السِّراج المُنير

د. محمود بن أحمد الدوسري
1439/02/03 - 2017/10/23 16:50PM
السِّراج المنير
د. محمود بن أحمد الدوسري
 
1/4/1438                                      
         الحمد لله ... قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } [الأحزاب: 45, 46].    يا أيها النبي! إنَّا أرسلناك شاهداً على أمتك بإبلاغهم الرسالة, ومبشراً المؤمنين منهم بالرحمة والجنة, ونذيراً للعصاة والمكذبين من النار, وداعياً إلى توحيد الله تعالى, وعبادته وحده لا شريك له.
       فقوله تعالى: {وَسِرَاجًا مُنِيرًا } معطوف على ما قبله, أي: وأرسلناك سراجاً منيراً.     والسراج: هو المصباح الذي يُستضاء به في الظلمات.
       والمعنى: أرسلناك سراجاً منيراً لِمَن استنار بك, فأمْرُك ظاهر فيما جئت به من الحق؛ كالشمس في إشراقها وإضاءتها, لا يجحدها إلاَّ معاند.
       أرسلناك - أيها الرسول الكريم - بالدين القويم؛ لتكون كالسراج المنير الذي يهتدي به الضالون, ويخرجون بسببه من الظلمات إلى النور.
       والسؤال هنا: لماذا وُصِفَ السراج بالإنارة؟
       1- وُصِفَ السِّراجُ بالإنارة؛ لأنَّ من المصابيح ما لا يُضِيء, إذا لم يُوجد به ما يُضيئه من زيت أو ما يُشبهه.
       2- ووُصِفَ السراجُ – أيضاً – بالإنارة؛ لأن من السراج ما لا يضيء إذا قَلَّ زيته, ودقَّت فتيلتُه.
       وكونه صلى الله عليه وسلم {سِرَاجًا مُنِيرًا } يقتضي أن الخلق كانوا - قبل مبعثه - في ظُلمةٍ عظيمة, وليس ثمَّة نور؛ يُهتدى به في هذه الظلمات, ولا علم؛ يُستدل به في هذه الجهالات, حتى جاء اللهُ تعالى بهذا النبي الكريم، فأضاء اللهُ به تلك الظلمات، وعَلَّمَ به من الجهالات، وهدى به ضُلاَّلاً إلى الصراط المستقيم, وأمَدَّ اللهُ بنور نُبوَّتِه نورَ البصائر؛ كما يُمَدُّ بنور السراجِ الأبصار.
       فأصبح أهلُ الاستقامة – أعني بهم: المتمسكين بهدي نبيهم وسنته – قد وضَحَ لهم الطريق, فمَشَوا خلف هذا الإمام القائد العظيم صلى الله عليه وسلم, وعرفوا به الخيرَ والشر، وأهلَ السعادة من أهل الشقاوة، واستناروا به، لمعرفة معبودهم سبحانه وتعالى، وعرفوه بأوصافه الحميدة، وأفعاله السديدة، وأحكامه الرشيدة(1).
       إخوتي الكرام .. هاتان الآيتان الكريمتان قد ضَمَّتا عدَّة أوصافٍ لنبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم, وهي: {شَاهِدًا} و{مُبَشِّرًا}, و{نَذِيرًا}, و{دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ} ثم خُتمت بوصفه {سِرَاجًا مُنِيرًا}, والسراجُ بطبيعته مُنير, فجاء الوصف للسِّراج بكونه منيراً؛ إمعاناً في إنارته, وزيادةً في إضاءته.
       والسراجُ المنير خُتِمت به الآية وخُتِمت به الأوصاف؛ لأنَّ جميع الصفات السابقة متضمِّنة  فيه, فالسراج المنير يعني نورَ الحق ونورَ الهدى الذي يُشِعُّ على الكون بأسره, فيشهده الجميع, فيَسْتبشر به المؤمنون المُوَحِّدون, ويُنذَر به المعاندون والمكابرون, فيكون صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الحق والهدى بإذن الله تعالى. ولكن؛ ما أسباب وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالسراج المنير؟
       ممَّا ذكره أهل التأويل في أسباب وصفه صلى الله عليه وسلم بالسراج المنير:
      1- أنَّ الله تعالى جلَّى به ظلمات الشرك, واهتدى به الضالون, كما يُجْلَى ظلامُ الليل بالسراج المنير, ويُهتدى به(2). (ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن السِّراجَ المعروف, وإنما سُمِّي سراجاً؛ بالهدى الذي جاء به, ووضوحُ أدلته بمنزلةِ السِّراج المنير)(3).
       2- أنَّ أمره صلى الله عليه وسلم ظاهرٌ فيما جاء به من الحق؛ كالشمس في إشراقها وإضاءتها لا يجحدها إلاَّ مكابر ومعاند(4).
      3- أنه صلى الله عليه وسلم كالسراج المنير الذي به تُستَنار الأشياء في الظلمة؛ لأنه بُعِثَ وقد طَبَّقَتْ على الأرض ظلمةُ الشرك, فكان كالسراج الذي يظهر في الظلمة(5).
      4- أنه صلى الله عليه وسلم يُستضاء به في ظلمات الجهل والغواية, ويُهتدى بأنواره إلى مناهج الرُّشد والهداية, والمقصود: أن يهتديَ به مَن اتَّبعه من أُمَّته التي استجابت لدعوته المباركة(6).
       فهذا تشبيهٌ بليغ - والجملة فيه حالية {سِرَاجًا مُنِيرًا} أي: أرسلناك كالسِّراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبسَ فيها, والتي لا تترك للباطل شبهةً إلاَّ فضَحَتْهَا وأوقفت الناس على دخائلها، كما يُضيء السراج الوقَّاد ظلمةَ المكان. وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من البيان, وإيضاحِ الاستدلال, وانقشاعِ ما كان قبله في الأديان(7).
       فحين سطعتْ أنوارُ الهداية على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَعُدْ للشرائع الأُولى أنْ تتدخَّل, فرسالته المباركة هيمنة على جميع الرسالات السابقة, على حدِّ قول المادح:
كأنَّكَ شمسٌ والملوك كَواكِبُ       إذا طَلَعَتْ لم يَبْدُ مِنهنَّ كَوكَبُ(8)
       فإنْ كان هذا وصفه صلى الله عليه وسلم, فإنَّ المَنْطِقَ والعقل يقضيان بأنَّ كلَّ ما يصدر عنه من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير خيرٌ محضٌ, وحقٌّ مطلقٌ, فتُقَدَّم تعاليم دينه على ما عداها, ويُقدَّم هديُه على هدي غيره, وهذا من عظمته صلى الله عليه وسلم وعظمة وصفه.
 
الخطبة الثانية
       الحمد لله المُتَّصِف بصفات الكمال, والمنعوت بنعوت الجلال والجمال, والمنفرد بالإنعام والإفضال, والعطاء والنَّوال, سبحانه لا يزال في نعوت جلاله مُنَزَّهاً عن الزوال, وفي صفات كماله مُستغنياً عن زيادة الاستكمال, أحمدُه تعالى على ما ألهم, وعلَّم من العلم ما لم نعلم, مَنَّ علينا بالإيمان, وشرَّفنا بتلاوة القرآن, فأشرقت علينا - بحمد الله - أنواره, وبدت لذوي المعارف عند التلاوة أسراره, وفاضت على المتقين عند التدبر والتأمل بحاره.
       والصلاة والسلام الأتمَّان على البشير النذير, والسراج المنير, سيد الأوَّلين والآخرين؛ سيدنا محمدٍ؛ الذي جعله الله تعالى نوراً, ومنيراً: فقال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]؛ وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } [[الأحزاب: 45, 46]. اللهم صلِّ عليه, وعلى آله الأطهار, وصحابته الأبرار.
        وبعد؛ أيها الأحبة .. جمع الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بين النورين: النور المعنوي والنور الحسي:
       فالنور المعنوي: هو (نور الهداية), والنور الحسي: هو (وضاءةُ وجهِه وجمالُه), ومَنْ تأمل في كتب الشمائل المحمدية(9), أو أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم في كتب السنة وجَدَها تصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ (وجهه يتلألأ تلألؤ القمر ليلة البدر)(10), ومما جاء في وصف وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم:
         1- سُئِلَ الْبَرَاءُ بنُ عازبٍ - رضي الله عنه: (أَكَانَ وَجْهُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ السَّيْفِ؟ قال: لاَ, بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ)(11).
       2- وسُئِلَ جَابِرُ بنُ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - عن صفةِ وجهِ النبيِّ, فقيل له: (وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ قال: لاَ, بَلْ كان مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ, وكان مُسْتَدِيرًا)(12).
        3- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (ما رأيتُ شَيْئاً أَحْسَنَ مِنْ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّ الشَّمْسَ(13) تجري في وَجْهِهِ)(14).
       4- وعن جَابِرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قال: (رأيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في لَيْلَةٍ إِضْحِيَانٍ(15), فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إلى رسولِ صلى الله عليه وسلم, وَإِلَى الْقَمَرِ؛ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ؛ فإذا هو عِنْدِي أَحْسَنُ من الْقَمَرِ)(16).
       ووجهه كأنَّ الشمسَ حلَّت رداءَها      عليه، نقيُّ اللَّون لم يتخَدَّدِ(17)
       عباد الله .. نخلص مما سبق إلى أنَّ مَنْ كانت هذه أوصافه وتلك أخلاقه, فحريٌّ به ألاَّ يقول إلاَّ حقًّا, وحريٌّ به ألاَّ يُرشِد إلاَّ إلى الخير والهدى, وما فيه صلاحُ الناس في الدنيا والآخرة.
       وقد زاد من عظمة هذه الأوصاف أنها من ربِّ العالمين, نَعَتَ بها نبيَّه الأمين, فكانت شهادتُه سبحانه لنبيِّه بهذه الأوصاف دليلاً على عظمته صلى الله عليه وسلم, وعلوِّ مكانته, ورِفعة شأنه, وعدالته وصِدقه وتوثيقه.
       وإذا كان الناس يُعدِّل بعضُهم بعضاً, فيقبلون الشهادات والروايات اعتماداً على توثيقٍ بشريٍّ قد يُصيب وقد يُخطئ, فما ظنُّنا بمَنْ عَدَّله ربُّه ووثَّقَه, فبلغ به إلى أعلى مراتب التعديل والتوثيق التي لا تُدانيها مرتبة, ولا تُقاربها منزلة, فختم به الأنبياءَ في الدنيا, وبلَّغه المقامَ المحمودَ في الآخرة.
       وهذا يقتضي - أحبتي الكرام - أنْ يُقبَل منه صلى الله عليه وسلم كلُّ قولٍ أو فعلٍ أو تقرير, أي: أنْ تُقبَل سُنَّتُه ولا تُرد, ويُقبل شرعُه فلا يُرفض؛ بل, ولا يُقدَّم عليها شيءٌ آخَر, {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]؛ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
       واليوم – إخوتي الكرام – نرى البشرية التائهة في ضلال مبين؛ نعم ضلال مبين في الأديان والمعتقدات, في الاقتصاد والسياسة, في الأمور الاجتماعية والنفسية؛ لذا كثر الشقاء وازدادت الحيرة وحالات الانتحار, وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124-126]. ويُستثنى من ذلك مَن اتَّبع شرعَ النبي صلى الله عليه وسلم وهديَه؛ ظاهراً وباطناً, نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.
      نـــــــــور النبيِّ عــــــلا عــلـى الأنوار          فــــــهو الــدليلُ لِــسُبُلِ دار قرارْ 
     صـــــــلُّوا عليه, لـــــــعلكم تنـجوا بـه         يوم الحسابِ وكُشْفَةِ الأسرارْ 
      صلُّوا على السِّراج المنيرِ إذا بدا        فــــهو الـــحبيبُ لـــــربِّنا الـــجبــارْ 
      صــلُّوا علـــى نــــورٍ تكــوَّن بالهدى         فــهو الشفيع لــصاحِبِ الأوزارْ (18)
       الدعاء ...
ــــــــــ
(1) انظر: تفسير السعدي, (1/668).
(2) انظر: الكشاف, (3/556).
(3) دقائق التفسير, (2/470).
(4) انظر: تفسير ابن كثير, (3/498).
(5) انظر: أحكام القرآن, للجصاص (5/231).
(6) انظر: تفسر الطبري, (22/18)؛ تفسير أبي السعود, (7/108).
(7) انظر: التحرير والتنوير, (22/108).
(8) البحر المحيط, (6/408).
(9) انظر: الشمائل المحمدية والخصائص المصطفوية, للترمذي؛ شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم, لابن كثير.
(10) صفة النبي صلى الله عليه وسلم وجميل أخلاقه, محمد بن عبد الواحد المقدسي, (ص146).
(11) رواه البخاري, (3/1304), (ح3359).
(12) رواه مسلم, (4/1823), (ح2344).
(13) (كَأَنَّ الشَّمْسَ): أي: نورها, وفي تشبيه لَمَعان أنوار وجهه صلى الله عليه وسلم بلمعان أنوار الشمس.
(14) رواه ابن المبارك في (الزهد), (1/288), (ح838)؛ وابن سعد في (الطبقات الكبرى), (1/379)؛ وأحمد في (المسند), (2/380), (ح8930).
        وحسنه محققو المسند, (14/506), (ح8942).
(15) (إِضْحِيَانٍ): مُقْمِر مُضيء, وكأنَّه الضُّحى بالنهار. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر, (3/78).
(16) رواه الدارمي في (سننه), (1/44), (ح57)؛ والترمذي, (5/118), (ح2811) وقال: (حسن غريب). وضعفه الألباني في (ضعيف سنن الترمذي),              (ص316), (ح2811).
(17) جمهرة أشعار العرب, لأبي زيد القرشي (ص126).
(18) بستان الواعظين ورياض السامعين, (ص294).
 
 
المرفقات

المنير

المنير

المشاهدات 1771 | التعليقات 0