الرحلات البرية والعناية بالبيئة

د. منصور الصقعوب
1445/06/22 - 2024/01/04 08:45AM

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبحلمه وعفوه تكفر السيئات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والخفيات, ورب البريات وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ,  الذي بعثه ربه إلى العباد بشيراً ونذيراً, وقدوةً وإماماً, فجلا الله بدعوته الظلام, وأنار الدرب للأنام , اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحابته الكرام , وسلم تسليماً مزيداً ما توالت الأيام

أما بعد ففي غمرة الضجيج والإزعاج وفي خضم مشاغل الحياة وصخب الأحداث, يجد البعض في خروجه للبراري أنساً وبهجة وإجماماً للنفس لتعود أقوى توهجاً.

هي متعةٌ تمناها الكبراء والعظماء, قال أحد الحكماء: ذقت اللذاتِ كلَها فما وجدت بعد الطاعة ألذ من منادمة صاحبٍ على كثبان الرمل, ورسول الله r كان يبدو للتلاع ويخرج لمسايل المياه كما في الحديث عند أبي داود.

عباد الله: الخروج إلى البراري والقفار, والتأمل في عظمة الخالق في الصحاري والأقطار وسيلةٌ تقضى بها الأوقات, وعملٌ له أصل من فعل رسول الله والسلف الصالح.

ودينُ الإسلام ليس دينَ رهبانية, بل هو دينٌ فيه الجِدُّ والترفيه, وفيه الحزمُ والإجمام, وإنما يَسهلُ قيادُ النفس والانتفاعُ منها أوقات الجدّ, حين يَتعاهد إجمامها الفينة بعد الفينة.

ولا غضاضة أن يعتني المرء بهذا بقدْرِه, بل إن المرءَ حين يقومُ بإسعادِ أهلٍ وولد, أو أم وأب, فهو في عبادة إن احتسب الأجر في ذلك, وهو أولى من انشغاله بصحبه, وترك أهله يتمنون الاستمتاع معه, وفي مقوله r"إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه".

ومع كل هذا فتظلُ الرحلات والسياحة والسفر وسائل لا غايات, وسائل لغاية كبرى, وهي الاستعانة بكل ذلك على طاعة المولى سبحانه, وهل خلق الإنسان, إلا ليحقق هذا الغاية, ويعبد رب البرية!.

وأنت راءٍ من الناس من يجعل مثل هذه الرحلات والسفريات غايات, وفي سبيل ذلك ربما ارتكب محرماتٍ ومنهيات, بدعوى أنه في سبيل ترفيه, أو في لحظات استجمام, أو لأنه خرج من البلد واستقر في البراري, وهنا فكم نحتاج إلى أن يكون لدى المسلم تذكّرٌ لأهداف الترفيه وضوابطه.

الترفيه والإجمام نريد منه تجديدَ النشاط، وتقوية الإرادة, وفي هذا يقول أبو الدرداء «إني لأستجم لقلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق».

الترفيه نريد منه إظهار سماحة الإسلام, وفي هذا يقول رسول الله r حين رأى من يلهون وأقرهم «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني بُعثت بحنيفية سمحة»

نريد منه إسعاد الأهل والصغار, والصغار هُمْ بهجة الدنيا وإسعادُهم يملأ الأجواء سعادة وفرحاً, وإدخالُ السرور عليهم بالمباح من الأمور ينال به المرء الأجر.

 نريد بالترفية تنمية الروح, وإزالة الملل والسآمة.

وكم نحتاج إلى أن نتذكر في أثناء سعينا للترفيه إلى أن يكون ترفيهُنا في حدود الشرع, لا نُضيِّعُ واجباً ولا نلجُ باباً محرماً, وبهذا يَسعدُ المرء ويكون ذلك له لا عليه.

عباد الله: والخروج للبراري فرصةٌ للأب ليربي أبناءه على معاني الرجولة, ويجعلهم يستشعرون قدر ما عندهم من النعم, وقد قال عمر t:اخْشَوْشِنُوا وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَعُّمَ"أخرجه الطحاوي

وهي فرصةٌ لأن نتذكّر نِعَم اللهِ بالمساكنِ, والدفء, والأمن, وهي فرصةٌ لأن نَبعُد عن بعض رفه العيش, ورغد الحال, فإن استدامة ذلك للكبير والصغير تؤثر ولا شك, ولا يعرف قدر النعمة ولو صغرت إلا من فقدها.

وهي فرصةٌ للمرء أن يتأمل في عظمة الله في خلقه, وكيف أبدع صنعه, وكم في البراري من مجالٍ للتأمل في العظمة

الليلُ بنجومه وأفلاكه, القمرُ بنوره وبهاءه, الجبالُ والوهاد كيف أحصى الله حباتِها, الأوراقُ والأشجارُ كيف أحصى أوراقها, الطيور والهوام كيف قدّر أرزاقها, السماءُ كيف رفعها, والجبالُ كيف نصبها, والأرضُ كيف سواها وبالخضرة زيّنها, وفي كل شيءٍ له أية تدل على أنه الواحد.

وهي فرصةٌ لاكتساب الأجر بالأذان والصلاة, ففي الحديث الصحيح " يَعْجَبُ رَبُّكُمْ مِنْ رَاعِى غَنَمٍ في رَأْسِ شَظِيَّةٍ بِجَبَلٍ يُؤَذِّنُ بِالصَّلاَةِ وَيُصَلِّى فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا إِلَى عَبْدِى هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلاَةَ يَخَافُ مِنِّى فَقَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِى وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ"

وفي الصحيح أيضاً" إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة"

وفي مرسل ابن المسيب " من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك فإذا أذن وأقام الصلاة أو أقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال" أخرجه مالك في الموطأ

وكم ترى من الناس من يستهين بالصلاة في البراري, ومن يؤخرها عن وقتها, أو يترك السنن الرواتب فيها, ولو استشعر المرء أن تلك الأماكن تشهد له, وأن الأرض ستُحدِّث يوماً بأخبارها, ومِن أخبارها الطاعاتُ فيها, واستشعر أن الله يراه أينما كان لحرص على ذلك.

عباد الله: وفي البراري وفي الأسفار كذلك نحتاج للتواصي بغض البصر عما لا يحلّ له, وعدمِ تتبعِ العورات, وحين يرفع لك الشيطانُ باب نظرة محرمة, فالموفق من صان بصره, في حلّه وترحله.

وفي البراري وفي الأسفار, نحتاج للتذكير بمغبة أذية المؤمنين والمؤمنات, وأنَّ فاعِل ذلك يبوءُ بإثمٍ مبين, وأنت راء هناك من يؤذي الناس, بتهوره, أو بمضايقته الناس وتسوره, أو تتبعه المحارم, وتلصصه, أو بأصوات غناءه وزمره, ورَبُّ الديار واحد, وهو مطّلع وشاهد, وفي الخبر المروي «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكْرَهُ ‌أَذَى ‌الْمُؤْمِنِينَ»

ومن الأذية الحاصلة أن تترك المخلفات في المكان بعد تركه, فيتأذى الناس بمرءآها, وينحرمون من المكان بوجودها, وما أجمل أن يتمثل المرء هناك قوله r لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" فيدع المكان أفضلَ أو كما كان, قربةُ لله, وإكراماً للناس, وإماطة للأذى.

معشر المسلمين: وكم يحسن أن يُعَوِّد المرءُ نفسه وأولاده الاستعاذة عند النزول, ليكون في حفظ الله عز وجل, وفي الصحيح عن أبي هريرة ط قال: قيل للنبي r: إن فلانا لدغته عقرب فلم ينم ليلته، فقال: ((أما إنه لو قال حين أمسى: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ما ضره لَدْغُ عقربٍ حتى يصبح)) فاللهم احفظنا بحفظك, وعلق قلوبنا بك, اللهم صل وسلم

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى وأشهد أن لا إلا إلا الله عالم السر والنجوى وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اهتدى:

أما بعد: فإذا اقتطع ولي الأمر من وقته وماله جزءاً لإجمام أهله فإنه ينبغي أن يستشعر حينها أنه مأجور في سعيه ومخلوفٌ في نفقته, إذا احتسب الأجر في ذلك.

يا كرام: والخروج للبراري والبعدُ عن المساكن لا يعني أن تتساهل المرأة بحجابها ولا تعتني بسترها, نخرج إلى البر ونرفه عن الأهل ونفسح الأولاد لكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب الستر والحياء, فالمرأة سمتها الحياء والحشمة أينما كانت في برٍ أو بحر, في حضر أو سفر.

عباد الله: وللأرض حقٌّ عليك ولو كانت براري, فقطع الشجر من غير حاجة إسراف, والقضاء على الخضرة بالتهور في القيادة إتلاف, وكذا دخول الشعاب في السيارات تهور وقد يكون فيه إلقاء للنفس في الهلكات.

وبعد: فاحمدوا الله يا مؤمنون, تخرجون وتذهبون في عيش وارف, ورزقٍ دار, وأمن في الديار, تخرجون وأنتم لا تخافون إلا الله, ووالله إنها لنعمة لا تقدر بثمن, فاللهم أدم علينا وعلى المسلمين.

وخاتمة المقال: يا أيها المبارك عش ما شئت, واصنع ما شئت, وارحل حيث شئت, واظعن حيث أردت, ولكن اعلم أن الله يرى, وأن الملائكة تقيد, وأن الأنفاس تمضي, وأن العمر ينقضي, فما تحب أن تراه هناك فاصنعه اليوم

اللهم بارك لنا في أوقاتنا وأعمارنا واحفظ المسلمين في ظعنهم وإقامتهم, .

 

 

 

المشاهدات 1403 | التعليقات 0