الرؤى والأحلام
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسـولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) .. أما بعد:
فإنَّ أحسنَ الحديثِ كلامُ اللهِ تعالى، وخيرَ الهدي هديُ مُحمدٍ صَلى اللهُ عليهِ وسلمَ، وشرَّ الأمورِ مُحْدثاتُها، وكُلَّ مُحْدَثةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضَلالةٍ في النَّارِ.
هَل استَوقَفَتكُم تِلَكَ الأَوصَافُ لِتَعبِيرِ الرُّؤى فِي قِصَةِ يَوسفَ عَليهِ السَّلامُ: (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ)، (أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)، (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ)، والتي يَتبيَّنُ مِنهَا أَنَّ تَعبيرَ الرُّؤى مِنَ الفَتوَى الشَّرعِيَّةِ، ومِن بَقَايَا العُلُومِ النَّبَويَّةِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ: جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ)، ولِذَلِكَ لَمَّا قِيلَ لِلإمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ: أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟، فَقَالَ: (أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ)، فَإذاً .. تَعبيرُ الرُّؤى هُوَ مِنَ الفَتوى الشَرعِيَّةِ فِي الدِّينِ، ولَيسَ لأَيِّ أَحَدٍ أَن يَتَكَّلمَ فِيهَا إلا بِعلِمٍ وتَمكِينٍ.
دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ -شَيْخِ الإمَامِ مَالِكٍ- فَوَجَدَهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ أَمُصِيبَةٌ دَخَلَتْ عَلَيْكَ؟، فَقَالَ: (لَا، وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَا هُنَا أَحَقُّ بِالسَّجْنِ مِنَ السُّرَّاقِ)، فَكَيفَ لَو رَأى رَبيعَةُ رَحِمَهُ اللهُ زَمَانَنَا وَقَد تَكَلَّمَ فِي تَعبيرِ الرُّؤى كُلُّ أَحَدٍ.
أيُّهَا الَأحِبَّةُ .. لَقدْ أَخبَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ بِأَنوَاعِ مَا يَراهُ النَّائمُ فِي نَومِهِ فَقَالَ: (الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: فَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ بُشْرَى مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالرُّؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَالرُّؤْيَا مِنَ الشَّيْءِ يُحَدِّثُ بِهِ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ)، ثُمَّ أَخبَرَنَا بالتَّصرُّفِ الصَّحِيحِ مَعَ هَذِهِ الأَنوَاعِ، فَقَالَ فِي الأَحلامِ الشَّيطَانيَّةِ المُخِيفَةِ والمُفزِعَةِ والمُحزِنَةِ: (الْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ)، ونَهَى عَن الإخبَارِ بِهَا لأَنَّهَا مِن وَسَاوسِ وتَلاعُبِ الشَّيطَانِ، قَالَ أَعْرَابِيٌّ: إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: (لا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ).
وأَمَا حَدِيثُ النَّفسِ فَإنَّهُ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا كَانَ يُفَكِّرُ فِيهِ فِي يَقَظَتِهِ، وَهَذَا مِنْ أَضغَاثِ الأَحلامِ التَي لا تَعبَيرَ لَهَا.
وقَالَ فِي الرُّؤى الرَّبَانيَّةِ المُفرِحَةِ والمُبَشِّرَةِ: (إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يُحِبُّهَا فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا وَلْيُحَدِّثْ بِهَا)، ولَكِنْ أَخبَرَ أَنَّهُ لا يُحدِّثُ بِهَا كُلَّ أَحَدٍ، وإنَّمَا قَالَ: (وَلَا يُخْبِرْ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ)، وَقَالَ: (وَلَا يَقُصَّ الرُّؤْيَا إِلَّا عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ)، فَالمُحِبُّ والنَّاصِحُ يَفرَحُ لِرؤيَاكَ المُبَشِّرَةِ، والعَالِمُ لأَجلِ أَن يُعَبِّرَهَا عَلى الأُصُولِ المُعتَبَرةِ.
وَلَكِنْ أَينَ تَجِدُ العَالِمَ الصَّادِقَ بِتَعبيرِ الرُّؤى فِي ظِلِّ هَذِهِ الفَوضى العَارِمَةِ مِن البَرَامِجِ الفَضَائيَّةِ، وبُثُوثِ وَسائلِ التَّواصلِ الاجتِمَاعيَّةِ، تَعابيرُ غَريبةٌ، وتَفَاصِيلُ مُريبَةٌ، لا يَترُكُ حُلُماً إلا عَبَّرَهُ، ولا رَمزَاً فِيهِ لا فَسَّرَهُ، وَقَد كَانَ ابْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللهُ يُسْأَلُ عَنْ مِائَةِ رُؤْيَا فَلَا يُجِيبُ فِيهَا بِشَيْءٍ، إلَّا أَنْ يَقُولَ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ فِي الْيَقَظَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ مَا رَأَيْت فِي النَّوْمِ، وأَمَا بَعضُ المُعَبِّرينَ فَقدْ صَاروا مِثلَ الكُهَّانِ، يُخطِئُ فِي مائةِ تَعبِيرٍ ويُصيبُ فِي واحِدَةٍ، ثُمَّ يَقُولُ النَّاسُ: أَليسَ قَد قَالَ يَومَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا، فَليَنتَبه مَن أَرَادَ أَن يُعَبِّرَ رُؤياهُ بِالحَذَرِ مِن المُعَبِّرينَ المَجهُولِينَ، والحِرصِ عَلى السُّؤال عن المُعَبِّرِينَ المَوثُوقِينَ، الذينَ ثَبَتَ بالتَّجرُبَةِ وتَزكِيَّةِ العُلَمَاءِ الرَّاسخِينَ، أَنَّهُم مِن أَهلِ التَّعبيرِ الثِّقَاتِ الصَّادِقينَ.
بَارَكَ اللهُ لي وَلَكم في القُرآنِ العَظيمِ، وَنَفَعني وإياكم بِمَا فِيهِ مِن الآياتِ والذِّكرِ الحَكيمِ، أَقُولُ قَولي هَذا وَأَستَغفِرُ اللهَ العَظِيمَ الجَليلَ لي وَلَكَم وَلِسَائرِ المؤمنينَ مِن كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروهُ إنَّهُ هُو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ عَلَى إحسَانِه، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوفيقِهِ وَامتنَانِهِ، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ له، وَأَشهدُ أنَّ محمدًا عَبدُ اللهِ وَرَسولُه، صَلَّى اللهُ عَليهِ وآلِه وصَحْبِه، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثيرًا .. أَمَّا بَعدُ:
أَيُّهَا الأَحِبَّةُ .. مِن الأُمُورِ التي يُعرَفُ بِهَا صِدقُ الرُّؤيا: هُو صِدقُ رَائيهَا، كَمَا قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (فِي آخِرِ الزَّمَانِ لَا تَكَادُ رُؤْيَا المُؤْمِنِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا)، وَهَذِهِ مِنَ الأَحوالِ التي يَحتَاجُ المُعبِّرُ إلى مَعرِفَتِها: مِن حَالِ الرَّائي، والمَكانِ، والزَّمَانِ، وَغَيرِهَا مَما يُسَاعدُ عَلى إصابةِ التَّعبيرِ الصَّحيحِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِن عَظائمِ الذُّنوبِ الكَذَبُ فِي الأَحلامِ، كَمَا جَاءَ فِي الحَديثِ: (مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ).
ويَنبَغي أَن يُعلَمَ أَنَّ عِلمَ تَعبيرِ الرُّؤى ظَنَّيٌّ يَحتَمِلُ الخَطأَ والصَّوابَ، فَهَذا رَجُلٌ يَأتِي لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَيَقُصُّ عَليهِ رُؤياَ رَآهَا، فَقالَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: يا رَسولَ اللَّهِ، بأَبِي أنْتَ، واللَّهِ لَتَدَعَنِّي فأعْبُرَهَا، فَقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ: اعْبُرْهَا، فَلَّمَا انتَهى مِنَ التَّعبيرِ قَالَ: فأخْبِرْنِي يا رَسولَ اللَّهِ -بأَبِي أنْتَ- أصَبْتُ أمْ أخْطَأْتُ؟، قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أصَبْتَ بَعْضًا، وأَخْطَأْتَ بَعْضًا، فَإذا كَانَ أَعلَمُ الأُمَّةِ بَعدَ نَبيِّهَا أَصَابَ فِي التَعبيرِ وأَخطَأَ، فَكيفَ بِغَيرِهِ؟.
وَأَخِيراً: فَإنَّ مِنَ الأَسبَابِ التي سَاهَمَتْ فِي رَوَاجِ سُوقِ المُعَبِّرينَ الجُهَلاءِ، هُو تَهَافُتِ النَّاسِ لِتَعبِيرِ كُلِّ مَا يَرونَهُ رَغبَةً فِي مَعرَفَةِ الغَيبِ والخَفَاءِ، فَيَقَعُونَ بِسَبَبِ التَّأويلاتِ الخَاطِئةِ فِي أَسْرِ الأَمَاني الخَادِعَةِ، ويَتركُونَ السَّعيَّ والعَمَلَ لِتَحصِيلِ النَتَائجِ النَّافِعَةِ، وَقَد أَمَرنَا اللهُ تَعالى بالتَّوكُّلِ وبَذلِ الأَسبَابِ، فَالمَكتُوبُ مَكتُوبٌ لا يُغيَّرَهُ تَعبيرُ كَذَّابٌ.
أَسأَلَ اللهَ تَعَالى أَنْ يُبَصِّرَنَا بِأُمُورِ دِينِنَا وَدُنيَانَا، وَأَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنفَعُنَا، وَأَنْ يَنفَعَنَا بِمَا عَلَّمَنَا، وَأَنْ يَهدِيَنَا وَإيَّاكُم سَوَاءَ السَّبِيلِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا، اللَّهُمَّ إِنِّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ امْدُدْ عَلَيْنَا سِتْرَكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا النِّيَّةَ وَالذُرِّيَّةَ وَالْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْـمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
المرفقات
1737631888_الرؤى والأحلام.docx
1737631897_الرؤى والأحلام.pdf