الزرياب الإبريز في وفاء النبي العزيز الشيخ علي بن عبدالخالق القرني

محمد مرسى
1436/03/04 - 2014/12/26 20:27PM
الزرياب الإبريز في وفاء النبي العزيز
علي بن عبدالخالق القرني
الحمد لله.

الحمد لله أولى ما فغر النَّاطقُ به فمَه، وافتتح كلِمَه، عَظُمت منَّته، وعمَّت رحْمتُه، وتمَّت كلِمَته، ونفذت مشيئتُه، وسبَّح الرَّعد بِحَمده والملائكةُ من خيفتِه، نَحمدهُ بِجميع مَحامده ونُثْني عليه ببادئ الأمر وعائده، ونشْكُره على وافر عطائِه ورافده.
الحمد لله على آلائِه، نَحمده والحمد من نعمائِه؛ أن خصَّنا بِخَير أنبيائِه.
وأشْهد أن لا إله إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، شهادةً تشْفي الأوام وتقشعُ الظلام، وتكون لنا العدَّة الواقية في حشرجة الأنفُس وسكرات الحِمام.
وأشْهَدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّهُ من خلقِه وخليلهُ:

خَيْرُ البَرِيَّةِ أَقْصَاهَا وَأَدْنَاهَا وَهْوَ أَبَرُّ بَنِي الدُّنْيَا وَأَوْفَاهَا
أَتَى بِهِ اللَّهُ مَبْعُوثًا وَأُمَّتُهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَأَنْجَاهَا
وَأَبْدَلَ الخَلْقَ رُشْدًا مِنْ ضَلالَتِهِمْ وَفَلَّ بِالسَّيْفِ لَمَّا عَزَّ عُزَّاهَا
دعانا إلى الإسْلام، وجنَّبنا عبادة الأصنام، وسنَّمنا ذروة عزٍّ لا تُرام، ونثَرَ يافوخَ الشِّرْك نثرًا ليْس مثله من بعده نظام، فصلوات الله وسلامُه عليْه، ما التأم شَعْبٌ وعلا كعبًا كعب، ولاح في الأُفق كوكَب، وأقام يذبل وكبْكَب، وآلِه وصحبِه ومَن سلك سبيلَهم، ما دار نَجمٌ في فلك. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
أمَّا بعدُ:
أيْ عِمادَ النادي، وزينةَ الحاضر والبادي، عواملَ الرَّفع وجوامعَ النَّفع. فجْر الأمة الصَّادق ومُزنها الوادق، عامل الجملة وطليعة الحملة.
مَن تُعقد عليه الخناصر في رأب الأواصر، صخرةَ الإسلام الراسية والأعاصيرُ عاتية، مَن أحسبُ أنَّهم أهلٌ لهذه القافية:
قَوْمٌ تَسَامَوْا فِي سَمَاوَاتِ العُلا رُفِعُوا فَكَانُوا يَرْفَعُونَ المُسْنَدَ
أَفْعَالُهُمْ تُحْيِي القُلُوبَ وَعِنْدَهُمْ هِمَمٌ قَوِيَّاتٌ يُذِبْنَ الجُلْمُدَ
سُبُلُ المَعَالِي إِنْ أَرَادُوا طَيَّهَا تَرَكُوا أَقَلَّ مِنَ الذِّرَاعِ الفَدْفَدَ
وَمَتَى يَحَرْ فِي تِيهِهَا ذُو حَيْرَةٍ أَبْدَوْا لَهُ بِالدَّوِّ مِنْهَا أَنْجُدَا
فَهُمُ الأُولَى كَسَوُا العُلا أَبْهَى الحُلا فَبِهِمْ تَجَلَّتْ لُؤْلُؤًا وَزَبَرْجَدَا
صُمُتًا غَدَوْا فِي جِيدِهَا وَأَسَاوِرًا فِي المِعْصَمَيْنِ وَفِي النَّوَاضِرِ إِثْمِدَا
هأنذا أُخيُّكم، هأنذا.
ذو هفوات كثُرتْ، وعلل قد ظهرت وبطنت، وذا وذا.
فميِّزوا المبهمَ من حالِي ومِن قالِي، ومن كمْ وكأيِّن وكذا.
فأرْضُنا اهتزَّت إليْكم ورَبَتْ وساغ ماؤُها وجوُّها عذا.
فالجِسم عنكم كلَّ يوم في نوًى، والقلب حول رُبا حِماكم طائف.
ألا نضَّر الله هذه الوجوه التي أحسبها في الخير مسفرة، ضاحكةً مستبشرة.
كدرٍّ وياقوتٍ يُقلَّبُ في اليدين، قد نطقت بِحبٍّ خالصٍ لم يُمازجْه رين.
مَن رآني ورآها واحدًا فهو بعينيْن، ومَن رآنا اثنين فهو بعين.
وبتحيَّة الإسلام أحيّيكم في هذه اللَّيلة، تحيَّةً خالدة ثابتة لازمة.
تنفي الحروفَ الجازمة، تسومُ ساكِن الودِّ أن يتحرَّك، ومعتلَّ الإخاء أن يصحَّ.
لها نكهة كالورْد فاحَ مع الصَّبا، وطعمٌ كأحْلى ما تمجُّ الجوارش.

فالسَّلام عليْكم ورحْمة الله وبركاته.
سَلامًا كَعَدِّ القَطْرِ وَالرَّمْلِ وَالحَصَى وَنَبْتِ الصَّحَارَى وَالنُّجُومِ الشَّوَاهِدِ
سَلامًا يُبَارِي الرِّيحَ مِسْكًا وَعَنْبَرًا وَيَعْلُو بِهَامِ الوُدِّ فَوْقَ الفَرَاقِدِ
وَأَهْلاً كَمَا هَبَّ النَّسِيمُ المُعَطَّرُ وَإِلاَّ فَمِسْكٌ طَيِّبُ النَّشْرِ أَظْفَرُ
حيَّاكم الله وأحياكم للأمَّة، تُجدِّدون نضرَتَها، وتُعيدون شبابَها، وتَصلون أسبابَها، وتفتحون أبوابَها، وتَجمعون أصواتَ حُداتِها على إحْياء مواتِها وتدارك فواتِها.
أَمَانَةُ الدِّينِ قَدْ شُدَّتْ بِعَاتِقِكُمْ فَمَا لِغَيْرِكُمُ تُلْقَى المَقَالِيدُ
مَنْ أَوْرَدَ الآمَالَ حَوْضَ فَعَالِكُمْ فَلَهَا الأَمَانُ مِنَ انْ تُزَادَ وَتُصْرَفَا
فَاللَّهُ يُرْضِيكُمْ وَيَرْضَى عَنْكُمُ وَيُحِلُّكُمْ غُرَفًا عَلَوْنَ وَرَفْرَفَا
معشر الإخوة:
ممَّا لا يخفى أنَّ أمَّتنا خيرُ أمَّة أخرجت للنَّاس، سمت بدينِها حتَّى صار رعاة الغنَم قادة الأمم لا يُبْرَم أمرٌ دونَهم، ثُمَّ غيَّرت وبدَّلت وقد قضى الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

دَارَتْ رَحَى الأَيَّامِ وَاسْتَلْقَتْ عَلَى القَاعِ القِمَمْ، فمع ما تملكه من طاقات ومقدَّرات تؤهِّلها لريادة الأُمم، لَم تزل في لجَّة اليمّ في ذيل الأمم.
لَهَا جُرْحٌ مِنَ الآلامِ جَارٍ يُوَسَّعُ كُلَّمَا رُمْنَا الْتِئَامَهْ
كَلَيْثِ الغَابِ حِينَ تَرَى المَلاهِي وَحِينَ تَرَى المَآسِيَ كَالنَّعَامَهْ
فَكَأَنَّ مَوْكِبَهَا قَطِيعٌ ضَائِعٌ بَيْنَ الذِّئَابِ يَصِيحُ أَيْنَ الحَامِي
وَتَلَفَّتَ السَّارِي إِلَى السَّارِي كَمَا يَتَلَفَّتُ الأَعْمَى إِلَى المِتَعَامِي
وَحَادِيهَا لِسَانُ الحَالِ مِنْهُ تَأَنَّثْ أَنْتَ فِي زَمَنِ الإِنَاثِ
تُحَاوِلُ أَنْ تُعَدِّدَ فِيهِ أُنْثَى فَإِنْ تَغْضَبْ تُطَلَّقْ بِالثَّلاثِ
وَمِنْ عَجَبٍ يُسَانِدُهُنَّ قَوْمٌ يُسَارُ بِهِمْ كَثِيرَانِ احْتِرَاثِ
غثائيَّة كما وصفها خير البريَّة، تطْلب العدْل من الباغي عليها، وتُنادي مَن إذا جاوب تَمتم.

خدَّرها عدوُّها وشغلها عن دينها، ومزَّق رابطَتَها بكسب يدِها، فأصبح كلُّ فريق منها كما قيل: قانعًا بجحر الضَّبّ يُناضل عنه بِمثل سلاح الضَّبّ، وهيْهات إذا مُزِّقت الأطرافُ أن يُحفظ القلب!

وعلى حدِّ قول البشير:

عتبات الفتح بنيت على الكسر، وصائدة المناسر صادَها النَّسْر، وباذِل الماعون في العُسْر جزَوا في العاقبة بالخسْر، فأصبح الصيَّاد هائِب الفري، وأصبح الهرُّ يهاب الجرذا.

وظاهر عليْها من وراء الأكنَّة، شخوص مجتنَّة، في كيد الأبالسة والجِنَّة، لا تعرف الأمَّة إلاَّ في مواقف الاستِعْباد والابتزاز والذلَّة، فإذا ما مسَّ الضّرّ الأمَّة، كانوا على المؤمنين أعزَّة وعلى الكافرين أذلَّة.

يستأْسِدون على القريب وللعدوّ أرانبُ، لا يعرفون الياء من الألف ودائمًا في باب ما لا ينصرف، يجعلون العنفقة حاجبًا والمجون واجبًا. جيل من الأنعام إلاَّ أنَّهم من بيْنها خُلقوا بلا أذناب، ليْس في صحفهم موقف واحدٌ لعزِّ الإسلام يداوون الزّكام بالجذام، ويمتدحون الدناءة بالكلام، عارٌ على السَّلف والخلف، وأكذبُ ما يكون أحدُهم إذا حلف، ويُكثرون من العواء والصلف، كلابُ مزابلَ آذيْنَني بأبوالهنَّ على بابِ داري، وقد كنت أُوجعها بالعصا، ولكن عوت من وراء الجدار.

فصارت الأمَّة ميدان تنازع لعوامل الخفْض إذ تنازعها عاملان: عاملٌ على تجريدها من دنياها يجهدُ في التجريد ويتمنَّى المزيد، وعاملٌ على تجريدها من دينها يكيد ما وسِعه الكيد.

ويلتقي العاملان في نقطةٍ واحدة ألا وهي القضاء على هذه الأمَّة، وهذا محالٌ بفضل الله ومنِّه.
فَكُلَّمَا لِلحَرْبِ نَارًا أَوْقَدُوا أَطْفَأَهَا اللَّهُ العَزِيزُ الأَحَدُ
تستيقظ الأمَّة مترنِّحة، تقول للعامل الأوَّل بلسان حالها: لا نَوْمَ بعد اليوم، ولا يتمُّ ما تمَّ في النَّوم.

وتقول للثاني: كذَبَك الظَّنُّ والصَّاب لك بلا منّ؛ فالإسلام كامنٌ كمون النَّار في الحجر متى ما يُهِجْه قادحٌ يتوقَّد.
إِنَّ الجَوَاهِرَ فِي التُّرَابِ جَوَاهِرٌ وَالأُسْدُ فِي قَفَصِ الحَدِيدِ أُسُودُ
والباطلُ باطلٌ يعود إلى أصله حيث لا أصل، وأمَّا ما ينفع النَّاس فيمكث في الأرض.
وَالحَقُّ يَعْلُو فَهْوَ لاسْتِقْلالِ يَؤُولُ وَالبَاطِلُ لاضْمِحْلالِ
وَالسَّبْعُ سَبْعٌ وَإِنْ كَلَّتْ مَخَالِبُهُ وَالكَلْبُ كَلْبٌ وَإِنْ قَلَّدْتَهُ الذَّهَبَ
أفاقت الأمَّة خائرة القوى وانيةَ الخطى على فِتَن متماحِلة، ومُحاولة مستميتة لإعادة النَّائم لنومِه، وأنّى ذلك؟!

وقد قذف في روعها: أنَّه لا يستقيم لها عمل إلاَّ بالتنقيح المعجّل لكل ما ورثتْه من أخلاق، ليس لها في الخير من خلاق، ولن يتمَّ ذلك إلاَّ بالعودة لميراثها الأصيل.

فحدا الحادي على قلة الحادي ليستنهِض الميت والمقْعدا، ويستنفِر التُّرب والجلمدا.

يمدُّ إلى كلِّ نجم يدا، ويُوحي إلى الجوِّ أن يرعدا.

سَيَنْشَقُّ فَجْرٌ وَيَشْدُو رَبِيعٌ وَيَخْضَوْضِرُ الجَدْبُ أَنَّى شَدَا
وَيَرْنُو فَيَنْظُرُ خُضْرَ الرُّؤَى كَمَا يَنْظُرُ الأَعْزَبُ الخُرَّدَا
لَنَا مَوْعِدٌ مِنْ وَرَاءِ التِّلالِ وَهَا نَحْنُ نَسْتَنْجِزُ المَوْعِدَا
وَهَا قَدْ هَلَّ بِالبُشْرَى الهِلالُ بِفَجْرِ العِزِّ آذَنَتِ التِّلالُ

إلى أخلاق القرآن يا شبل الإيمان، في سيرة وشمائلِ مَن خُلقه القرآن.
فَبِذِي الأَخْلاقِ قُدْنَا أُمَمًا وَتَحَدَّيْنَا بِهَا أَعْدَى الأَعَادِي
عُدْ إِلَيْهَا رَافِعَ الرَّأْسِ وَقُلْ: هَذِهِ قَافِلَتِي وَالزَّادُ زَادِي
وَهُنَا حَقْلِي وَمَيْدَانُ جِيَادِى.

وهذا ميدان أخُبُّ فيه وأضع، وليتني فيه جذع، فاحدوا الشيخَ والجذع، اخلع نعالك في طُوى أكنافه، وضع العصا في واده القدسان؛ لنغرف من بَحره ونرتوي بدَرِّه، ونشنِّف المسامع بدُرِّه، فما برحت منه الخلائق تَحتذي، شذا تتهاداه الأنوف النواشق.
فَإِنْ أَنَا لَمْ أُطْلِقْ لِسَانِي لِنَعْتِهِ فَنَحْوِي وَصَرْفِي وَالبَلاغَةُ طَالِقُ
فمِنْ نفحٍ إلى عرْفٍ وإيماض وإكليل، مع رضاب سائغ طعْمُه لي منه كلَّ وقت كأس دهاق.

واليوم ذا الزرياب يبدو لنا، من شرفٍ يعلو جميع المَرَاق، وهو لنا كالطوق فوق التَّرَاق.

الزرْياب، ما الزرْياب؟

الذَّهب وماؤه زرياب.
وطائر غرَّادٌ ذو صوت حسن جميل زرياب.
وكل لامع مع صفرة زرياب.
وزرْيابُنا الليلةَ أسمى من الذَّهب الخالص الخلاَّب، يأخذ بالألباب، ويستدرُّ الإعجاب، ويملأُ الإهاب، كالسكر المذاب، ورشْف الثَّنايا العِذاب.

إنَّه: "الزرياب الإبريز في وفاء النبي العزيز".

هَوَاهُ قَدْ غُذِيتُ بِهِ صَغِيرًا وَهَلْ لِلنَّفْسِ صَبْرٌ عَنْ غِذَاهَا
إنَّه نفحة عنبريَّة يطوف طائفُها على القلوب الكليمة ينضحها بالروح والرَّيحان، ويطْرِبُها بأرقِّ الألحان، ويحدوها لمراقي الكمال؛ لتحذُوَ إذا حذت على خير مثال.
أَعْنِي بِهِ خَيْرَ خَلْقِ اللَّهِ مَنْ لَمَعَتْ غُرُّ الصِّفَاتِ بِهِ كَمِثْلِ زِرْيَابِ
صلَّى عليه بارئُ العباد، ما جرت الأقلام بالمداد، وأمطرت سحبٌ وسال واد.

الزرياب الإبريز في وفاء النبي العزيز - عليْه الصَّلاة والسَّلام.
خُلُقٌ تَعَلَّقَتِ النُّفُوسُ بِحُبِّهِ فَكَأَنَّهُ فِي كُلِّ قَلْبٍ خَيَّمَا
إنَّه زرياب يقول: والله لن تجد في كتُب التَّاريخ والسِّيَر، من فجْر الخليقة إلى اليوم - اسمَ رجُل يداني أو يضاهي رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كمال خُلقه، وعظمة شخصيَّته، وباهر وفائه، بفضْلِه اعترف الأعداءُ ما جحدوا، إذ عجزوا عن العثور على جانب نقْص في سيرته.

يقول مستشرق لم يَملك نفسَه أمام تلك العظمة، يقولُ: "ما أحوجَنا اليوم إلى رجُل كمحمَّد! يحلُّ مشاكل العالم وهو يَحتسى فنجان قهوة".

نعم، فالشَّمس ليس تجلِّيها بمجحود، فلو لم يكن بالوحي خيرَ الأنبياء لكان بسيرته وخُلُقه أعظمَ العُظماء؛ فقد جُمِعَت فيه الخصال المفرَّقة تفيض كفيْض الديمة المتدفِّقة.

تردُّ خليَّات القلوب مشوقةً، وما كلِمي إلاَّ إليْها موجَّهٌ، وما هِمَّتي إلاَّ بها متعلقة.

وإنِّي وإن أسْهبتُ لستُ ببالغٍ مداها ولو نازَعْتُ سحبانَ منطِقَه.

زرياب يقول:
السّل أوَّلُ ما يكون زُكام، يا دعاة القوم، داوُوا أمَّة ابتلاها السلُّ في أخلاقِها، فهي تَخطو للرَّدى في مهل، عندكم للسّلّ ذا مشفى، فهل عندكم للخلق المبتذل؟

زرياب يقول:
إن صالحةً يأخذها النَّاشئ بالقدْوة والمثال، خيرٌ من ألف نصيحةٍ بالمقال؛ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
فَأَسْعَدُ أَهْلِ الأَرْضِ تَابِعُ خَطْوِهِ وَمَنْ زَاغَ عَنْهُ هَالِكٌ فِي الهَوَالِكِ
زرياب يقول:
ألا أيُّها الشَّانئون اخسؤوا، وموتوا بغيظِكم واكلحوا، بل إنَّه صمصامٌ يكوي بصارم البيان سِرْسام مَن يسخر بالإسلام والقرآن ونبيّ الإسلام - عليه الصَّلاة والسَّلام.

من كلِّ علجٍ هابط، ساقط وضيع رقيع، خبٍّ لئيم، منحوس منخوس، منكوس معكوس، موكوس مطموس دنس، خبيث أشمط متفيهق نجسٍ، فلو صُفِع النعال بوجهه صاح النعال بأي وجه أُضْرَبُ؟! ومن المخازي أكْله والمشرب، خسئت فمه ليهنئك الخراج بغير "جيم"، فما يشفي الزلال غليلَ هيم، وجوهكم نعلٌ في التَّيْرب، وقاية من شوكة وعقرب، فهو كالشَّمس علوًّا وسناء، كلَّما حاول وغدٌ قذْفَها قذفتْه بلظاها الشهُب، فليمت بالغيظ كلُّ الأدعياء، ما عسى يفعلُ إخوانُ الشَّقاء؟! ما همْ - واللهِ - إلاَّ ككلْب امرأةٍ عربيَّة فقيرة زعموا أنَّه جاع ليلةً فنبح، فأخرجتْه فنظر إلى القمر فظنَّه رغيفًا، فمازال بنبْحِه ليلَه كله، فقال الناس: كلبٌ ينبح قمرا.
وَمَا ضَرَّ المُنِيرَ نُبَاحُ كَلْبٍ وَلَوْ كُلُّ الكِلابِ يُنَبِّحُونَهْ
أي ساقط الغيرة والحمية، مَن لم تكن أخلاقُه زكيَّة، هل أنت إلاَّ ضفدع مترنِّم موموه مُمَخْرق تنقُّ!

كَرَافِعٍ طَرْفَهُ نَحْوَ السَّمَا قُبُلاً قَصْدَ البُصَاقِ فَعَادَ التَّفْلُ فِي فِيهِ
أرغم الله أنفك، وقمقم عصبك، واستأصل شأفتك، وأسكت نئمتك، وأسخنَ عيْنَك، وأباد خضراءك، بـ "إِنَّا كَفَيْنَاكَ.."، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ.."، "وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ.."، و "إِنَّ شَانِئَكَ..".

فالعمى لعينِك، تُريد لتطفئَ أنوارَنا، وذلك ما لستَ بالنَّائل.
من ذا يصدُّ الصُّبح عن أن يُشرق؟! مَن ذا يصدُّ المسك عن أن يعبق؟! ومن يحجبُ النُّور لمَّا بدا؟!

أيها الأحْمق الرقيع، ومَن أكلُك الرَّجيع، أتَهْزأ بالشَّفيع يا وضيع، أما تعْلم يا فار بأنَّ الله يَختار، ويعطي مَن يشا الملْك، عزيزًا يرْكب الفلْك، وللمستهزِئِ الهلْك، نبيُّ الخير والطُّهْر، سيبْقى في فسيح الكوْن أكبر من جهالتكم نعم أكبر، سيبقى مثلَ تلك الشمس هادينا وحادينا، فدع عنك جهالاتٍ تفاهاتٍ حماقاتٍ تروم الشَّمس والنَّجم، إذا ما الشَّمس ساطعةٌ ولامعةٌ وأنكر ضوءَها الأعْمى، سيبقى نورها الأسمى، وتبقى كوكبًا يسري نسيمًا طيّب العطر، ربيعًا باسم الثغر.

أُردِّدها وفى حلقي لذيذُ الشهْد والسكر، سيبقى في فسيح الكون ذكرًا في الورى أعطر، وتبقى أحقر أصغر، يا حاقدًا من فجرة، ومن لئامٍ نَكِرة، مكذِّبة مزوِّرة وحُمرٍ مستنفرة، أتاكم الطَّلُّ وبعد الوابل، ما علَّتي وأنا جلدٌ نابل، لا أبرحَنْ أرميكمُ باليابِس في هامِكُم ضربَ غلام عابس، أضربُ مَن على الأباطل استمر بدرَّةٍ منسوبةٍ إلى عمر، ذُق مسَّها من صارم الخصْم الألَدّ، وما انطوى في جعبتي من ذا أشدّ.

زريابٌ يقول:
إنَّ حياتنا اليوم حربٌ لا ينتصر فيها إلاَّ الأخلاق، إنَّما الأخلاقُ في الأقْوام مقياس الكفاءة.
وَلَيْسَ بِعَامِرٍ بُنْيَانُ قَوْمٍ إِذَا أَخْلاقُهُمْ كَانَتْ خَرَابَا
زرياب يقول:
عَلِّمُونَا الأَفْعَالَ قَدْ ذَبَحَتْنَا أَحْرُفُ الجَرِّ وَالكَلامُ الهَجِينُ
عَلِّمُونَا قِرَاءَةَ البَرْقِ وَالرَّعْ دِ فَنِصْفُ اللُّغَاتِ وَحْلٌ وَطِينُ
الإسلام محجوب بأهله، والمسلمون في جُملتهم اليوم كدابَّةٍ على رأس بئرٍ عذبة، لا هي شَرِبتْ ولا تركت الناس يستسْقون ويشربون.
خَلَتِ المَشَاعِرُ مِنْ حَرَارَةِ شَوْقِهَا ضَعْفًا كَمَا خَلَتِ القُلُوبُ مِنَ الدَّمِ
الصَّوْمُ وَالصَّلَوَاتُ مِلْءَ دِيَارِنَا وَالحَجُّ لِلبَيْتِ العَتِيقِ وَزَمْزَمِ
تِلْكَ المَشَاعِرُ لا تَزَالُ كَعَهْدِهَا لا يَنْقُصُ الإِسْلامَ غَيْرُ المُسْلِمِ
لا ينقصُ الإسلامَ غيرُ المسلم.

زرياب يقول:
داءُ المسلمين منهم؛ لا تلام العواصف حين تحطم شجرةً نخِرةً في أصولها، إنَّما اللَّوم على الشَّجرة النخرة نفسها، إِنِّي حلفتُ يمينًا غير حانثةٍ ما أوغلتْ في صحاري التيهِ رحلتُهم، لو أنَّهم في ظلال المصحف اتَّحدوا.

زرياب يقول:
مَن ذمَّ شيئًا وأتى مثلَه فإنَّما يُزري على عقلِهِ.

زرياب ينادي:
هذا هو النَّهر فانهلْ أيُّها الصادي من عذب أخلاقِه في حسن إسناد
من نفح قيصومها من شيحها النادي، من العرار الذي تندى خمائله عذوبة ومن الرَّيحان والكاب.

هلمَّ هلم مع اعترافي بأنَّني لستُ من ذوي الأقدام والخوافي.
فَمَنْ يُحْصِي شَمَائِلَهُ اللَّوَاتِي لَهَا فِي كُلِّ رَابِيَةٍ ثَنَاءُ
وَمَا أُثْنِي عَلَيْهِ وَفِيهِ طَهَ وَمَرْيَمُ وَالفَوَاتِحُ وَالنَّسَاءُ
لكنَّني أقولُ مستعينًا في مطلبي إلهيَ المعينَ؛ فما لنا في العالمين مذهب، عن باب مولانا إلى من نذهبُ.

ربِّ ثبِّتْنا بقولٍ ثابتٍ في الحياتين فلا نخلولج، ولتثبت قدمي إذ لم تكن قدمٌ تأمن سوء الزلج، واجعل أعمالي لي خالصةً بالريا والعجب لم تمتزج.

اللَّهُمَّ لا سهْل إلاَّ ما جعلتَه سهلاً، وأنت تَجعل الحَزْنَ إذا شئت سهلاً.

الزرياب الإبريز في وفاءِ النَّبيِّ العزيز.
وفاؤه، ما وفاؤه!
وَفَاءٌ فَلَوْ تَرْقَى الكَوَاكِبُ نَحْوَهُ لَقَدْ بَاتَ تِلْمِيذًا لَدَيْهِ عُطَارِدُ
إِلَيْهِ انْتَهَى النُّورُ المُبِينُ الَّذِي بِهِ تَبَصَّرَ ضِلِّيلٌ وَأَذْعَنَ مَارِدُ
والذي فلقَ الحبَّ والنَّوى، وأعطى كلَّ شيءٍ خلْقَه ثم هدى، ما دبَّ على الثرى أوْفى ذمَّة وأنقى سيرة وسريرة وأوفى بميثاقٍ ووعدٍ وعهدٍ - منه - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
شَمَائِلٌ ذَا تَرَاهَا فَائِقٌ عَبَقٌ كَالمِسْكِ فَتَّتَهُ الدَّارِيُّ تَفْتِيتَا
يَرْنُو لَهَا النَّاسُ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمٍ وَيَسْبُرُونَ لَهَا البِيدَ السَّبَارِيتَا
فَهْوَ أَجَلُّ الوَرَى قَدْرًا وَأَوْفَاهُمُ عَهْدًا وَأَرْفَعُهُمْ يَوْمَ الثَّنَا صِيتَا
صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي

كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوْفى النَّاس.
وَفًا تَنْجَلِي الظَّلْمَا بِأَنْوَارِ وَجْهِهِ فَمَهْمَا بَدَا لَمْ يَفْقِدِ البَدْرَ فَاقِدُ
خِلالٌ لَوَ انَّ الحُسْنَ نِيلَ بِمَطْلَبٍ لأَصْبَحَ تَسْتَمْلِيهِ مِنْهَا الخَرَائِدُ
يلتزم بعد شخص أخذ على بعض أصحابه ليعظِّم عهد الله وميثاقه، ويرسم صورة حية جذابة للدخول في دين الله.
وَالدُّرُّ يَزْدَادُ حُسْنًا فِي تَأَلُّقِهِ إِذَا تَحَلَّتْ بِهِ اللَّبَّاتُ وَالجِيدُ
ثبت في صحيح مُسلم من حديث حُذيفة بن اليمان - رضي الله عنْه - قال: "ما منعني أن أشهد بدرًا إلاَّ أنِّي خرجتُ أنا وأبي فأخذَنا كفَّارُ قريش، وقالوا: إنَّكم تريدون محمَّدًا، قلنا: ما نُريده، ما نُريد إلاَّ المدينة، فأخذوا منَّا عهد الله وميثاقَه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نقاتل مع رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فأتينا رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وأخبرناه الخبر، هو أحوجُ ما يكون لزيادة فردٍ في جيشِه، ومع ذا يقول مقالاً من بدائع لفظِه، سحبانُ عند بيانِه فئفاءُ: ((انصرِفا، نَفِي لَهم بعهْدِهم ونَستعين الله عليهم)).

إنَّه خُلُقُ النبوة.
يَدِينُ لَهُ مَنْ لَمْ يَدِنْ لِخَلِيقَةٍ وَيَقْضِي لَهُ بِالفَضْلِ غَاوٍ وَرَاشِدُ
صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي
كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:
أَبَرَّ وَأَوْفَى مَنْ تَقَمَّصَ وَارْتَدَى وَأَوْثَقَهُمْ عَهْدًا وَأَطْوَلُهُمْ يَدَا

إِنْ تُعاهدْهُ يقدِّم روحه فديةً للعهد من كل انحراف، وأخو الإنصاف لا يرضي به بدلاً في كل ودٍّ أو تجافي.

لم يتخلَّف وفاؤه - صلى الله عليه وسلَّم - لأعدائه وقد جهدوا لإطفاء دعوتِه، وكادوا له ولصحابته، فأرغمهم على الاعتراف بفضله وهم في أوج عداوته، يقول مكرز لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "ما عُرفتَ بالغدْر صغيرًا ولا كبيرًا؛ بل عرفتَ بالبِرِّ والوفا".
لَقَّبْتُمُوهُ أَمِينَ القَوْمِ فِي صِغَرٍ وَمَا الأَمِينُ عَلَى قَوْلٍ بِمُتَّهَمِ
أبو سفيان عدوٌّ آن ذاك، على إبداء المثالب لو وجدها، وطمس الحقائق لو قدَرَ عليْها، ومَعَ بالِغ حرْصِه على مَطْعَنٍ يُدْخِله في إجابتِه، لمَّا سألَه هرقل الرُّوم: أيغدُر محمَّد؟ لم يستطع إخفاء شمس وفائِه - صلى الله عليه وسلَّم - فقال: "لا".
أيعمى العالمون على الضياء؟!
فقال هرقل: وكذلك الرُّسُل لا تغدُر.
مَتَى قُلْتَ إِنَّ الصُّبْحَ لَيْلٌ فَقَدْ بَدَا إِلَى كُلِّ ذِي عَيْنَيْنِ أَنَّكَ كَاذِبُ
والحق يشهد والخلائقُ تشهدُ أنَّ وفاءَه لأعدائِه لا يقدر على مثلِه غيرُه؛ لأنَّه كما قال فيه ربُّه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

ومن أعظم صور وفائه لأعدائِه:
وفاؤه بعقْد الحديْبية الَّذي امتعضَ منه بعض أكابر الصَّحابة لبالغ قسْوته بادي الرَّأي؛ نتيجة إصرارِ قريشٍ على إملاء شروط عنجهيَّة يعظم على قلوب الأحْرار الَّتي لم يؤيِّدها الوحي قَبُول ذلك، ومنها: أنَّ مَن جاء مسلمًا رُدَّ عليهم، وما كاد عقْد الصُّلح يَمضي حتَّى جاء أبو جندل بن سُهيلٍ مفاوضِ قريشٍ يرصف في قيودِه مستصرخًا، فقام أبوه وأخذ بِتلابيبِه وقال: يا محمَّد، قد لجَّت القضيَّة بيْني وبيْنك قبل أن يأتيَك هذا، هذا أوَّل ما عليه أُقاضيك، فقال له - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((صدقتَ، وردَّه إليه))، وأبو جندل - رضي الله عنه - يُنادي بصرخاتٍ تهزّ الجَنان وتحلْحل الأرْكان، أشدّ على القلْب وأثْقل من رضوى وثهلان: يا معشر المسلمين، أأُردُّ إلى المشركين ليفتِنوني عن ديني؟!
مَنْ كَانَ مِنْكُمْ وَاثِقًا بِفُؤَادِهِ فَهُنَاكَ مَا أَنَا وَاثِقٌ بِفُؤَادِي
ورسولُ الله - صلى الله عليْه وسلَّم - أرْسى من ثبيرٍ، ومن كلِّ جبلٍ كبير، يُبقي منارَ وفاءٍ باعث في نفْس صاحبِه الأمل والرَّجاء: ((يا أبا جندل، اصبِر واحتسِب؛ إنَّ الله جاعلٌ لك ولمَن معك من المستَضْعَفين فرجًا ومخرجًا، إنَّا قد عقدْنا مع القوم صلْحًا وأعطيْناهم على ذلك عهْد الله، وإنَّا لا نغدر بهم))، فإن حال دون الشَّمس سدٌّ من السحب، سيبقى نهار الصِّدْق أبيض مبصرًا، والسَّيف يشرق مغمدًا أو منتظرًا، وما أن وصل - صلَّى الله عليْه وسلَّم - المدينة حتَّى أفلتَ أبو بصير وقدِمَ المدينة، فأرسلتْ قُرَيْش في طلَبِه رجُلين تقولُ: العهدَ الذي جعلت لنا، وفي مثالٍ عالٍ من الوفاء بالعهْد والحرص على سُمعة المسلمين الأخلاقيَّة، قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((يا أبا بصير، إنَّا قد أعطيْنا هؤلاء القومَ ما قد علِمْتَ، وإنَّه لا يصلح في دينِنا الغدر، وإنَّ الله جاعلٌ لك ولِمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلِق مع القوْم))، ثمَّ دفعه إلى الرجُلين.

يُغالب بالإيمان تيَّارًا ويروض زخارًا ويقاوم إعصارًا، ويا لله إنَّه ليس من السَّهل أن يدفعَ صاحبَه إلى أعدائِه! لكنَّ الوفاء بالعهود هو شرعُ الله ودينه، وإنَّما يظهر الالتِزام بشرع الله في المواقِف الحرِجة العصيبة، ففي طاعة المولى تهون الشدائدُ.

خرج أبو بصير بلا أسًى؛ فقد وعَدَه بالفرج مَن لا ينطق عن الهوى، ولمَّا بلغوا ذا الحُليفة ونزلوا يأْكلون من تمرٍ لَهم، جاء الفرَج والمخرج ولا حرج.
قَدْ قَيَّدُوهُ فَمَا أَطَاقَ قُيُودَهُمْ وَالحُرُّ يَأْبَى أَنْ يَعِيشَ مُقَيَّدَا
رجل حربٍ من الدرجة الأولى.
فَتًى لا يَنَامُ عَلَى ذِلَّةٍ وَلا يَشْرَبُ المَاءَ إِلاَّ بِدَمْ
استلَّ سيف أحدِهم بالحيلة عليْه فقتله به، وأرادَ الآخر فألقَى سيْفه ورحْلَه ونعله فارًّا إلى المدينة، تطير الحصى من تحت قدميْه، عاضًّا على أسفل ثوبِه، والذعر في عينيه والموْت في شخْص أبي بصير يتبعُه، يستغيث وقد دخل المسجِد: قتل صاحبي وإني لمقتول، وأبو بصير خلفه.
بَطَلٌ لَمْ يُطَأْطِئِ الرَّأْسَ إِلاَّ فِي رُكُوعٍ لِرَبِّهِ وَالسُّجُودِ
بَطَلٌ يَرْكَبُ الصِّعَابَ بِنَفْسٍ تَأْخُذُ العِزَّ مِنْ جِبَاهِ الأُسُودِ
يقول: يا رسول الله، قد أوفى الله بذمَّتك ورددتَني إليْهم، أنجاني الله منهم.

دهاءٌ وبطولة تستحقّ أن تكون مشعلاً لخِدْمة الإسلام، وإزْعاج الكفَّار، يدْفَعُها - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ملمِّحًا لا مصرِّحًا: ((ويل أمِّه مسعرَ حربٍ لو كان له أحد)).

وبالإشارة اللبيبُ يفهمُ.

عرف أنَّه سيردُّه، فخرج إلى سيْف البحْر ولحِق به أبو جندل وكلُّ مَن أفلت من المشْركين، فكوَّنوا عصابةً تعترِض عير المشْركين وتقطع طريقَهم إلى الشَّام، وتفوِّت عليهم مصلحة الصُّلح مع المسلمين ليأْتوا خاضعين ذليلين منكّسي رؤوسِهم، يتنازلون عن شرْطهم ويستشْفعون برسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يأوي كلَّ مَن خرجَ إليْه من المسلمين، تلْكم والله عاقبة الوفا.
يَطْوِي الوَفَاءُ الأَدْعِيَاءَ وَزَيْفَهُمْ وَمَآلُهُمْ عَارٌ وَصَمْتٌ مُطْبِقُ
وَيَظَلُّ حُرَّاسُ العَقِيدَةِ ذِرْوَةً مِثْلَ النُّسُورِ عَلَى الجِبَالِ تُحَلِّقُ
ويا معشر الإخوة:
هكذا يفعل الإيمان في قلوب معتنِقيه، فلو أنَّ ما حلَّ بأبي بصير كان مع رجُلٍ من رجالات الدنيا، لارتدَّ عن دينِه وانقلب عدوًّا له، لكنَّ أبا بصيرٍ رجلُ عقيدة، تحوَّل من جندي في جيش المسلمين لو آوَوْه، إلى قائد كتيبة تقضُّ مضاجع المشركين، وترغمهم على تغْيير سياساتِهم السَّطحيَّة، ثمَّ يظلُّ ولاؤُه لله ولرسولِه وللمؤمِنِين.
شَتَّانَ مَا بَيْنَ الَّذِينَ لِرَبِّهِمْ بَاعُوا النُّفُوسَا
النَّاصِبِينَ صُدُورَهُمْ مِنْ دُونِ دَعْوَتِهِمْ تُرُوسَا
وَالرَّاقِدِينَ عَلَى الهَوَانِ يحمون الرؤوسَ
لا والَّذي سمك السَّماءَ وحاكَها، لن نهتدي إلاَّ بشرْع محمَّد.
صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي
كَان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أوفَى النَّاس.
إِنْ يَسْطَعِ الصُّبْحُ قُلْنَا: الصُّبْحُ يُشْبِهُهُ أَوْ يَنْفَحِ الوَرْدُ قُلْنَا: الوَرْدُ حَاكَاهُ
أخرج الإمام أحمد - رحِمه الله - وصحَّحه الألباني، عن عائشةَ - رضِي الله عنْها - ما مُخْتصره: اشترى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم - من رجُلٍ من الأعراب جَزورًا بوسقٍ من تَمر العجوة، ورجع به النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليعطيَه حقَّه، التمس التمرَ له فلَمْ يجِدْه، فخرج وقال: ((يا عبد الله، التمسْنا التمر فلم نجِدْه))، فقال الأعرابي: واغدراه واغدراه! فنهنه النَّاس وانتهروه وقالوا: قاتلك الله! أتغدِّر رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال رسولُ الله: ((دعوه؛ إنَّ لصاحب الحقِّ مقالاً))، فلمَّا رآه لا يفقه عنْه قال لرجُل من أصحابه: ((اذْهَب لخولة بنت حكيم وأوْفِه الَّذي له))، فأوْفاه حقَّه كاملاً، فزال غضبُه وتغيَّرت لهجتُه، وأتى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: جزاك الله خيرًا؛ فقد أوفيتَ وأطيبت.
وَغَايَةُ جُهْدِ أَمْثَالِي ثَنَاءٌ يَدُومُ مَدَى اللَّيَالِي أَوْ دُعَاءُ
فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أولئِك خيرُ عباد الله الموفون المطيّبون))، وهو خيرُهم.
صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي
كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أوفى النَّاس.
أَحْيَا بِهِ اللَّهُ هَذَا الخَلْقَ كُلَّهُمُ فَكَانَ رُوحًا وَهَذَا الخَلْقُ جُثْمَانُ
ثبتَ في السنن: أنَّ أبا رافع - رضِي الله عنه - قال: بعثتْني قريش إلى رسولِ الله - صلى الله عليْه وسلَّم - فلمَّا رأيتُ رسولَ الله ألْقِي في قلبي الإسلام.
إِنَّ الوُجُوهَ عَلَى القُلُوبِ شَوَاهِدٌ فَأَمِينُهَا لَكَ بَيِّنٌ وَالخَائِنُ
قلتُ: يا رسول الله، إنِّي والله لا أرجِع إلى قرَيش أبدًا، لكنَّ الرسالة تقتضي جوابًا، والجواب لا يصل إلاَّ مع الرسول، فكأنه عقدٌ عقد، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي لا أَخيس بالعهْد ولا أحبِس البُرُد، ولكن ارجِع فإنْ كان في نفسِك الذي في نفسِك الآن فارجع إليْنا))، قال: فذهبت إلى قريش فبلَّغتُهم ثمَّ أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليْه وسلَّم - فتشهدْتُ وأسلمت.
رَأَيْتُ وَجْهًا بَدِيعًا بِكُلِّ خَيْرٍ تَحَلَّى
وَكُنْتُ أَعْدَدْتُ نَحْوِي ذَخِيرَةً فَاضْمَحَلَّ
وَهَلْ يَخْفَى عَلَى السَّارِينَ نَهْجٌ إِذَا مَا البَدْرُ فِي الأُفُقِ اسْتَنَارَا
فعليه الله صلى وعليْه اللهُ سلَّم.

كان - صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم - سيرةً فريدة وأيَّ سيرة!
أَحْبَبْتُهَا طِفْلاً وَهِمْتُ بِهَا فَتًى وعشقتها كهلاً وزدتُ تعلُّقا
في السِّير بسندٍ حسَّنه ابنُ حجَر - رحِمه الله - لمَّا فتح الله مكَّة لرسولِه، ونزل بها واطمأنَّ النَّاس خرج فطاف بالبيت، ثمَّ دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مِفتاح الكعبة، فدخَل فيها وصلى ركعَتين ثمَّ جلس، فقام علي - رضي الله عنْه وأرْضاه - وقال: يا رسول الله، اجْمع لنا الحجابةَ مع السِّقاية، صلَّى الله عليك.

السُّلطة آنذاك بيدِه كاملة، وباستطاعتِه أن يمنحَ بني هاشمٍ شرَف الحجابة مع السِّقاية، وهُم لذلك أهل، ولكنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم ينزِعْه من قومٍ توارثُوه، مع أنَّ عثمان بن طلحة قد أغْلظ عليْه قبل الهجرة حينما أراد أن يدخُل البيت ذات يوم، فقال له النَّبيُّ - صلى الله عليْه وسلَّم - آنذاك: ((لعلَّك ترى هذا المِفتاح بيدي أضعُه حيثُ شئْتُ))، وأصبح المفتاح في يده، على هذا كلِّه قال: ((هاك مِفتاحك يا عثمان، اليومُ يومُ برٍّ ووفاء)).

وَفَاءٌ بِهِ ازْدَانَتْ أَبَاطِحُ مَكَّةٍ وَعَزَّ بِهِ ثَوْرٌ وَتَاهَ حِرَاءُ
رُوي أنَّه لمَّا ولَّى عثمان دعاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم - وقال: ((ألَم يكُن الَّذي قلتُ لك؟)) فقال: بلى، بأبِي أنتَ وأمِّي، وأشهد أنَّك رسولُ الله، فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((خذوها خالدةً تالدةً، لا ينزِعُها منكم إلاَّ ظالم))، وولَّى عثمان وحالُه:
أَراني من جميلِ الفعْلِ ما يستعْبِدُ الحرَّ، فسِرْتُ أذكره في السِّرِّ والعلن.
وفِي انتِباهي وفي نوْمِي وإغفائي، منّي صلاةٌ وتسليمٌ يُقارنُها عليه ما اهتزَّ نَورٌ غبّ هطلان.

كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوفى النَّاس.
فَمُفْرَدٌ بِالوَفَا قَدْ جَاءَ مُنْحَصِرًا فِي نَعْتِهِ المُبْتَدَا المَرْفُوعُ وَالخَبَرُ
فمعَ أعْباء الرِّسالة لم ينسَ الَّذين لبَّوا دعوته، وبذَل كلٌّ منهُم في سبيلِ الله مُهْجَته، فإلى آخِر يومٍ في حياته يذكرهم يدعو لهم، يزورهم يستغفر لهم.
فَهُمُ السَّابِقُونَ فِي كُلِّ خَيْرٍ وَهُمُ الأَبْعَدُونَ عَنْ كُلِّ ذَامِ
يوصي الأمَّة بهم:
((احفظوني في أصحابي - لا تسبّوا أصحابي - إذا ذُكِر أصْحابي فأمسِكوا - مَن سبَّ أصحابي فعليْه لعنةُ الله والملائكةِ والنَّاس أجمعين))، وفي أُحدٍ يقف حزينًا على شهدائِهم ويصلِّي عليْهم بعد ثَماني سنين مودِّعًا لهم ويقولُ: ((أنا شهيدٌ يومَ القيامة عليْهِم))، ويذكُرهم ويقول: ((والله، لودِدتُ أنِّي بودرتُ بحضن الجبل معهم)).
لا خَيْرَ فِي مَن لَيْسَ يَعْرِفُ فَضْلَهُمْ مَنْ كَانَ يَجْهَلُهُ فَلَسْنَا نَجْهَلُهُ
يفشي أحد الصَّحابة سرًّا وهو يتهيَّأ لفتْح مكَّة، وعذْرُه أن تكون له يدٌ يدفع الله بِها عن أهلِه ومالِه، فصدَّقه النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في اعتذارِه، ولمَّا استأْذن عمرُ في ضرْب عنُقِه نظرَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رصيدِه الماضي فوجده شهِد بدرًا - ولم يشهدْها إلاَّ مؤمنٌ صادق الإيمان - فقال وفاءً لصاحبِه قولاً يأخُذ سامعَه ما يأخذ النشْوانَ على نقر العيدان: ((يا عمر، وما يدريك؟ لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم)).
كَلِمٌ أشهى من العسلِ، العَقَنْ منْه ولا تسَلِ

ويطَّلعُ على منافقٍ يجهد في هدْم الإسلام وإيذاء أصحابِه، فيُراودُه عمر على قتلِه فيمنعه وفاءً لاسم الصُّحبة، ولجهل النَّاس بحقيقته: ((دعْه يا عمر؛ لا يتحدث النَّاس أنَّ محمَّدًا يقتل أصحابه)).

رفّت الدنيا عليها وازدهت وتغنَّت بمعانيها القوافي، أولى بالمؤمنين من أنفُسِهم، ما مات أحدٌ منهم إلاَّ خلفه في أهله وولده.
بِذَا شَهِدَ الأَيَامَي وَاليَتَامَى وَتُرْضِيكَ الأَرَامِلُ فِي الشُّهُودِ
أُمُّ حبيبة - رضي الله عنها - رملة تُهاجر مع زوجِها إلى الحبشة، فيرتدُّ زوْجُها ويتنصَّر.
وَيَحْسَبُ أَنَّهُ بَلَغَ الثُّرَيَّا وَمَا يَنْفَكُّ يَهْوِي لِلحَضِيضِ
يُخيِّرها بين أن تتنصَّر أو تفارق، فوجدتْ نفسَها بين ثلاث: إما أن تتنصَّر، وهذا ما لا تفعلُه ولو مُشِطَ لحمُها بأمشاط الحديد وقد ذاقتْ حلاوة الإيمان، وإمَّا أن تعود لبيْت أبيها بمكَّة، ولم يزل قلعة للشِّرْك لتعيش مغلوبة مقهورة، وإمَّا أن تبقى في بلاد الغُرباء وحيدةً شريدةً، هولٌ به باتت الأهوال تحتقر، فاختارتْ رضا الله على ما سِواه وقرَّرت الفِراق والبقاء في أرض الغرباء كالقمَّة الشمَّاء.

والنَّار في الأعماق لكن ما أروعَ الإصرارَ رغم الظما! علِم رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - خبَرَها فخطبَها وتزوَّجها، فعادت بخير ما عادتْ به امرأةٌ على وجْه الأرض؛ كانت زوجًا لفرْدٍ وارتدَّ فصارت زوجًا لخاتم النَّبيين، كانت أمًّا لحبيبةَ، فصارتْ أمًّا لجميع المؤمنين.
وَاسْتَقْبَلَتْ رَمْلُ عَهْدًا لا نَظِيرَ لَهُ فِي كُلِّ مَا سَجَّلَ التَّارِيخُ مِنْ حِقَبِ
ويَموت أبو سلمة - رضِي الله عنْه - مُجاهدًا في سبيل الله معه، فيخلفه في أهلِه وولدِه ويتزوَّج أمَّ سلمة - رضِي الله عنها - ويقول مقالةً بشمائلَ أحلى من السلْسالِ: ((عيالُك عيالي)).
فَنَالَتْ بِهِ فَوْقَ مَا تَرْغَبُ وَمَا مِنْ لِسَانٍ لَهَا يُعْرِبُ
ويفِي لجعفرٍ - رضي الله عنْه - في حياته وبعد مماتِه، فحين استشهد بمؤتة حزِن عليه النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وطلب أبناءَه فشمَّهم، وذرفت عيناه عليْه، وأوصى أصحابَه ألا يغفلوا عنهم وأن يصنعوا الطَّعام لهم، فقد أتاهم ما شغلهم، ثمَّ جاءهم بعد ثلاثٍ فقال: ((لا تبْكوا على أخي بعد اليوم))، ودعا بني جعفر فجاؤوا كالأفراخ، فأمر بِحلقِ رؤوسِهم ثمَّ دعا لهم: ((اللَّهُمَّ اخلف جعفرًا في أهلِه، وبارِكْ لعبدالله بن جعفر في صفقة يمينِه))، وقال لأمِّهم لما ذكرتْ يُتْمَهم وجعلت تحزنُه عليهم: ((العيلة عليهم تَخافين وأنا وليُّهم في الدنيا والآخرة؟!)).
وَفَاءٌ عَظِيمٌ قَدْ تَضَوَّعَ رِيحُهُ نَسِيمَ الصَّبَا هَبَّتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ
عَلَيْهِ صَلاةُ اللَّهِ مَا قَالَ قَائِلٌ قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ

كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوْفى النَّاس.
وَفَاءٌ كَوَجْهِ الصُّبْحِ مَا دَرَّ نُورُهُ عَلَى مُدْلَهِمِّ الخَطْبِ حَتَّى تَبَدَّدَا
فَحَامَتْ قُلُوبُ النَّاسِ فِي رَوْضِهِ كَمَا تَحُومُ عِطَاشُ الطَّيْرِ أَبْصَرْنَ مَوْرِدَا
أبو بكرٍ - رضي الله عنْه - أحبُّ الرِّجال إليه صاحبه في الغار شيْخ المهاجرين والأنصار.
مَنْ قَالَ قَوْلَتَهُ الغَرَّاءَ يَرْفَعُهَا كَالسَّيْفِ فِي وَجْهِ مَنْ خَارُوا وَمَنْ ثَارُوا
الدِّينُ كُلٌّ وَلَيْسَ الدِّينُ تَجْزِئَةً بَعْضٌ صَحِيحٌ وَبَعْضٌ مِنْهُ أَصْفَارُ
أَعَادَ لِلمُسْلِمِينَ الفَجْرَ مُبْتَسِمًا مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَمْحُو الفَجْرَ فُجَّارُ
يفي له - صلى الله عليْه وسلَّم - ويبين للأمَّة مكانته؛ ليعرفوا قدره ومنزلَتَه، حيث قالَ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما لأحدٍ عندَنا يدٌ إلاَّ وقد كافَأْناه بها، ما خلا أبا بكرٍ فإنَّ له يدًا يُكافِئُه الله بها يوم القيامة، ومَا نفعنِي مالٌ قطّ ما نفعنِي مالُ أبي بكْر، ولو كنتُ متَّخذًا خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً)).
مَكَانٌ مَا ارْتَقَى أَحَدٌ إِلَيْهِ وَمَا بَلَغَتْهُ هِمَّةُ ذِي ارْتِيَادِ
كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوفى الناس.
وفاؤه فاح وفاق العرار لازال ممدود الأيادي، وفي اليمين يمنٌ واليسار يسار.

وفى - صلَّى الله عليْه وسلَّم - للأنصارِ حين بايعوه بيعة العقبة، وخشِي بعضُهم إذا ظهر أن يعود لقومه، فتبسم - صلى الله عليْه وسلَّم - وقال: ((بل الدَّم الدَّم، والهدم الهدْم، أنا منكم وأنتم منِّي، أحاربُ مَن حاربتم وأُسالِمُ مَن سالمتُم)).

والحال:
فَلا تَخْشَوُا الإِعْلالَ مَا كُلُّ مَصْدَرٍ يُعَلُّ وَمَا الأَفْعَالُ إِلاَّ لِفَاعِلِ
وهاجر إليْهِم فاستقْبلوه وصحبَه أيَّما استقبال، لوِ استطاعتْ لطارت في لقائِهم الأرض والأهل والأبناء والدارُ، فلمَّا فتح الله له مكَّة أشْفقوا أن يُقيم بها ويتْركهم، فقالوا: أدركتْ رسولَ الله رغبةٌ في قريتِه ورأفةٌ بعشيرته، فطمأَنَهم وقال: ((كلاَّ إنِّي عبدُ الله ورسوله، المحْيا محْياكم والمماتُ مَماتُكم))، فضجُّوا يبكون ودمعُهم هطلٌ في الخدّ كالديمِ يقولون: والله، ما قُلنا الَّذي قُلنا إلا ضنًّا وشحًّا بك أن تُفارقنا، فصدَّقهم وعذرهم؛ فهو الَّذي يرعى الوداد لِمن رعى يَفديه بالرُّوح وبالمال معًا.

حالهم:
شَرَّفْتَ أَرْضًا طَالَمَا اشْتَاقَتْ لَكُمْ وَوَصَلْتَ قَلْبًا طَالَمَا حَنَّ إِلَيْكْ
ثمَّ أوصى بهم - صلى الله عليْه وسلَّم - في مرض موتِه؛ كما ثبت في الصَّحيح أنَّ أبا بكرٍ والعبَّاس - رضِي الله عنْهما - مرَّا بمجلسٍ من مَجالس الأنصار وهم يبْكون، فقالا: ما يُبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلِس رسولِ الله - صلى الله عليْه وسلَّم - منَّا.
لَوْ مَلَكْنَا فِدَاءَهُ لَبَذَلْنَا مَا مَلَكْنَا مِنْ طَارِفٍ وَتَلِيدِ
فِدَاهُ كُلُّ مَا حَمَلَتْهُ أُمٌّ وَمَنْ لَبِسَ العِمَامَةَ وَالرِّدَاءَ
فدخلوا على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخبروه بذلك فخرَج وقد عصبَ على رأْسِه حاشية برد، فصَعِدَ المنبر ولم يصعدْه بعد ذلك، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أُوصيكم بالأنصار فإنَّهم كَرِشي وعيْبتي – يعني: بطانتي وخاصَّتي - وقد قضوُا الَّذي عليْهِم وبقِي الَّذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم وتَجاوزوا عن مسيئِهم)).
كَلِمَاتُهُ بَيْنَ الجَوَانِحِ طَعْمُهَا كَالزَّنْجَبِيلِ بِعَذْبِ مَاءٍ سَلْسَلِ
ثمَّ واعدَهم الحوْض: ((أما إنَّكم ستلقَون بعدي أثرةً، فاصبِروا حتَّى تلْقَوني على الحوْض)).
فَالنَّاسُ يُوعَدُونَ بِالحُطَامِ وَهُمْ بِحَوْضِ سَيِّدِ الأَنَامِ
صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي

كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أبرَّ وأوفى النَّاس.
كَأَنَّ أَخْلاقَهُ فِي أُذْنِ سَامِعِهَا مَسَاقِطُ الشَّهْدِ مِنْ أَعْوَادِ مُشْتَارِي
شَدَوْتُ فِيهَا إِلَى أَنْ كِدْتُ مِنْ طَرَبٍ أَظُنُّنِي ذَا جَنَاحٍ بَيْنَ أَطْيَارِي
وفَى لصهره أبي العاص زوْج ابنتِه زينب، وهو أبو أمامة التي كان يَحملها في صلاته؛ حيثُ أطلقه بلا فداءٍ بعد بدْر لما عرف له من كفِّ يدِه ولسانه، فما سُمِعَ له صوتٌ في بدر، وما شُوهد له جولة، وما علم له موقف قطّ في مقاومة الدَّعوة.
قَدْ سَمَا عَنْ كُلِّ أَخْلاقٍ تُشَانْ تَاقَ لِلقُرْآنِ يُتْلَى وَالأَذَانْ
بعثتْ زينب في فدائه بقلادة قلَّدتها بها أمُّها خديجة يوم زفَافِها، فلمَّا رآها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رقَّ لها رِقَّةً شديدة، وفي مظهرٍ من مظاهر الرَّحْمة بابنتِه وتذكّر لصاحبة القلادة يَحمل في طيِّه مقصدًا دعويًّا، وهو تألّف أبي العاص على الإسلام، قال: ((إنْ رأيتُم أن تُطْلقوا لها أسيرَها وتردُّوا عليْها الَّذي لها)) فقالوا: نعم ونعمةُ عين.
وَرَاضُوا عَلَى حُبِّ الحَبِيبِ نُفُوسَهُمْ فَكَانَ لِوَجْهِ اللَّهِ ذَاكَ التَّقَرُّبُ
فأخذ عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُخلي سبيل زينب إليْه ووفى بوعده، وأثْنى عليْه النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((حدَّثني فصدقني ووعدَني فوفى لي))، كان يتاجرُ بأموال قريش فاعترضته رجال أبي بصير في هدنة الحديْبية، فأخذوا ماله وفرَّ إلى المدينة، واستجار بزيْنب فأجارتْه وقالتْ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إنَّه يطلب مالَه، فأرسل النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى أصحابِه رسالة قال فيها: ((إنَّ هذا الرَّجُلَ منَّا حيث قد علِمْتم، وقد أصبتُم له مالاً فإنْ تُحْسِنوا وتردُّوا عليه الَّذي له فإنَّا نحبُّ ذلك، وإن أبيتُم فهو فيءُ الله أفاءَه عليْكم وأنتم أحقّ به))، فقالوا في تجرُّدٍ لله: بل نردُّه عليه، وردّوا عليه مالَه لا يفقِد منه شيئًا.

ولا عجب، فمَن تحمَّل القيود لله فالدّنيا أهْون فائتٍ لديه، فلا يستوي من همُّه الله وحده ومَن همُّه الأعلى لجمْع الدراهم.

رجَع لأهل مكَّة وردَّ أموالهم، وقال: هل بقي لأحدٍ منكم عندي مالٌ لم يأخذه؟ قالوا: لا، ولقد وجدناك وفيًّا كريمًا، قال: فإنِّي أشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله، والله ما منعني من الإسلام عندَه إلاَّ أن تقولوا إنَّما أردت أن آكُلَ أموالكُم.
فَارْتَقَى مِنْ دَرَجِ العَلْيَاءِ مَرْقًى عَلَّمَ الجَوْزَاءَ مَا مَعْنَى العَلاءِ
ثم خرج فقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - والحال:
إِلَيْكَ إِلَيْكَ نَبِيَّ الهُدَى رَكِبْتُ الجِمَالَ وَجُزْتُ القِفَارَ
وَلَوْ كُنْتُ لا أَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ لَطِرْتُ وَلَوْ لَمْ أُصَادِفْ مَطَارَا
فردَّ عليْه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - زينبَ زوجَه.

والصُّبح أسفر بعد ليلٍ داجٍ، فجلا لهم ظُلَمَ الليالي بغتة من غير مشكاة ولا مسراج.

كان - صلى الله عليه وسلم - أوْفى الناس.

هُوَ رَحْمَةٌ عَمَّتْ جَمِيعَ الأَرْضِ مِنْ عِنْدِ الكَرِيمِ المُنْعِمِ المُتَفَضِّلِ
هُوَ خَيْرُ مَنْ لَبِسَ النِّعَالَ وَمَنْ مَشَى فَوْقَ الثَّرَى خَيْرُ وَفِيٍّ مُرْسَلِ
وفى لعمِّه أبي طالب الذي ربَّاه حتَّى بلغ أشدَّه وأعانه على إبلاغ رسالة ربِّه، ومنعه من سُفهاء قومه، فلم يخلصوا إل
المشاهدات 2750 | التعليقات 0