الزبير بن العوام رضي الله عنه
ناصر محمد الأحمد
الزبير بن العوام (رضي الله عنه)
29/10/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: من منّا لم يسمع بالزبير بن العوام؟.
الزبير بن العوام: هو حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد أصحاب الشورى، أسلم وهو حدث وله ست عشرة سنة، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله، وقد تعرض بعد إسلامه للتعذيب، فقد رُوي أن عمّ الزبير كان يعلقه في حصير ويُدخّن عليه النار وهو يقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا.
ولما اشتد إيذاء قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه وأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة ليكونوا في جوار النجاشي، ذلك الملك العادل، فكانوا عنده بخير دار مع خير جار، وظلوا على تلك الحال من الأمن والاستقرار إلى أن نزل رجل من الحبشة لينازع النجاشي في الملك، فحزن المسلمون لذلك حزنًا شديدًا وخافوا أن يظهر ذلك الرجل، وهو لا يعرف حق الصحابة الأطهار ولا يعرف قدرهم، وهنا أراد الصحابة رضي الله عنهم أن يعرفوا أخبار الصراع الدائر بين النجاشي وبين هذا الرجل على الجانب الآخر من النيل، قالت أم سلمه رضي الله عنها: فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قالوا: فأنت؟ وكان من أحدث القوم سنًا. قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها مُلتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: فَدَعَوْنَا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، قالت: فوالله إنا لَعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع ثوبه وهو يقول: ألا أبشِروا، فقد ظفر النجاشي وأهلك الله عدوه ومكّن له في بلاده.
وبعد رجوع الزبير من الحبشة إلى مكة قام في كنف الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، يتلقى منه مبادئ الإسلام وأوامره ونواهيه، وعندما هاجر رسول الله للمدينة كان الزبير ضمن المهاجرين إليها.
أيها المسلمون: كان الزبير رضي الله عنه فارسًا مقدامًا وبطلاً مغوارًا، لم يتخلف عن مشهد واحد من المشاهد، تراه في كل غزوة وفي كل معركة، فقد اتصف بالشجاعة الخارقة، والبطولة النادرة، والإخلاص الكامل، والتفاني لإعلاء كلمة الحق، ولقد بذل الزبير رضي الله عنه الكثير في سبيل الله، وجعل نفسه وماله وقفًا لله عز وجل، فأكرمه الله ورفعه في الدنيا والآخرة، فقد كانت عليه عمامة صفراء معتجرًا بها يوم بدر، فعن عروة أنه قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء، فنـزل جبريل على سيماء الزبير، فيالها من منقبة لا توازيها الدنيا بما فيها.
وعن الزبير قال: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يُرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه فطعنته في عينيه فمات، قال الزبير: لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها. فسأله إياها رسول الله فأعطاه، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قُتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قتل.
وفي غزوة الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأتينا بخبر بنى قريظة؟ فقال الزبير: أنا، فذهب على فرس، فجاء بخبرهم. ثم قال الثانية، فقال الزبير: أنا، فذهب، ثم الثالثة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكُلَّ نبي حواريّ، وحواريَّي الزبير". ومعنى قوله: "وحواريي الزبير" أي: خاصتى من أصحابي وناصري، ولذلك سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يقول: أنا ابن الحواري، فقال: إن كنت من ولد الزبير وإلا فلا.
لقد نال الزبير في غزوة الخندق وسامًا خالدًا باقيًا على مر السنين، لقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بالحواري، وهو وصف عميق الدلالة واسع المفاهيم، والدارس لهذه المعاني يدرك أبعاد كلمة الحواري، ويتبين معالمها ويعرف أسرارها وأغوارها، وأكثر من يحتاج إلى العناية بهذه المفاهيم هم العلماء والدعاة والمربون، لأن الدعوة الإسلامية تحتاج إلى إعداد الحواريين ليقدموا نماذج حية في الأسوة والقدوة، لأن القدوة العملية أقوى وأشد تأثيرًا في نشر المبادئ والأفكار، لأنها تجسيد وتطبيق عملي لها، يسهل مشاهدتُها والتأثر والاقتداء بها، ولأن الحواريين يأخذون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقتدون بأمره، كما جاء في الحديث: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره". ومن سنن الدعوات أن مسيراتها تمر بالفتن والمحن وتبتلى من أصدقائها وأعدائها، فما مهمة الحواري؟.
مهمته: القدوة الحسنة، والإيمان التطبيقي، والإخلاص والفداء التي هي أبرز صفات الحواريين، فيكون مثالاً حقيقيًا لورثة الأنبياء، فيسعى لنشر الحق والخير وهداية الأمة والنهوض بها من كبوتها، ويضحي في سبيل الله بكل غال ونفيس ليجدد للإسلام شبابه ونضارته، في الوقت الذي يكون ساقطو الهمة لا همّ لهم إلا مصلحتهم الشخصية. والزبير بن العوام رضي الله عنه، نموذج فذ في تجسيد هذه المعاني، فقد تربى في أحضان الدعوة على يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقى الجرعات المطلوبة لتحمل أعبائها منذ شبابه الباكر، وموقف الزبير في غزوة الأحزاب يصور لنا شخصيته ونشأته على الجرأة والنصرة ومحبته للرسول صلى الله عليه وسلم، وأثبتت الأيام أنه كان رضي الله عنه رجل المهمات الصعبة.
عن عروة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشدُّ فنشدُّ معك؟. قال ابن كثير: "وقد كان فيمن شهد اليرموك الزبير بن العوام، وهو أفضل من هناك من الصحابة، وكان من فرسان الناس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ، فقالوا: ألا تحمل فنحمل معك؟ فقال: إنكم لا تثبتون. فقالوا: بلى. فحمل وحملوا، فلما واجهوا صفوف الروم أحجموا وأقدم هو، فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر، وعاد إلى أصحابه. ثم جاءوا إليه مرة ثانية ففعل كما فعل في الأولى، وجُرح يومئذ جُرحين بين كتفيه". قال ابن كثير: "وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين، من أولهم إلى أخرهم".
ولما قصد عمرو بن العاص مصر لفتحها كان معه قوات لم تكن كافية لفتحها، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستمده ويطلب المدد من الرجال، فأشفق عمر من قلة عدد قوات عمرو، أرسل عمر أربعة آلاف رجل، عليهم من الصحابة الكبار: الزبير، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة ابن مخلد، وكتب إليه: إني أمددتك بأربعة آلاف، على كل ألف منهم رجل مَقامُ ألف. وكان الزبير على رأس هؤلاء الرجال. وحين قدم الزبير على عمرو، وجده محاصِرًا حصن بابليون فلم يلبث الزبير أن ركب حصانه وطاف بالخندق المحيط بالحصن، ثم فرّق الرجال حول الخندق، وطال الحصار حتى بلغت مدته سبعة أشهر، فقيل للزبير: إن بها الطاعون. فقال: إنا جئنا للطعن والطاعون. وأبطأ الفتح على عمرو بن العاص، فقال الزبير: إني أهب نفسي لله، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلماً وأسنده إلى جانب الحصن من ناحية السوق ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعًا، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، فتحامل الناس على السُّلّم حتى نهاهم عمرو خوفًا من أن ينكسر، فلما رأى الروم أن العرب قد ظفروا بالحصن انسحبوا، وبذلك فَتح حصن بابليون أبوابه للمسلمين، فانتهت بفتحه المعركة الحاسمة لفتح مصر، وكانت شجاعة الزبير النادرة السبب المباشر لانتصار المسلمين على المقوقس.
وعن أسماء بنت أبى بكر الصديق رضي الله عنها قالت: تزوجني الزبير رضي الله عنه وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غيرُ فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسُوسُه، وأدق النوى للناضحة، وأعلفه وأسقيه الماء وأخرز وأعجن، ولم أكن أُحسن الخبز فكان يخبز لي جارات من الأنصار وكن نسوة صدق. قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي على ثُلثي فرسخ، قالت: فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه فدعا لي، ثم قال: "أخ أخ"، ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، قالت: وكان من أغير الناس. قالت: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه، فاستحييت وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد عليَّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إليّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: مرّ الزبير بمجلس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسان يُنشدهم من شعره وهم لا يسمعون منه، فجلس معهم الزبير، ثم قال: مالي أراكم غير أذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ فلقد كان يعرض به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن استماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشتغل عنه، فقال حسان يمدح الزبير:
أقام على عهد النبي وهديه حواريه والقول بالفعل يُعدل
أقام على منهاجه وطريقه يوالي ولىَّ الحقّ والحقُّ أعدلُ
هو الفارس المشهور والبطل الذي يصول إذا ما كان يومٌ محجّلُ
إذا كشَفت عن ساقها الحرب حَشّها بأبيض سبّاق إلى الموت يُرْقِلُ
وإن امرؤ كانت صفية أمَّهُ ومن أسد في بيتها لَمُؤتَّلُ
له من رسول الله قُربى قريبة ومن نصرة الإسلام مجد مؤثَّلُ
فكم كربة ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطى فيُجزل
ثناؤك خير من فعال معاشر وفعلك يا ابن الهاشمية أفضل
وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن الزبير سيموت شهيدًا، فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء، فتحرك فقال: "اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد". وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم.
عن عبد الله بن الزبير قال: جعل الزبير يوم الجمل يوصيني بدَينِه ويقول: إن عجزتَ عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد، حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: ما وقعتُ في كربة من دين إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه، فيقضيه، وإنما دينه الذي كان عليه: أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة. قال: فقُتل ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين، فبعتها وقضيت دينه، فقال بنو الزبير: اِقسِم بيننا ميراثنا. فقلت: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم، وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف. فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف. وقد وقع في تركته من البركة الشيء الكثير، وبارك الله له في أراضيه بعد موته، فوفى دينه وزاد عليه.
وهذا مثل من أمثلة اليقين الراسخ والإيمان القوي الذي ترتب عليه صدق التوكل على الله عز وجل، واللجوء إليه في قضاء الحوائج وكشف الكربات، فالمؤمن الحق يعتقد جازمًا بأن كل شيء بيد الله جل وعلا، فإذا وقع في ضائقة وكرب فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه تصور وجود الله تعالى وهيمنته على كل شيء، وأن المخلوقين الذين يُشكلون طرفًا آخر في قضيته إنما هم في قبضة البارئ جل وعلا، وأن قلوبهم بيده سبحانه يصرفها كيف يشاء، فليلجأ إليه قبل كل شيء ويسأله قضاء حاجته وتفريج كربته، ثم يقوم بعمل الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها موصلة إلى النتائج المطلوبة، مع الاعتقاد بأنها مجرد أسباب، وأن الفاعل والمقدّر هو الله تعالى، وأنه قادر على أن ينـزع من الأسباب قوة التأثير فلا تؤدي إلى نتائجها المعروفة.
اللهم ..