الرفق في الصلات الأسرية
د. محمود بن أحمد الدوسري
1439/07/23 - 2018/04/09 15:33PM
الرِّفق في الصِّلات الأُسرية
د. محمود بن أحمد الدوسري
23/7/1439هـ
الحمد لله ... من المجالات العظيمة التي يشملها الرفق هو المجال الأسري, وهنا نتحدث عن الأسرة بمفهومها الضيِّق؛ المُتمثِّل في الأب والأم والزوجة والأبناء والإخوة, والأسرة بمفهومها الواسع؛ المُتمثِّل في أُولي القربى وذوي الأرحام, وقد حثَّ النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم على هذا الخُلُق العظيم في التعامل مع أفراد الأسرة بمفهوميها؛ لِمَا في ذلك من أهميةٍ في تحقيق المودَّة والرحمة بين أفراد الأسرة, ومن ثَمَّ دعم المجتمع المسلم وترابطه, ومن أبرز مظاهر الرِّفق في محيط العلاقات الأُسرية التي حث عليها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم[1]:
أولاً: الرِّفق بالوالدين:
عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: جاء رَجُلٌ إلى رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَحَقُّ الناس بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قال: (أُمُّكَ). قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: (ثُمَّ أُمُّكَ). قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: (ثُمَّ أُمُّكَ). قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: (ثُمَّ أَبُوكَ)[2]. وفي روايةٍ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أُمُّكَ, ثُمَّ أُمُّكَ, ثُمَّ أُمُّكَ, ثُمَّ أَبُوكَ, ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ)[3].
وجه الدلالة: الرفق بالوالدين من حُسْن الصُّحبة المأمور به المسلم شرعاً, ودل الحديثان أيضاً على أنَّ الرِّفق بالأُم مُقدَّم على الرفق بالأب, والرِّفق بالأب مقدَّم على غيرِه, ثم الأقرب فالأقرب, بناءً على الترتيب والتَّكرار في الحديثين.
قال النووي – رحمه الله: (قال أصحابنا: يُستحب أنْ تُقدَّم في البِرِّ الأم, ثم الأب, ثم الأولاد, ثم الأجداد والجدَّات, ثم الإخوة والأخوات, ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام؛ كالأعمام والعمَّات, والأخوال والخالات, ويُقدَّم الأقرب فالأقرب, ويُقدَّم مَنْ أَدْلَى بأبوين على مَنْ أَدْلَى بأحدهما, ثم بذي الرَّحم غيرِ المَحْرَم؛ كابن العمِّ وبنتِه, وأولاد الأخوال والخالات, وغيرهم, ثم بالمصاهرة, ثم بالمولى من أعلى وأسفل, ثم الجار, ويُقدَّم القريبُ البعيدُ الدار على الجار, وكذا لو كان القريب في بلدٍ آخر قُدِّمَ على الجار الأجنبي, وألحقوا الزَّوجَ والزَّوجةَ بالمحارِم)[4].
ثانياً: الرِّفق بالأولاد:
أ- عن أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ - رضي الله عنها؛ (أنَّها أَتَتْ بِابْنٍ لها صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجْرِهِ, فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ, فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ ولم يَغْسِلْهُ)[5].
وعن عَائِشَةَ - رضي الله عنها؛ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ صَبِيًّا في حَجْرِهِ يُحَنِّكُهُ, فَبَالَ عَلَيْهِ, فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ)[6].
وجه الدلالة: الرِّفق بالأطفال الصغار, والصبر عليهم؛ لعدم تكليفهم.
قال النووي – رحمه الله: (فيه: النَّدب إلى حُسن المعاشرة, واللِّين, والتواضع, والرِّفق بالصِّغار وغيرِهم)[7].
وقال ابن حجر – رحمه الله: (يُستفاد منه: الرِّفق بالأطفال, والصَّبرُ على ما يحدث منهم, وعدمُ مؤاخذتِهم؛ لعدم تكليفهم)[8].
ب- عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالت: جاء أَعْرَابِيٌّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: أَتُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ, فَمَا نُقَبِّلُهُمْ؟! فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (أَوَأَملِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ؟)[9].
وجه الدلالة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنكرَ على هذا الأعرابيِّ عدمَ رِفقه بالصِّغار, ولو بالتقبيل.
ج- عن أُمِّ الْفَضْلِ - رضي الله عنها - قالتْ: رأيتُ كَأَنَّ فِي بَيْتِي عُضْواً مِنْ أَعْضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قالتْ: فَجَزِعْتُ مِنْ ذلك! فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ؟ فقال: (خَيْراً رَأَيْتِ, تَلِدُ فَاطِمَةُ غُلاَماً, فَتَكْفُلِينَهُ بِلَبَنِ ابْنِكِ قُثَمَ). قالتْ: فَوَلَدَتْ حَسَناً, فَأُعْطِيتُهُ, فَأَرْضَعْتُهُ حَتَّى تَحَرَّكَ أو فَطَمْتُهُ, ثُمَّ جِئْتُ بِهِ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, فَأَجْلَسْتُهُ في حِجْرِهِ, فَبَالَ, فَضَرَبْتُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ, فقال: (ارْفُقِي بِابْنِي, رَحِمَكِ اللهُ - أَو أَصْلَحَكِ اللهُ - أَوْجَعْتِ ابْنِي). قالتْ: قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اخْلَعْ إِزَارَكَ, وَالْبَسْ ثَوْباً غَيْرَهُ حَتَّى أَغْسِلَهُ, قال: (إِنَّمَا يُغْسَلُ بَوْلُ الْجَارِيَةِ, وَيُنْضَحُ بَوْلُ الْغُلاَمِ)[10]. وجه الدلالة: الرِّفق بالطفل وعدمُ مُجازاتِه وتأديبه حالَ بوله.
والأصل أنْ يُعامل الطفل بالرِّفق واللَّين, لكن إنْ دعت الحاجة إلى تأديبه, فلذلك وسائل متعدِّدة, منها: التوجيه, ولفت النظر, والإشارة, والتوبيخ, والهجر, والضرب الخفيف غير المُبرِّح, فيُتدرَّج في هذه الوسائل؛ لأنَّ المُربِّي كالطبيب.
ويُصنَّف الضَّرب بأنه من أعلى العقوبات, ولا يُلجأ إليه إلاَّ بعد استنفاد وسائل أخرى أخف منه, وللضرب شروط تجعل استعماله محدوداً وفي أضيق الظروف, إذ ليس من الرِّفق القفز إليه مباشرة دون التدرج في أنواع الوسائل التربوية في التأديب, وقد استخدمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم نفسُه مع ابنه الحسن؛ حينما أَخَذَ تَمْرَةً من تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ, فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم - بِالْفَارِسِيَّةِ: (كِخْ كِخْ؛ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ)[11]. وفي الحديث نوعٌ آخر من الرِّفق؛ وهو الرِّفق بالمرضعة, إذْ أنه صلى الله عليه وسلم عندما نهرها إنما دعا لها, ولم يدع عليها, وهذا فيه أبلغ آيات الرِّفق وأعلى درجاته؛ إذْ أنها قد آلمته بضربها ولدَه ورغم ذلك دعا لها رِفقاً بها.
ثالثاً: الرِّفق بالنِّساء:
المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه أَولى المرأة عموماً, والزوجة خصوصاً حقوقاً كثيرة, لم تكن تحصل عليها قبل بعثته صلى الله عليه وسلم, ولسنا بصدد استيفاء هذه الحقوق, لكن من أهمِّها:
أ- الوصية بالنساء خيراً: عن أبي هريرة - رضي الله عنه؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ, وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ, فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ, وَإِنْ تَرَكْتَهُ لم يَزَلْ أَعْوَجَ, فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا)[12].
قال ابن حجر – رحمه الله: (معناه: اقْبَلُوا وصِيَّتِي فيهنَّ, واعمَلوا بها, وارفُقوا بهنَّ, وأحسنوا عِشرتهنَّ)[14].
ب- مُداراة النِّساء: عن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ, وَإِنَّكَ إِنْ تُرِدْ إِقَامَةَ الضِّلَعِ تَكْسِرْهَا, فَدَارِهَا تَعِشْ بِهَا)[15].
وجه الدلالة: من صور الرِّفق بالزوجة المدارة, وهي: المُجاملة والمُلاينة[16]. قال ابن حجر – رحمه الله: (شِدَّةُ الوطأة على النِّساء مذمومٌ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذ بسِيرة الأنصار في نسائهم, وترك سِيرَةَ قومِه)[17].
ج- الخِدمة وتخفيف الأعباء: عن الأسْوَدِ قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها: مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ في بَيْتِهِ؟ قالتْ: (كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعْنِي: خِدْمَةَ أَهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ)[18].
وجه الدلالة: من صور الرِّفق بالزوجة خدمتُها, وتخفيف الأعباء عنها.
قال المُهَلَّب – رحمه الله: (هذا من فِعْلِه - عليه السلام - على سبيل التواضع, ولِيَسُنَّ لأُمَّتِه ذلك، فمِنَ السُّنة أنْ يَمْتَهِنَ الإنسانُ نفسَه في بيته, فِيمَا يحتاج إليه من أمرِ دنياه, وما يُعينه على دينه، وليس التَّرفُّه في هذا بمحمودٍ, ولا من سبيل الصالحين، وإنما ذلك من سِيَرِ الأعاجم)[19].
د- التَّلطُّف مع الزوجة: عن عائشةَ - رضي الله عنها, في قصة حادثة الإفك - بعد أن برَّأها الله تعالى منه: (... فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ بِهَا شَهْرًا يُفِيضُونَ[20] من قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ, وَيَرِيبُنِي[21] فِي وَجَعِي أَنِّي لاَ أَرَى مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ[22] الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِيْنَ أَمْرَضُ... )[23].
وجه الدلالة: من صور الرِّفق بالزوجة التَّلطُّف معها, والرِّفق بها, ولا سيما في وقت ضعفِها ومَرَضِها وهمومِها.
هـ- التَّرفيه عن الزَّوجة: عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ, فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ, وَدَخَلَ أبو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي, وقال: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: (دَعْهُمَا) فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا.
وكان يومَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ, فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم, وَإِمَّا قال: (تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟). فقلتُ: نَعَمْ. فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ, خَدِّي عَلَى خَدِّهِ, وهو يقولُ: (دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ)[24]. حتَّى إذا مَلِلْتُ قال: (حَسْبُكِ؟). قلتُ: نَعَمْ. قال: (فَاذْهَبِي)[25].
وعن عَائِشَة - رضي الله عنها - قالتْ: (واللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ عَلَى بَابِ حُجْرَتِي, وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ؛ لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى لَعِبِهِمْ, ثُمَّ يَقُومُ مِنْ أَجْلِي, حَتَّى أَكُونَ أَنَا التِّي أَنْصَرِفُ, فَاقْدِرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ, الْحَدِيثَةِ السِّنِّ, حَرِيصَةً عَلَى اللَّهْوِ)[26].
وجه الدلالة: (الرِّفقُ بالمرأة, واسْتِجْلابُ مَوَدَّتِها)[27], و(بيانُ ما كان عليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الرأفةِ والرحمةِ وحُسنِ الخُلق, والمعاشرةِ بالمعروف مع الأهل والأزواجِ وغيرِهم)[28], وفيه (المُوافقةُ والمُساعَدةُ على الإرادة غيرِ المُحرَّمة، والصَّبرُ على أخلاقِ النِّساءِ والصِّبيان في غير المُحرَّم من اللَّهو، وإنْ كان الصَّابِرُ كارِهًا لما يُحِبُّهُ أهلُه)[29].
و- مراعاة رِقَّة النِّساء وضَعْفِهِنَّ: عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ لَهُ, فَحَدَا الْحَادِي, فقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (ارْفُقْ يَا أَنْجَشَةُ! وَيْحَكَ, بِالْقَوَارِيرِ)[30].
قال أبو محمد الرَّامَهُرْمُزِي – رحمه الله: (يقول - صلى الله عليه وسلم: اجعلْ سَيْرَكَ على مَهَل؛ فإنك تسير بالقوارير, فكنَّى عن ذِكر النساء بالقوارير... وسُمِّيت النِّساء قوارير؛ لأنهن أشْبَهْنَها بالرِّقة واللَّطافة, وضعفِ البِنْية)[31].
وقال ابن بطال – رحمه الله: (القوارير هنا: كناية عن النساء الذين على الإبل، أمَرَه بالرِّفق في الحِداء والإنشاد؛ لأنَّ الحِداء يحثُّ الإبلَ حتى تُسرع السَّير، فإذا مَشَت الإبلُ رويداً أُمِنَ على النِّساء السُّقوط)[32].
الخطبة الثانية
الحمد لله ... ومن أبرز مظاهر الرِّفق في محيط العلاقات الأُسرية:
رابعاً: الرِّفق بالأرحام والأصهار:
أ- ومن الرِّفق بالأرحام[33]: ما جاء عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما؛ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ, وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا)[34].
وجه الدلالة: أنَّ صِلَةَ الرَّحم المطلوبة شرعاً, هي عين الرِّفق بها, وقطيعتها جفاء.
وما جاء عن سَلْمَانَ بن عَامِرٍ - رضي الله عنه؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ, وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ)[35].
وجه الدلالة: الرفق بالأرحام المُعوِزين, أعظم أجراً, وأَوْلَى من الرِّفق بعموم المساكين.
ب- ومن الرِّفق بالأصهار[36]: ما جاء عن سَهْلِ بنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - قال: إِنْ كَاَنْت أَحَبَّ أَسْمَاءِ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - إِلَيْهِ لأَبُو تُرَابٍ, وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أَنْ يُدْعَى بِهَا, وَمَا سَمَّاهُ أَبُو تُرَابٍ إِلاَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم, غَاضَبَ يَوْمًا فَاطِمَةَ فَخَرَجَ فَاضْطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ فِي الْمَسْجِدِ, فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتْبَعُهُ, فقال: هُوَ ذَا مُضْطَجِعٌ فِي الْجِدَارِ, فَجَاءَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَامْتَلأَ ظَهْرُهُ تُرَابًا, فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ, وَيَقُولُ: (اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ)[37].
وجه الدلالة: استحباب الرِّفق بالأصهار وتركُ معاتبتهم؛ إبقاءً لِمَودَّتِهم.
قال ابن بطال – رحمه الله: (وفي هذا الحديث: أنَّ أهل الفَضْل قد يقع بينهم وبين أزواجِهم ما جَبَلَ اللهُ عليه البشرَ من الغَضَب والحَرَج, حتى يدعوهم ذلك إلى الخروج عن بيوتهم، وليس ذلك بعائب لهم.
وفيه: ما جَبَلَ اللهُ عليه رسولَه من كَرَمِ الأخلاق, وحُسْنِ المعاشرة, وشِدَّةِ التواضع؛ وذلك أنه طَلَبَ عليًّا وأَتْبَعَه حتى عَرَف مكانَه ولَقِيَه بالدُّعابة، وقال له: (اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ) ومَسَحَ الترابَ عن ظهره؛ لِيُبْسِطَه ويُذْهِبَ غيظَه, وتَسْكُنَ نفسُه بذلك، ولم يُعاتبْه على مغاضبته لابنته.
وما جاء عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قالتْ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ, أُخْتُ خَدِيجَةَ, عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ[39] فَارْتَاحَ لِذَلِكَ[40], فقال: (اللَّهُمَّ! هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ) فَغِرْتُ, فَقُلْتُ: وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ, حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ[41], هَلَكَتْ في الدَّهْرِ, فَأَبْدَلَكَ اللهُ خَيْرًا مِنْهَا[42].
وجه الدلالة: استحباب الرِّفق بالأصهار, وفيه الرِّفق بالزوجة وترك مُعاتبها؛ بسب ما جُبِلَت عليه من الغَيرة الشديدة.
قال النووي – رحمه الله: (وفي هذا كلِّه دليلٌ لِحُسْنِ العهد, وحِفظِ الوِدِّ, ورعايةِ حُرمة الصَّاحبِ والعشيرِ في حياته ووفاته, وإكرامِ أهلِ ذلك الصاحب)[43].
وهذا المجال الثاني من مجالات الرِّفق الذي حثَّت عليه السُّنة ودعت إليه, وهو المجال الأسري, يُحقِّق أهدافاً ساميةً, ومنها:
1- تعميق العلاقات الأسرية وتوطيدها, مما يؤدي إلى تحقيق المودَّة والرحمة والألفة, والتي هي مطلبٌ أساس من مطالب تكوين الأسرة في الإسلام.
2- تكوين الشخصية الإسلامية السَّوية, وذلك من خلال نشأتها نشأةً سوية في بيئة اجتماعية داعمة لها, شعارها الرأفة والرحمة, فتختفي الأمراض النفسية والعُقَد والرواسب التي تنمو وتكبر مع الزمن بسبب سوء المعاملة.
3- الأسرة التي هي وِحْدَة بناء المجتمع, والتي إنْ صلحت صلح المجتمع, وإنْ فسدت فسد المجتمع, ومن ثَمَّ, فإنَّ الحرص على هذه الأسرة وتلك العلاقات الأسرية يؤدي في النهاية إلى مجتمع متماسك ومترابط, وهو الذي شبَّهه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضاً.
[1] انظر: الرفق في السنة النبوية, د. حسن محمد (ص101).
[2] رواه البخاري, (5/2225), (ح5626)؛ ومسلم, (4/1974), (ح2548).
[3] رواه مسلم, (4/1974), (ح2548).
[4] شرح النووي على صحيح مسلم, (16/103).
[5] رواه البخاري, واللفظ له, (1/90), (ح221)؛ ومسلم, (1/238), (ح287).
[6] رواه البخاري, واللفظ له, (5/2236), (ح5656)؛ ومسلم, (1/237), (ح286).
[7] شرح النووي على صحيح مسلم, (3/195).
[8] فتح الباري, (10/434).
[9] رواه البخاري, (5/2235), (ح5652).
[10] رواه أحمد في (المسند), (6/339), (ح26917)؛ وأبو يعلى في (مسنده), (12/500), (ح7074)؛ والطبراني في (الكبير), (3/20), (ح2526). وصححه محققو المسند, (44/446), (ح26875).
[11] رواه البخاري, (3/1118), (ح2907).
[12] رواه البخاري, واللفظ له, (5/1987), (ح4890)؛ ومسلم, (2/1091), (ح1468).
[13] شرح النووي على صحيح مسلم, (10/58).
[14] فتح الباري, (6/368).
[15] رواه أحمد في (المسند), (5/8), (20105)؛ والدارمي في (سننه), (2/198)؛ وابن حبان في (صحيحه), (9/485), (ح4178)؛ والحاكم في (المستدرك), (4/192), (ح7333) وقال: (صحيح الإسناد على شرط الشيخين, ولم يخرجاه), ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في (صحيح الجامع), (2/195), (ح1926).
[16] انظر: فتح الباري, (9/252).
[17] فتح الباري, (9/291).
[18] رواه البخاري, (1/239), (ح644).
[19] شرح صحيح البخاري, لابن بطال (7/542).
[20] (يُفِيضُونَ): أي: يَخُوضون فيه, مِنْ: أفاضَ في قَولٍ, إذا أكثرَ منه. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم, (17/106)؛ فتح الباري, (8/465).
[21] (يَرِيبُنِي): يقال: رابَه وأرابَه, إذا أَوْهَمَه وشكَّكَهُ. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم, (17/106).
[22] (اللُّطْفَ): المراد به: الرِّفق, وجاء في روايةِ ابنِ إسحاق: (أَنْكَرْتُ بَعْضَ لُطْفِهِ). انظر: فتح الباري, (8/465).
[23] رواه البخاري, (2/943), (ح2518).
[24] (دُونَكُمْ يَا بَنِي أَرْفِدَةَ): بنو أَرْفِدَةَ لقبٌ للحبشة, ولفظَةُ: (دُونَكُمْ) من ألفاظِ الإغراء, وحُذِفَ المُغرِي به, وتقديره: "عليكم بهذا اللَّعب الذي أنتُم فيه". وقيل: "آمِنوا مِنَّا ولا تخافوا". انظر: شرح النووي على صحيح مسلم, (6/186)؛ كشف المشكل, (4/267).
[25] رواه البخاري, (1/323), (ح907)؛ ومسلم, (2/609), (ح892).
[26] رواه البخاري, (5/1991), (ح4894)؛ ومسلم, واللفظ له, (2/609), (ح892).
[27] فتح الباري, (2/443).
[28] شرح النووي على صحيح مسلم, (6/184).
[29] شرح صحيح البخاري, لابن بطال (7/298).
[30] رواه البخاري, (5/2294), (ح5856).
[31] أمثال الحديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم, للرَّامَهُرْمُزِي (ص123-124).
[32] شرح صحيح البخاري, (9/324).
[33] الأرحام: جمع رَحِم, قال ابن حجر - رحمه الله: (الرَّحِمُ: يُطلق على الأقارب, وهم مَنْ بينه وبين الآخَرِ نسبٌ, سواءٌ كان يرثه أم لا, وسواءٌ كان ذا مَحْرَمٍ أم لا, وقيل: هم المَحارِم فقط. والأوَّل هو المُرَجَّح؛ لأنَّ الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام, وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام, وليس كذلك). فتح الباري, (10/414).
[34] رواه البخاري, (5/2233), (ح5645).
[35] رواه أحمد في (المسند), (4/18), (ح16277)؛ والدارمي في (سننه), (1/488), (ح1680)؛ والترمذي, (3/47), (ح658)؛ والنسائي, (5/92), (ح2582). وصححه الألباني في (صحيح سنن الترمذي), (1/358), (ح658).
[36] الصِّهْر: هو القريب بالزَّواج, ويُوصف به فيقال: هو صِهري, والجمعُ: أصهار. انظر: المعجم الوسيط, (1/527).
[37] رواه البخاري, (5/2291), (ح5851).
[38] شرح صحيح البخاري, (9/352, 353)؛ وانظر: فتح الباري, (10/588).
[39] (فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ): أي: صفةَ استئذانِ خديجة؛ لِشَبَهِ صَوتِها بصوت أُختِها, فتذكَّر خديجةَ - رضي الله عنها - بذلك.
[40] (فَارْتَاحَ لِذَلِكَ): أي: هَشَّ لِمَجيئها, وسُرَّ بها؛ لِتَذَكُّرِه بها خديجةَ - رضي الله عنها - وأيامَها.
[41] (حَمْرَاء الشِّدْقَيْنِ): معناه: عجوزٌ كبيرةٌ جداً, حتى قد سقطتْ أسنانُها من الكِبَر, ولم يبقَ لِشِدْقِها بياضُ شيءٍ من الأسنان, إنما بَقِيَ فيه حُمْرَةُ لَثَاتها. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم, (15/202).
[42] رواه البخاري, (3/1389), (ح3610)؛ ومسلم, واللفظ له, (4/1889), (ح2437).
[43] شرح النووي على صحيح مسلم, (15/202).
المرفقات
في-الصلات-الأسرية
في-الصلات-الأسرية