الستر خلق الأنبياء والصالحين
إبراهيم بن سلطان العريفان
1437/05/10 - 2016/02/19 06:34AM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أخوة الإيمان والعقيدة .. صحابي جليل اسمه ماعزُ بن مالكٍ الأسلمي، أحدُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأخيار، ممن وقر الإيمانُ في قلبه، فآمن بربه، وصدَّق برسالة نبيِّه، وعاش في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحمل بين جنبَيه نورَ الإيمان، وضياء التَّقوى، بَيْدَ أنَّه لم ينفك عن بشريَّته، ولم ينسلخ من ضعفه الآدمي ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) فزيَّن له الشيطانُ فعلَ الحرام، وأزَّته نفسُه الأمَّارة نحوَ الفاحشة أزًّا، وفي ساعة الغفلة وسكرة الشَّهوة وقع في الإثم، وكان من أمره ما كان.
عصى ماعزٌ ربَّه، وأيقن أنَّ ذاك من عَمَلِ الشيطان؛ إنه عدو مضل مبين، فاحترق قلبه، وتلوَّعت نفسُه ندمًا وأسفًا، وعاش أيامًا عدة في بُؤس وغمٍّ، وحسرةٍ وهمٍّ.
عندها قرر ماعز أنْ يبوحَ بأمره ذاك إلى أحد بني عشيرته، وهو هزَّال بن يزيد الأسلمي، الذي أشار عليه أن يعترفَ ويقرَّ أمام النبي صلَّى الله عليه وسلم بخطيئته.
مشى المذنب التائب تجرُّه رِجلاه نحوَ الرَّحمة المُهداة، فوقف في حياءٍ واستحياء أمام نبي الرحمة، ونطق بجُرمه ومَعصيته، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فكرر ماعز اعترافَه، وأقرَّ أربعًا، وألح على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقيمَ حدَّ الله، فلم يكُن بدٌّ من إقامة الحد، حدِّ الرجم، فرجمه الصحابة حتَّى فاضت روحُ ماعز إلى بارئها، ثم صلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، واستغفر له، وأثنى على توبته وصدقه مع ربِّه.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ هزَّالاً الأسلميَّ هو الذي أشار عليه بالاعتراف، دعاه ثم قال ( يا هزَّالُ، لو سترته بثَوْبك، كان خيرًا لك مما صنعت به ).
معاشرَ المؤمنين .. ما أجملَ الستر! وما أعظم بركتَه! وأبهى حُلَّته! الستر خُلُق الأنبياء، وسيمة الصَّالحين، يورث المحبة، ويُثمر حسن الظَّن، ويُطفئ نارَ الفساد.
الستر .. جوهر نفيس، وعُملةٌ ثمينة، وسلوكٌ راقٍ.
الستر .. طاعةٌ وقُربان ودِين وإحسان، به تَحفَظُ الأُمَّة ترابُطَها وبُنيانها، وبه تقومُ الأخلاق، ويبقى لها كيانها.
وصف الرَّحمن نفسه بالستر، فهو سبحانه ستِّير يستُر كثيرًا، ويحبُّ أهل السَّتر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلَّم ( إنَّ الله حَيِيٌّ سِتِّير، يُحب الحياء والستر ).
أقرَّ الإسلامُ بهذا الخلق الكريم، وحضَّ وكافأ عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ومَن سَتَرَ مُسلمًا في الدُّنيا، ستره الله في الدُّنيا والآخرة )
لأجل السَّتْر شرع الإسلام حد القذف؛ حتَّى لا تكون الأعراضُ بعد ذلك عرضة للاتهامات.
لأجل الستر أمر الشارعُ في إثبات حدِّ الزنا بأربعة شهود؛ حمايةً للأعراض، وصَوْنًا للمحارم.
لأجل الستر توعَّد الجبارُ أهلَ السوء، الذين يُحبون إشاعة الفاحشة بالعذاب الأليم ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ).
من أجل الستر نَهى الإسلامُ عن التجسس على الآخرين ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا ) والتجسسُ هو البحثُ عن عيبِ المسلمين وعورتهم.
ولقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم خَيْر الخلق وأَعْرفُ الخلق بما يُرضي الله تعالى، فقد كان عظيمَ الحياء، عفيفَ اللِّسان، بعيدًا عن كشف العورات، حريصًا على كَتْم المعائب والزلاَّت، كان إذا رأى شيئًا يُنكره ويكرهُه، عرَّض بأصحابه وألمح، كم من مرَّة قال للناس ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ) ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ).
لقد أدَّب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أمَّته، فأحسن تأديبها يومَ أنْ خطب بالناس، فقال بنبرةٍ حادَّةٍ وصوتٍ عالٍ ( يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتِهم، فإنَّه من يتبع عوراتِهم، يتبعِ الله عورته، ومن يتبعِ اللهُ عورتَه، يفضحه في بيته ).
بهذا المنهج وهذه العِفَّة تربَّى الصَّحابة - رضوانُ الله عليهم - فستروا عيوبَ النَّاس، وطَوَوا معائبَهم.
فهذا صدِّيقُ الأُمَّة رضي الله عنه يقول: لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلاَّ ثوبي، لأحببتُ أن أستره به.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. حين سمع ذاك الرَّجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني عالجت امرأةً فأصبت منها دون أن أمسَّها. بادره عمر - رضي الله عنه - يقول: "لقد سترك الله، لو سترت على نفسك".
وهذه أمُّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تخاطب نساء المؤمنين - بل هي رسالة للأمة - ، فقالت: "يا نساءَ المؤمنين، إذا أذنبتْ إحداكُنَّ ذنبًا، فلا تخبرن به النَّاس، ولتستغفر الله، ولتتب إليه؛ فإنَّ العباد يُعيِّرونَ ولا يُغيِّرون، والله يُغَيِّر ولا يُعيِّ.
أيها المؤمنون .. أَوْلى النَّاس بالسَّتْر: أن يستر العبدُ نفسَه، ويُغطي عَيْبه، فليسَ من العافية أنْ يفاخرَ العبدُ بالذنب أو أن يُباهي بالخطيئة، ليس من العافية تسميع العباد بالذُّنوب الخفيَّات، وخطايا الخلوات؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ( كُلُّ أمتي معافى إلاَّ المجاهرون، وإنَّ من المجاهرة أنْ يعملَ الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عليه ). الستر على النفس بعد الخطيئة عملٌ فاضل مطلوب، يُرجى لصاحبه أنْ يكرمه ربه بالستر عليه في الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( يُدني المؤمنُ يومَ القيامةِ من ربِّه عزَّ وجلَّ حتى يضع عليه كنَفَه، فيُقرِّره بذنوبه. فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربّ ! أعرف. قال: فإني قد سترتُها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليومَ. فيُعطى صحيفةَ حسناتِه ).
عباد الله .. أحقُّ الناس بالستر وكتم العيب هم ذوو الهيئات وأهل المروءة من أهل الخير والصلاح، الذين ليس مِن عادتِهم المجاهرة بالمعاصي، وليسوا من المسوِّقين للمنكرات، فالستر على هؤلاء يأتي في الصَّفِّ الأول والمقام الأكمل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاَّ الحدود ).
نسأل الله أن يستر عيوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويتجاوز عن زلاَّتنا وهفواتنا، وأن يصون عوراتنا، ويؤمن روعاتنا؛ إنَّه سبحانه قريب مجيب الدعاء
أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم ولسائل المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... إذا قلَّبنا النَّظر في مُجتمعات المسلمين، نرى ظاهرةَ نشر الفضائح وإشاعة القبائح، قد انتشرت انتشارًا مروِّعًا؛ عَبْرَ الهواتف المحمولة، وصفحات (الإنترنت)، وشاشات الفضائيَّات، حتَّى غدت هذه الأخبار وأحداثها أسرع انتقالاً، وأوسع انتشارًا، فلا دِين يَمنع، ولا خُلُق يردع.
فصِنفٌ من الناس - هداهم الله - تجده نقَّالاً لأخبار الفَساد، يتلذَّذ بإشاعتها وإذاعتها، يتصدَّر المجالسَ بالتجريح والتخسيف، الظَّن عنده يقين، والإشاعة في منطقه حقيقة، والهفوة في ميزانه خُلق دائم، لا يمل من تكرار الأخبار المشؤومة، ولا يفتر من ترصد الأحداث المرذولة.
فهذا طبعُه طبع خنزير، يمر بالطيِّبات، فلا يقف عليها، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعافَ المساوئ، فلا يحفظها ولا ينقلها، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء، وجد بُغيته، وجعلها فاكهته ونَقلها.
عباد الله .. إنَّ بثَّ مثلِ هذا القاذورات وانتشارها آفةٌ خطيرةٌ، ومرض موجع، يفسد الدين، ويخرب الدنيا، فإذا تهتكتِ الأستارُ، تكسَّرَ الحياء من النُّفوس، وإذا نزع الحياء، فكَبِّرْ على العِفَّة والطهر بعدها أربعًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنَّك إن اتَّبعت عَوْرَاتِ النَّاس، أفسدتهم أو كدت أن تفسدَهم ) إذا انتشرتْ المعائب، وأُفْشِيَت المثالبُ، فلا تسلْ بعد ذلك عن عدم ثِقَة الناس بعضهم ببعض، ولا تَسَلْ عن الاعتراك والتصادُم بين أفراد المجتمع الواحد؛ إذ إنَّ إشاعة عورات الآخرين سببٌ لبذر الإِحَن والمحن، وتنافر القلوب وعدم الْتِمَامها.
عباد الله .. وأشنع من التشهير بالمعصية وأقبح أنْ يُعيِّر المرءُ أخاه بالذنب، ويثلب عليه بالمعصية، فهذا - لعَمْر الله - خُلُقٌ دنيء، وسلوك تأباه الشِّيَم، وقد قيل ( لا تُظهرِ الشَّماتةَ لأَخيكَ فيرحَمَهُ اللهُ ويبتليَكَ ) يقول الفضل بن عياض: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّ. ويقول الحسن البصري: مَن عَيَّر أخاه بذنب تاب منه، لم يَمتْ حتَّى يبتليه الله به.
فيا مَن يرجو الله واليوم الآخر، لسانَك لسانَك، صُنْه عن أعراض المسلمين، وسمْعَك سمعَك، صُنه عن التحسُّس والتجسس، فهذا - وربي - عملٌ ليس بخير، ولا يأتي بخير. وتذكَّر - أخي المسلم - كما أنَّ للناس عيوبًا، لك عيوبٌ أيضًا، وكما لهم حرماتٌ ومحارم، لك أيضًا مثل ذلك، فمن فضح إخوانَه المسلمين، سلَّط عليه ألسنةً حدادًا تهتك ستره، وتفضح أمره.
لَسَانُكَ لاَ تَذْكُرْ بِهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ
وَعَيْنُكَ إِنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَائِبًا فَدَعْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنُ
قال بعضُ السلف: أدركتُ أقوامًا لم يكُن لهم عيوبٌ، فذكروا عيوبَ الناس، فذكر الناسُ لهم عيوبًا، وأدركت أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوب الناس، فنُسِيَت عيوبُهم.
عباد الله .. إذا جعل المرءُ مَخافةَ الله بين عينيه، واستشعر حقًّا وصدقًا أنَّه سيتحمل وِزرَ كلِّ كلمة تهدم ولا تبني، لعفَّ لسانُه، وصَلَحَ منطقُه، وزان قولُه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيرًا أو ليصمت.
نسأل الله أن يستر عيوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويتجاوز عن زلاَّتنا وهفواتنا، وأن يصون عوراتنا، ويؤمن روعاتنا؛ إنَّه سبحانه قريب مجيب الدعاء
أخوة الإيمان والعقيدة .. صحابي جليل اسمه ماعزُ بن مالكٍ الأسلمي، أحدُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأخيار، ممن وقر الإيمانُ في قلبه، فآمن بربه، وصدَّق برسالة نبيِّه، وعاش في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحمل بين جنبَيه نورَ الإيمان، وضياء التَّقوى، بَيْدَ أنَّه لم ينفك عن بشريَّته، ولم ينسلخ من ضعفه الآدمي ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ) فزيَّن له الشيطانُ فعلَ الحرام، وأزَّته نفسُه الأمَّارة نحوَ الفاحشة أزًّا، وفي ساعة الغفلة وسكرة الشَّهوة وقع في الإثم، وكان من أمره ما كان.
عصى ماعزٌ ربَّه، وأيقن أنَّ ذاك من عَمَلِ الشيطان؛ إنه عدو مضل مبين، فاحترق قلبه، وتلوَّعت نفسُه ندمًا وأسفًا، وعاش أيامًا عدة في بُؤس وغمٍّ، وحسرةٍ وهمٍّ.
عندها قرر ماعز أنْ يبوحَ بأمره ذاك إلى أحد بني عشيرته، وهو هزَّال بن يزيد الأسلمي، الذي أشار عليه أن يعترفَ ويقرَّ أمام النبي صلَّى الله عليه وسلم بخطيئته.
مشى المذنب التائب تجرُّه رِجلاه نحوَ الرَّحمة المُهداة، فوقف في حياءٍ واستحياء أمام نبي الرحمة، ونطق بجُرمه ومَعصيته، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فكرر ماعز اعترافَه، وأقرَّ أربعًا، وألح على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُقيمَ حدَّ الله، فلم يكُن بدٌّ من إقامة الحد، حدِّ الرجم، فرجمه الصحابة حتَّى فاضت روحُ ماعز إلى بارئها، ثم صلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، واستغفر له، وأثنى على توبته وصدقه مع ربِّه.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ هزَّالاً الأسلميَّ هو الذي أشار عليه بالاعتراف، دعاه ثم قال ( يا هزَّالُ، لو سترته بثَوْبك، كان خيرًا لك مما صنعت به ).
معاشرَ المؤمنين .. ما أجملَ الستر! وما أعظم بركتَه! وأبهى حُلَّته! الستر خُلُق الأنبياء، وسيمة الصَّالحين، يورث المحبة، ويُثمر حسن الظَّن، ويُطفئ نارَ الفساد.
الستر .. جوهر نفيس، وعُملةٌ ثمينة، وسلوكٌ راقٍ.
الستر .. طاعةٌ وقُربان ودِين وإحسان، به تَحفَظُ الأُمَّة ترابُطَها وبُنيانها، وبه تقومُ الأخلاق، ويبقى لها كيانها.
وصف الرَّحمن نفسه بالستر، فهو سبحانه ستِّير يستُر كثيرًا، ويحبُّ أهل السَّتر؛ قال النبي صلى الله عليه وسلَّم ( إنَّ الله حَيِيٌّ سِتِّير، يُحب الحياء والستر ).
أقرَّ الإسلامُ بهذا الخلق الكريم، وحضَّ وكافأ عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ومَن سَتَرَ مُسلمًا في الدُّنيا، ستره الله في الدُّنيا والآخرة )
لأجل السَّتْر شرع الإسلام حد القذف؛ حتَّى لا تكون الأعراضُ بعد ذلك عرضة للاتهامات.
لأجل الستر أمر الشارعُ في إثبات حدِّ الزنا بأربعة شهود؛ حمايةً للأعراض، وصَوْنًا للمحارم.
لأجل الستر توعَّد الجبارُ أهلَ السوء، الذين يُحبون إشاعة الفاحشة بالعذاب الأليم ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ).
من أجل الستر نَهى الإسلامُ عن التجسس على الآخرين ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا ) والتجسسُ هو البحثُ عن عيبِ المسلمين وعورتهم.
ولقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم خَيْر الخلق وأَعْرفُ الخلق بما يُرضي الله تعالى، فقد كان عظيمَ الحياء، عفيفَ اللِّسان، بعيدًا عن كشف العورات، حريصًا على كَتْم المعائب والزلاَّت، كان إذا رأى شيئًا يُنكره ويكرهُه، عرَّض بأصحابه وألمح، كم من مرَّة قال للناس ( ما بال أقوام يقولون كذا وكذا ) ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ).
لقد أدَّب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أمَّته، فأحسن تأديبها يومَ أنْ خطب بالناس، فقال بنبرةٍ حادَّةٍ وصوتٍ عالٍ ( يا معشر مَن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتِهم، فإنَّه من يتبع عوراتِهم، يتبعِ الله عورته، ومن يتبعِ اللهُ عورتَه، يفضحه في بيته ).
بهذا المنهج وهذه العِفَّة تربَّى الصَّحابة - رضوانُ الله عليهم - فستروا عيوبَ النَّاس، وطَوَوا معائبَهم.
فهذا صدِّيقُ الأُمَّة رضي الله عنه يقول: لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلاَّ ثوبي، لأحببتُ أن أستره به.
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. حين سمع ذاك الرَّجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني عالجت امرأةً فأصبت منها دون أن أمسَّها. بادره عمر - رضي الله عنه - يقول: "لقد سترك الله، لو سترت على نفسك".
وهذه أمُّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تخاطب نساء المؤمنين - بل هي رسالة للأمة - ، فقالت: "يا نساءَ المؤمنين، إذا أذنبتْ إحداكُنَّ ذنبًا، فلا تخبرن به النَّاس، ولتستغفر الله، ولتتب إليه؛ فإنَّ العباد يُعيِّرونَ ولا يُغيِّرون، والله يُغَيِّر ولا يُعيِّ.
أيها المؤمنون .. أَوْلى النَّاس بالسَّتْر: أن يستر العبدُ نفسَه، ويُغطي عَيْبه، فليسَ من العافية أنْ يفاخرَ العبدُ بالذنب أو أن يُباهي بالخطيئة، ليس من العافية تسميع العباد بالذُّنوب الخفيَّات، وخطايا الخلوات؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ( كُلُّ أمتي معافى إلاَّ المجاهرون، وإنَّ من المجاهرة أنْ يعملَ الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويصبح يكشف ستر الله عليه ). الستر على النفس بعد الخطيئة عملٌ فاضل مطلوب، يُرجى لصاحبه أنْ يكرمه ربه بالستر عليه في الآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( يُدني المؤمنُ يومَ القيامةِ من ربِّه عزَّ وجلَّ حتى يضع عليه كنَفَه، فيُقرِّره بذنوبه. فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربّ ! أعرف. قال: فإني قد سترتُها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليومَ. فيُعطى صحيفةَ حسناتِه ).
عباد الله .. أحقُّ الناس بالستر وكتم العيب هم ذوو الهيئات وأهل المروءة من أهل الخير والصلاح، الذين ليس مِن عادتِهم المجاهرة بالمعاصي، وليسوا من المسوِّقين للمنكرات، فالستر على هؤلاء يأتي في الصَّفِّ الأول والمقام الأكمل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلاَّ الحدود ).
نسأل الله أن يستر عيوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويتجاوز عن زلاَّتنا وهفواتنا، وأن يصون عوراتنا، ويؤمن روعاتنا؛ إنَّه سبحانه قريب مجيب الدعاء
أقول ما تسمعون، واستغفر الله لي ولكم ولسائل المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
معاشر المؤمنين ... إذا قلَّبنا النَّظر في مُجتمعات المسلمين، نرى ظاهرةَ نشر الفضائح وإشاعة القبائح، قد انتشرت انتشارًا مروِّعًا؛ عَبْرَ الهواتف المحمولة، وصفحات (الإنترنت)، وشاشات الفضائيَّات، حتَّى غدت هذه الأخبار وأحداثها أسرع انتقالاً، وأوسع انتشارًا، فلا دِين يَمنع، ولا خُلُق يردع.
فصِنفٌ من الناس - هداهم الله - تجده نقَّالاً لأخبار الفَساد، يتلذَّذ بإشاعتها وإذاعتها، يتصدَّر المجالسَ بالتجريح والتخسيف، الظَّن عنده يقين، والإشاعة في منطقه حقيقة، والهفوة في ميزانه خُلق دائم، لا يمل من تكرار الأخبار المشؤومة، ولا يفتر من ترصد الأحداث المرذولة.
فهذا طبعُه طبع خنزير، يمر بالطيِّبات، فلا يقف عليها، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعافَ المساوئ، فلا يحفظها ولا ينقلها، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء، وجد بُغيته، وجعلها فاكهته ونَقلها.
عباد الله .. إنَّ بثَّ مثلِ هذا القاذورات وانتشارها آفةٌ خطيرةٌ، ومرض موجع، يفسد الدين، ويخرب الدنيا، فإذا تهتكتِ الأستارُ، تكسَّرَ الحياء من النُّفوس، وإذا نزع الحياء، فكَبِّرْ على العِفَّة والطهر بعدها أربعًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنَّك إن اتَّبعت عَوْرَاتِ النَّاس، أفسدتهم أو كدت أن تفسدَهم ) إذا انتشرتْ المعائب، وأُفْشِيَت المثالبُ، فلا تسلْ بعد ذلك عن عدم ثِقَة الناس بعضهم ببعض، ولا تَسَلْ عن الاعتراك والتصادُم بين أفراد المجتمع الواحد؛ إذ إنَّ إشاعة عورات الآخرين سببٌ لبذر الإِحَن والمحن، وتنافر القلوب وعدم الْتِمَامها.
عباد الله .. وأشنع من التشهير بالمعصية وأقبح أنْ يُعيِّر المرءُ أخاه بالذنب، ويثلب عليه بالمعصية، فهذا - لعَمْر الله - خُلُقٌ دنيء، وسلوك تأباه الشِّيَم، وقد قيل ( لا تُظهرِ الشَّماتةَ لأَخيكَ فيرحَمَهُ اللهُ ويبتليَكَ ) يقول الفضل بن عياض: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّ. ويقول الحسن البصري: مَن عَيَّر أخاه بذنب تاب منه، لم يَمتْ حتَّى يبتليه الله به.
فيا مَن يرجو الله واليوم الآخر، لسانَك لسانَك، صُنْه عن أعراض المسلمين، وسمْعَك سمعَك، صُنه عن التحسُّس والتجسس، فهذا - وربي - عملٌ ليس بخير، ولا يأتي بخير. وتذكَّر - أخي المسلم - كما أنَّ للناس عيوبًا، لك عيوبٌ أيضًا، وكما لهم حرماتٌ ومحارم، لك أيضًا مثل ذلك، فمن فضح إخوانَه المسلمين، سلَّط عليه ألسنةً حدادًا تهتك ستره، وتفضح أمره.
لَسَانُكَ لاَ تَذْكُرْ بِهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ
وَعَيْنُكَ إِنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَائِبًا فَدَعْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنُ
قال بعضُ السلف: أدركتُ أقوامًا لم يكُن لهم عيوبٌ، فذكروا عيوبَ الناس، فذكر الناسُ لهم عيوبًا، وأدركت أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوب الناس، فنُسِيَت عيوبُهم.
عباد الله .. إذا جعل المرءُ مَخافةَ الله بين عينيه، واستشعر حقًّا وصدقًا أنَّه سيتحمل وِزرَ كلِّ كلمة تهدم ولا تبني، لعفَّ لسانُه، وصَلَحَ منطقُه، وزان قولُه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيرًا أو ليصمت.
نسأل الله أن يستر عيوبنا، ويغفر ذنوبنا، ويتجاوز عن زلاَّتنا وهفواتنا، وأن يصون عوراتنا، ويؤمن روعاتنا؛ إنَّه سبحانه قريب مجيب الدعاء