الرزّاق والرزق
حسين بن حمزة حسين
الحمد لله رب العالمين ...
إخوة الإيمان : اللهُ ربُنا هو الرزَّاقُ الكريم ، وهو على كل شيءٍ قدير: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾، ورزقُه سبحانه لا يخص به مؤمنًا دون كافر.. ويسوقه إلى الضعيف الذي لا حيلة له، كما يسوقه إلى الجلد القوي، قال تعالى: (كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) ، وخزائنه ملئ لا تنفد ، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عَنِه قَالَ : قال النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فِيمَا يرَوَيه عَنِ رَبِهِ تَبَارَكَ وَتعالي: ) يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَ إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ) . رواه مسلم ، ورزْق العبد مضمون مكتوب قبل أن يُوجد ، قال صلى الله عليه وسلم (إن أحدكم يُجمَع خَلْقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون عَلَقة مِثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسل إليه المَلَك فيَنفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد))؛ رواه الشيخان ، أقسم الله تعالى على ذلك ، فقال في محكم كتابه : (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ* فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) ، ولا ينقطعُ عن ابْنِ آدَمَ الرزقُ حتى تنقطعَ أنفاسُه ، فعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ : قال رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم : ( لَو أَنَّ ابْنَ آدَمَ هَرَبَ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَهْرُبُ مِنَ الْمَوْتِ، لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ كَمَا يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ) حسنه الألباني.. ، قال الحسن البصري رحمه الله ( علمت أن رزقي لا يأخذه غيرى فاطمأن قلبي ، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيرى فاشتغلت به وحدي ، وعلمت أن الله مطلع علي فاستحييت أن يراني عاصيا، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء ربى ) ، وكثرة عطاء الله ورزقه للعبد لا تدل على محبته له ، فالله تعالى يرزق الجميع ، ولكنه قد يزيد أهل الضلال والجهل في الرزق ، ويوسع عليهم في الدنيا، وقد يقتر على أهل الإيمان، فلا يظن أن العطاء والزيادة دليل المحبة والاصطفاء! ، قال تعالى : ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾، قال تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) ، دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، على النبي صلى الله عليه وسلم في غرفته، وهو على حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ، وإن عند رجليه قَرَظًا مصبوبًا ، وعند رأسه أَهَبْ معلقة ، فرأيت أثر الحصير في جنبه فبكيت، فقال: (ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ، والله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب. ولا يعطي الإيمان إلا من يحب) .
إخوة الإيمان : حذَّرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن تتعلق قلوبنا بتحصيل الأرزاق وننسى ما خُلقنا من أجله من عبادة الله ، ويُصبح الواحد منّا تعيساً مهموما مغموما ً -نسأل الله السلامة –فيصبح عبداً للدرهم والدينار ( تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار ) ، فنمنع حقوق ربنا في أموالنا ، بل وقد تمتد أيدينا إلى ما لا يحل لنا ؛ فنكون كالذي يأكل ولا يشبع، ويجمع ولا ينتفع! نعوذ بالله من نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أَيُّـهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ) رواه ابن ماجة وأبو نعيم في الحلية وصححه الألباني.
إخوة الإيمان : الرزق يبارك فيه بالطاعة، ويمحق بالمعصية، فما عند الله تعالى لا ينال إلا بطاعته؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾، وفي المسند: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه))، فما استجلب رزق بمثل تقوى الله وترك المعاصي ، قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ماتسمعون...
الخطبة الثانية
أيها الإخوة: من أسماء الله تعالى الحسنى الرزَّاق ، فاسألوه واستذروا منه الرزق بحسن الطلب والقصد من دعاء وعمل ، فالاعتماد على العمل نقص في الدين ، وترك العمل نقص في العقل ، وتيقنوا الإجابة ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي) رواه البخاري ، وما ضاقت إلا لتفرج ، والمؤمن كل أمره إلى خير ، وقد يكون الحادث في هذه الأيام من غلاء وضيق وعنت مؤدِّيًا إلى خير كبير ، قال الله تعالى: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ وقال تعالى : ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ ، فليرضَ المرء بما قدَّر الله له ، فمن رضي فله الرضا، ومن سخِط فله السُّخط ، ألا ترى الطير لا تملك خزائن لقوتها، وليس لها من الرزق إلا ما قدره الله بسعيها ، قَالَ رَسُولُ اللهِ: ( لوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلتُمْ عَلى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلهِ، لرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً، وَتَرُوحُ بِطَاناً) .
لكن!!
النَّفْسُ تَطْمَعُ في الدَّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ * * * أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيْهَا
وَاللهِ لَو قَنِعَتْ نَفْسِي بِمَا رُزِقَتْ * * * مِنَ المَعِيْشَةِ إِلا كَانَ يَكْفِيْهَا
وَاللهِ واللهِ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ * * * ثَلاثَةٌ عَنْ يَمِيْنٍ بَعْدَ ثَانِيْهَا
لَوْ أَنْ في صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ * * * في البَحْر رَاسِيَةٌ مِلْسٌ نَوَاحِيْهَا
رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهَا اللهُ لانْفَلَقَتْ * * * حَتَّى تُؤدِيْ إِلَيْهِ كُلُّ مَا فِيْهَا
أَوْ كَانَ فَوْقَ طِباقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا * * * لَسَهَّلَ اللهُ في الـمَرْقَى مَرَاقِيْهَا
حَتَّى يَنَال الذِي في اللَّوحِ خُطَّ لَهُ * * * فَإِنْ أَتَتْهُ وإِلا سَوْفَ يَأْتِيْهَا