السجين

تركي بن عبدالله الميمان
1446/01/25 - 2024/07/31 20:01PM

🌟خطبة السجين🌟
((اللسان))

إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْد: فَاتَّقُوا اللهَ، وَتَمَسَّكُوا بِهُدَاه؛ فَالتَّقْوَى تَدْفَعُ الأَحْزَان، وتَجْلِبُ الأَمْان! ﴿وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
عِبَادَ الله: هَذِهِ زِيَارَةٌ قَصِيرَة، لِسَجِينٍ صَغيرِ الحَجمِ، عَظِيمِ الجُرمِ، سَرِيعِ الحَرَكَةِ، شَدِيدِ الهَلَكَةِ، يَقِفُ خَلْفَ القُضْبَانِ البَيضَاء: إِنَّهُ اللِّسان!
قال ابنُ مَسْعُودٍ t: (وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؛ مَا عَلَى الأَرْضِ شَيْءٌ أَحْوَجَ إلى طُولِ سَجْنٍ مِنْ لِسَانٍ).
وَمِنْ أَعْظَمِ مَا مَنَّ اللهُ بِهِ على الإِنسانِ، ومَيَّزَهُ عن سَائِرِ الحَيَوَانِ: أَنْ خَصَّهُ باللِّسَانِ؛ لِيُعَبِّرَ بِهِ عَنْ مَشَاعِرِه، ويُفْصِحَ عن مَطَالِبِه؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾.

ومَا حَبَسَ اللهُ جَارِحَةً في سِجْنٍ؛ أَوْثَقَ مِنَ (اللِّسَانِ): فالأَسنَانُ أَمَامَه، والشَّفَتَانُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، فَلَا تُطْلِقْ لِسَانَكَ مِنْ حَبْسِهِ؛ إِلَّا إذا أَمِنْتَ شَرَّهُ!

قال ﷺ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ).

وَحَبْسُ اللِّسَانِ؛ سَبَبٌ لِلأَمَان! قال ابنُ حَزْم: (كَمْ شَاهَدْنَا مِمَّنْ أَهْلَكَهُ كَلَامُهُ، وَلَم نَرَ أَحَدًا ولَا بَلَغَنَا؛ أَنَّهُ أَهْلَكَهُ سُكُوتُه).

ولا يَسْتَقِيمُ سَيْرُ المُسلِمِ إلى الله؛ إِلَّا بِحَبْسِ لِسَانِهِ عن أَمرَينِ اثنَين: 1- حَبْسِهِ عَمَّا لَا يُفِيد، 2- وحَبْسِهِ على ذِكْرِ الله، وَمَا يَزِيْدُ فِي إِيمَانِهِ. قال ابنُ القَيِّم: (فَلَا يُفَارِقُ الحَبْسَ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ؛ فَيُخَلِّصهُ مِنَ السِّجْنِ إلى أَوْسَعِ فَضَاءٍ وأَطْيَبِه، وَمَنْ لم يَصْبِرْ على هَذَيْنِ الحَبْسَيْن؛ أَعْقَبَهُ ذَلِك الحَبْسُ الفَظِيعُ؛ فَكُلُّ خَارِجٍ مِنَ الدُّنْيَا: إِمَّا مُتَخَلِّصٌ مِنَ الحَبْسِ، وَإِمَّا ذَاهِبٌ إِلَى الحَبْس!).

وَحَرَكَةُ الِّلسَان: أَيْسَرُ حَرَكَاتِ الجَوَارِحِ، وَهِيَ أَضَرُّهَا على العَبْد! فَقَدْ أَخَذَ ﷺ بِلِسَانِهِ، وقالَ لِمُعَاذٍ t: (كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا)، فقال: (يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّا لمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟!) قال ﷺ: (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ!).

ودَخَلَ عُمَرُ على أَبِي بَكْرٍ t -وَهُوَ آخِذٌ بِلِسَانِهِ- ويقول: (هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي المَوَارِدَ!).

ومَنْ عَدَّ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ: قَلَّ كَلَامُهُ إلَّا فِيمَا يَعْنِيهِ! قال U: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾. قال الحَسَنُ البَصْرِي: (يَا ابْنَ آدَمَ، بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ، وَوَكَلَ بِكَ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ: أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِكَ، وَالآخَرُ عَنْ شِمَالِكَ؛ فَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَمِينِكَ فَيَحْفَظُ حَسَنَاتِكَ، وَأَمَّا الَّذِي عَنْ يَسَارِكَ فَيَحْفَظُ سَيِّئَاتِكَ؛ فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ).

وَرُبَّ كَلِمَةٍ جَرَى بِهَا اللِّسَان؛ هَلَكَ بِهَا الإِنسَان! قال ﷺ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا؛ يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا في النَّار!). قال ابنُ القَيِّم: (وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي في أَعرَاضِ الأَحيَاءِ وَالأَموَاتِ، ولَا يُبَالِي مَا يَقُولُ!).

وَمَنْ عَوَّدَ لِسَانَهُ ذِكْرَ الله: صَانَهُ عنِ الباطِلِ؛ واللِّسَانُ إِنْ لم تَشْغَلْهُ بالخَيرِ؛ شَغَلَكَ باللَّغو، وَمَنْ صَارَ لِسَانُهُ يابِسًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ؛ تَرَطَّبَ بِكُلِّ بَاطِلٍ وَإِثم! قالَ رَجُلٌ: (يَا رَسُولَ الله؛ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ؟) فقال ﷺ: (لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ).

واللِّسَانُ الغَافِلُ؛ مِنْ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ! قال ابنُ عَبَّاسٍ t: (الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ ابنِ آدَمَ؛ فَإِذَا غَفَلَ وَسْوَسَ، فَإِذَا ذَكَرَ اللهَ خَنَسَ!).

واحْذَرْ أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُكَ تَفْكِيْرَك: فَإِنَّ الكَلَامَ أَسِيرُكَ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ فِيكَ صِرْتَ أَسِيرَهُ! قال بعضُ السَّلَف: (قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ، أَوِ اسْكُتْ عَنْ سُوءٍ تَسْلَمْ، وَإِلَّا فَاعْلَمْ أَنَّكَ سَتَنْدَمُ).

ولا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ؛ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ولسَانُهُ؛ قال ﷺ: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ –أي تَخْضَعُ له- فَتَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ: فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا). قال عليُّ بن أبي طالب t: (اللِّسَانُ قِوَامُ الْبَدَنِ، فَإِذَا اسْتَقَامَ اللِّسَانُ: اسْتَقَامَتِ الجَوَارِحُ، وإذا اضْطَرَبَ اللِّسَانُ: لَمْ يَقُمْ لَهُ جَارِحَةٌ).

وَمِنْ عَلامَةِ الإيمان، وحُسْنِ الإِسْلام: عَدَمُ الكَلَامِ إِلَّا في رِضَى الرَّحْمَنِ؛ قال ﷺ: (مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ؛ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ). قال ابنُ رَجَب: (وَأَكْثَرُ مَا يُرَادُ بِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي: حِفْظُ اللِّسَانِ مِنْ لَغْوِ الكَلَامِ).
وَحِفْظُ اللِّسَانِ: سَبَبٌ لِدُخُولِ الجِنَان؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُدخِلُ النَّار: الفَمُ والفَرْجُ! قال ﷺ: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ -أي لسانَه- وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ -أي الفَرْج- أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ).

وَمِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ، وكَمَالِ عَقْلِهِ: قِلَّةُ كَلامِهِ فيما لا يَعْنِيهِ ولا يُفِيدُه؛ فَإِذَا تَمَّ العَقْلُ؛ نَقَصَ الكَلَامُ! قال أبو الدَّرْدَاءِ t: (إِنَّمَا جُعِلَتْ لَكَ أُذُنَانِ وفَمٌ واحِدٌ؛ لِتَسْمَعَ أَكثَرَ مِمَّا تَتَكَلَّم).

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمْدُ للهِ عَلَى إِحسَانِه، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِه، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ القَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، والخَطُّ لِسَانُ اليَد؛ فاحْفَظْ يَدَكَ عِندَ الكِتَابَةِ، كَمَا تَحْفَظُ لِسَانَكَ عند الكِلَام، فَإِنَّ (اليَدَ واللِّسَانَ)، شاهِدَانِ على الإنسان! قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ﴾.

* * * *
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ (وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.

المرفقات

1722445229_‏‏‏‏السجين (نسخة مختصرة).pdf

1722445229_‏‏السجين (نسخة للطباعة).pdf

1722445229_السجين.pdf

1722445232_السجين.docx

1722445232_‏‏السجين (نسخة للطباعة).docx

1722445232_‏‏‏‏السجين (نسخة مختصرة).docx

المشاهدات 644 | التعليقات 0