السخاء بالدعاء شيمة النبلاء

أ.د. صالح بن فريح البهلال
1442/02/10 - 2020/09/27 23:42PM

الحمد لله وفق من شاء من عباده للهدى، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا تحصى آلاؤه عددًا، وأشهد أن نبينًا محمدًا عبد الله ورسوله، أزكى الورى، ورسول الهدى، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه مصابيح الدجى، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الجزاء.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله في حَلكم وترحالكم، وظعنكم وإقامتكم؛ فالتقوى خير الزاد، والمتقون هم السادة الأمجاد.

عباد الله: السخاء في الدعاء، هو شيمة النبلاء، وفِعلة الفضلاء، هو أمارة طهارة وزكاء، ودليل سخاوة نفس وصفاء، فيا أيها الشرفاء، ما معنى السخاءِ في الدعاء؟

إن معناه أن يكون أخوك المسلم حاضراً معك في خلواتك، فتؤثَره ببعض دعواتك، ويكونَ له حظ من تضرعك ومناجاتك، فتصعد باسمه في الخفاء إلى السماء، عن طريق الدعاء، فيالله ما أجمل هذا الوفاء، وما أزكى هذا الإخاء!

وقد ورد في هذا فضل عظيم،  فقد أخرج  مسلم من حديث صفوانَ بنِ عبد الله  أنه قدم الشام، فأتى أبا الدرداء، وكان صفوان زوج ابنته، فلم يجده، ووجد أم الدرداء، فقالت له: أتريد الحج، فقلت: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل) قال: فخرجت إلى السوق فلقيت أبا الدرداء، فقال لي مثل ذلك يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فدل هذا الحديث بأن دعاء المسلم لأخيه المسلم مستجاب؛ ولذا جاء عن بعض السلف أنه إذا أراد أن يدعو لنفسه، فإنه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ لأنها تستجاب، ويحصل له مثلها.

وكلما كان الدعاء للآخرين أعم وأشمل كان أزكى وأفضل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء على الأرض) اهـ. كلامه.

وقد اشتهر عن بعض الأكابر اهتمامهم بالدعاء لإخوانهم المؤمنين؛ فمن ذلك ما أخرجه البيهقي عن الإمام الكبير عبد الله بن المبارك أنه كان إذا خَتم القرآن، أكثرُ دعاءه للمؤمنين والمؤمنات.

فيا لله ما أطيب هذه النفس التي تؤثر الآخرين عليها!  إنها لنفس زكية، طاهرة تقية.

وفي مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي أن الإمام أحمد لما مرض مرض موته، دخل عليه الناس فوجاً فوجاً يزورونه، ودخل عليه رجل فَجعل يدعو له، فجعل الإمام أحمد يقول له: (ولجميع المسلمين).

سبحان الله، ما أعظم هذا الإمام!  في آخر أيامه، وفي شدة مرضه، قد أشفى على الموت، ومع ذلك لم ينس إشراك المسلمين معه بالدعاء؛ وهكذا العظماء، حالهم سواء، في السراء والضراء، لا يعيشون لأنفسهم؛ وهذا من أسباب عظمتهم ورفعتهم وبركتهم.

وإن الدعاء للآخرين ـ يا عباد الله ـ ليتأكد لمن فعل لك معروفاً، فقد أخرج أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه).

وأعظم الناس معروفاً علينا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلنكثر من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم؛ فهذا من حقوقه علينا.

ثم الوالدان؛ فلهما حق على الأبناء بالدعاء؛ ومن علامات صلاح الإنسان مداومته على الدعاء لوالديه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، وذكر منها: أو ولد صالح يدعو له) أخرجه مسلم، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك) أخرجه أحمد. فلا تملوا أيها الأفاضل من الدعاء والاستغفار لآباءكم وأمهاتكم ولا تسأموا؛ فهذا من أعظم الأعمال والهدايا التي تقدم لهم بعد موتهم.

ويتأكد الدعاء لولي أمر المسلمين؛ فصلاحه صلاح للعباد والبلاد، وقد أخرج الخلال في السنة، أن الإمام أحمد قال: «وإني لأدعو له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار، والتأييد، وأرى ذلك واجباً علي».

كما يتأكد الدعاء لمن علمك علماً، وقد كان الإمام أبو حنيفة يقول: (ما صليت صلاة إلا استغفرت لحماد بن أبي سليمان مع والدي) وكان حماد شيخه.

 بل الرجل ذو المروءة يدعو لمن أحسن إليه، حتى ولو كان إحسانه يسيراً، وقد كان الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ يدعو كثيراً للص! نعم يدعو للص!

فما سبب دعائه لهذا اللص؟

إنه فقط بسبب كلمة طيبة قالها له، فما هذه الكلمة؟

يحكي الموقف عبدالله بن الإمام أحمد، فيقول: (كنت كثيراً أسمع والدي يقول: رحم الله أبا الهيثم، عفا الله عن أبي الهيثم، فقلت: يا أبة، من أبوالهيثم؟ قال: ما تعرفه؟ قلت: لا. قال: أبوالهيثمِ الحداد؛ اليوم الذي خرجت فيه للجلد بالسياط، إذا أنا بإنسان يجذب ثوبي من ورائي، ويقول لي: تعرفني؟ قلت: لا. قال: أنا أبوالهيثم العيار، اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني ضربت ثمانية عشر ألفَ سوط بالتفاريق، وصبرت في ذلك على طاعة الشيطان؛ لأجل الدنيا، فاصبر أنت في طاعة الرحمن لأجل الدين).

وإن دعاءك واستغفارك للأقارب والجيران، والأهل والإخوان لهو سبيل لتكفير ما يقع تُجاههم من التقصير. 

وإن من علائم الإخوة الصادقة، دعاء المسلم لإخوانه؛ وقد كان أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يقول: (إني لأدعو لثلاثين من إخواني وأنا ساجد أسميهم بأسمائهم وأسماء آبائهم).

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ ثم توبوا إليه، إن ربي رحيم ودود.

 

الخطبة الثانية

الحمدلله وكفى، وصلاة وسلاماً على نبيه المصطفى، محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد :

فإن هناك ـ يا عباد الله ـ نوعاً من الدعاء يتأكد بذله  للمسلمين، وهو الاستغفار لعموم المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله بذلك فقال له: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).

وفي نص نفيس لابن القيم في ذلك يقول: (ينبغي  للمسلم أن يستغفر لأخيه المسلم فيصيرَ عادته: رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات وللمؤمنين والمؤمنات، وقد كان بعض السلف يستحب لكل احد أن يداوم على هذا الدعاء...، وسمعت شيخنا يذكره، وذكر فيه فضلا عظيما لا أحفظه، وربما كان من جملة أوراده التي لا يخل بها، وسمعته يقول: إنَّ جعلَه بين السجدتين جائز) اهـ كلامه.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، اللهم فرج هموم المسلمين، ونفس كروبهم، واشف مرضاهم، وعاف مبتلاهم، وارحم موتاهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

المشاهدات 1883 | التعليقات 0