيز في آيات الله، قصة فرعون الذي قابل آيات الله البينة ومعجزات موسى الظاهرة ،بالصدود والإعراض والاستقواء بجمعه وملئه وسحرته، فقال تعالى يحكي حاله: {هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ (15) إِذۡ نَادَىٰهُ رَبُّهُۥ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوًى (16) ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ (17) فَقُلۡ هَل لَّكَ إِلَىٰٓ أَن تَزَكَّىٰ (18) وَأَهۡدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخۡشَىٰ (19) فَأَرَىٰهُ ٱلۡأٓيَةَ ٱلۡكُبۡرَىٰ (20) فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ (21) ثُمَّ أَدۡبَرَ يَسۡعَىٰ (22) فَحَشَرَ فَنَادَىٰ (23) فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلۡأَعۡلَىٰ (24) فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلۡأٓخِرَةِ وَٱلۡأُولَىٰٓ (25) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبۡرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰٓ (26)} ]النازعات[. 

قال الطبري: " وقوله: (ثُمَّ أَدۡبَرَ يَسۡعَىٰ ) يقول: ثم ولىَّ مُعرضا عما دعاه إليه موسى من طاعته ربهَّ، وخشيته وتوحيده.

(يسَعَى) يقول: يعمل في معصية الله، وفيما يُسخطه عليه.

وقال مجاهد، قوله: ( ثُمَّ أَدۡبَرَ يَسۡعَىٰ) قال: يعمل بالفساد".

وذكر الإمام القرطبي في معني (أدبر يسعي) ثلاثة :

 فقال: "يسعى، أي يعمل بالفساد في الْرض .

وقيل: يعمل في نكاية موسى.

وقيل: أدبر يسعى هاربا من الحية. "

ثانيا: السعي للإفساد في الأرض:ـ  :

لقد ذكر الله تعالي في بيان السعي المكفور ... 

السعي المكفور .. مسعي شيطاني.. الهدف منه الإفساد.

والإفساد:  إخراج الشيء عن طبيعته، فالأخلاق تفسد، والعلاقات تفسد، والجو يفسد، والماء يفسد، والنبات يفسد، والتربة تفسد، والبحار تفسد والنفوس البشرية تفسد، هناك شخص يسعى إلى إفساد الحياة، أحياناً إفساد العلاقات بين المجتمع كالسعي بين الناس بالنميمة ،وأيضا محاولة  تجميع الْموال بأيد  قليلة وحرمان الكثرة الكثيرة منها.

فكلمة فساد واسعة جدا ً تشمل العمل بالمعاصي وقطع الطريق وإفسادها، ويتسع لمعاني التحيل وإرادة الدوائر بالإسلام، وإتلاف الأْموال وقطع الأْرحام، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين ، وترويج المخدرات ، والدعارة..

نجد أن الله تعالي صمم الحياة على نحو معين، الذي هو الكمال المطلق، وكل مسعى لتغير هذا النموذج، ولإخراج الإنسان عن سر وجوده هو الفساد.

قال تعالى {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (206)} ]البقرة[

وقد وصف الله بعضا من بني إسرائيل أنهم يسعون في الأرض فساداً كما قال الله تعالي{ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادٗاۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ (64)}]المائدة[ ، أي أنهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت، وهو من جنس الفساد المذكور .

ومما يشاكل هذا المعنى ما وصف به الله تعالى المحاربين إذ قال تعالي { إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)} ]المائدة[

ومعلوم أن المحارب قد يقتل، وقد يأخذ المال، وقد يخيف وير وِع الآمنين... وهذا كله من جنس الفساد الممقوت عند الله .

ثالثا : السعي في تخريب المساجد:ـ 

لقد ذكر الله تعالي نوعا آخر من السعي المكفور وهو السعي في تخريب بيوت الله وهي المساجد وذلك لإفساد دين الناس

فقال تعالى:{ وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ (114)}]البقرة[

فمن الأعمال الممقوتة التي تستوجب الخزي والعذاب العظيم السعي في تخريب المساجد،

وتخريب المسجد قد يكون حقيقيا بهدمها وتنجيسها وسفك دماء من يردها، وقد يكون مجازا بتعطيلها عن الصلاة وإظهار شعائر الإسلام فيها.

 قال الرازي: "السعي في تخريب المسجد قد يكون لوجهين:

أحدهما: منع المصلين والمتعبدين والمتعهدين له من دخوله ،فيكون ذلك تخريبا،

والثاني: بالهدم والتخريب"

اختلفت أقوال العلماء في تعيين المسجد الذي طاله التخريب، ومُنِع ذكرُ اسم الله فيه، أهو بيت المقدس؟

أم بيت الله الحرام؟

وأيا كان ترجيح المفسرين، إلا أن اللفظ عام ورد بصيغة الجمع (مساجد الله)، فتخصيصها ببعض المساجد دون بعض تحكُّم.

وقد قال الطبري: " إن كل مانع  مصليا في مسجد لله ،فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا، وكل ساع  في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين "

تخريب المساجد مثال يقاس عليه كل اعتداء على شعائر الله ، وانتهاك لحرماته، فيدخل في ذلك: محاولات المس بقدسية القرآن الكريم، والإساءة إلى شخصية النبي عليه الصلاة والسلام، والتهجم على الحجاب الشرعي، وانتقاص الأحكام الشرعية المنصوصة...

قال الإمام الرازي: "إذا كان الساعي في تخريب المساجد في أعظم درجات الفسق، وجب أن يكون الساعي في عمارته في أعظم درجات الإيمان"

وفي هذا دعوة إلى تعظيم قدر المساجد، وتخويلها المنزلة المنيفة التي تستحقها بيوت الله، سواء بالإنفاق على بنائها وعمارتها، وتأهيل القائمِين عليها، أو في تيسير سبيل من يقصدها للصلاة والذكر وطلب العلم النافع، بدل من إغلاقها مباشرة عقب إنهاء الفرائض، كما هو حال كثير من مساجد العالم الإسلامي.

العنصر الخامس : أسباب السعي المكفور :ـ 

لا شك أن أصحاب السعي المكفور ضل سعيهم وحبط لفقدان شروط السعي المشكور ، وتوفر عندهم أمران:

وهما فساد الاعتقاد، والمراءاة

وقد أخبر الحق سبحانه وتعالى أن صنفا من العاملين سيحبط عمله، ويضل سعيه في الحياة الدنيا، ويبوء بجهنم خالدا فيها وبئس المصير: قال تعالى:{قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا (103) ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا (104) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا (105) }]الكهف[

والآيات مسوقة مساق التوبيخ لقوم " أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحا وفضلا فنالوا به عَطَبا وهلاكا ولم يدركوا طلبا، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحا، فخاب رجاؤه، وخسر بيعه، ووكس في الذي رجا فضله."

وإنما وبخت الآيات هذا الصنف من البشر لأْنهم: "لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به، بل على كفر منهم به، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا:

يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون."

وفي الختام :ـ

نتوسل إلى الله تعالي الشكور أن يجعل سعينا وسعي كل مومن مشكورا، ويجعل أعمالنا كلها صالحة ولوجهه الكريم خالصة متقبلة ولا يجعل للشيطان ولا للنفس حظا ولا نصيبا إنه ولي ذلك والقادر عليه. 

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيراَ 

انتهت بفضل الله تعالي

المشاهدات 3254 | التعليقات 0